بعد اغتيال السادات بشهرين، وفي الوقت الذي يتابع فيه الشعب المصري أخبار المحاكمة واعترافات القتلة، بينما لافتات تأييد ومبايعة الرئيس الجديد حسني مبارك تملأ الصحف، من قد يلتفت إلى الأخوين القادمين من لبنان في ديسمبر 1981؟
***
أكتوبر 1966
في أثناء زيارة فيروز والأخوين رحباني للقاهرة في أكتوبر 1966، ذهبت فيروز وعاصي الرحباني إلى الكونسرفتوار ومعهد الباليه ضمن برنامج زيارة المؤسسات الثقافية في القاهرة الموضوع لهم.. في الكونسرفتوار استمع عاصي الرحباني إلى فيوليت مقار ونبيلة عريان، ثم أسمعوه طالبة صغيرة ذات 17 عامًا تغني غناءً غربيًّا أوبراليًّا بصوت قوي سليم.. أعجب عاصي بما استمع إليه وكان هذا كل شيء، وكاد ينتهى الأمر عند هذا الحد، لولا أن الطالبة انسلت من وراء معلمتها مدام جيلان رطل، وذهبت إلى عاصي تخبره بصوت خافت أنها تستطيع أن تغني شرقي أيضًا.. كانت تهمس دون أن يراها أحد لأن الغناء الشرقي كان ممنوعًا منعًا مطلقًا في الكونسرفتوار على طلاب القسم الغربي.. ابتسم عاصي للطالبة، وقرر أنه بحاجة لسماعها مرة أخرى، فطلب منها المجيء إلى فندق النيل حيث ينزل هو وفيروز، ودوَّن اسمها على ورقة معه كي لا ينساه.. كان الإسم: عفاف راضي..
بعدها طلب عاصي من صديقه رجاء النقاش رئيس تحرير الكواكب أن يبعث في طلب الطالبة عفاف راضي، لكي يسمعهوها قبل أن تنتهي زيارتهم لمصر.. أتت عفاف واستمع إليها الأخَوان وأقرا صلاحيتها للغناء وعرضا عليها السفر إلى لبنان للانضمام للفرقة، لكن لم يكن من الممكن أن تسافر عفاف وهي ما تزال صغيرة، ودون أن تكمل دراستها الموسيقية..
من بعد هذه الجلسة التي اكتشف فيها عاصي الرحباني الموهبة الجديدة عفاف راضي، تحمّس رجاء النقاش وقرر تبنّيها صحفيًّا، وبعدها بشهرين– في يناير 1967- أقام رجاء النقاش ندوة في دار الهلال دعا إليها محمد الموجي وصلاح جاهين وحلمي بكر وسيد إسماعيل وسليمان جميل وفؤاد بدوي، وقدم إليهم عفاف راضي ليسمعوا غنائها ويحكموا على صوتها وموهبتها وإن كانت قادرة على أداء اللون الشرقي مع الغربي.. استمع الحضور لغناء عفاف وبعد النقاش أقرّوا صلاحيتها للغناء الشرقي وبصفة خاصة للمسرح الغنائي، وفي نهاية الندوة وقَّع الحاضرون على عريضة تناشد وزير الثقافة د. ثروت عكاشة بالسماح للطالبة عفاف راضي استثنائيًّا بالجمع بين دراسة الغناء الغربي والشرقي في الكونسرفتوار.. كان ذلك قبل أربع سنوات من تبنّي بليغ حمدي لصوت عفاف راضي منتصف 1970..
ديسمبر 1981
منير راضي– الشقيق الأكبر لعفاف راضي– كان يدير أعمال المليونير والمنتج السعودي محمد القزاز، واستطاع إقناعه بفكرة إنتاج مسلسل غنائي من 15 حلقة من بطولة عفاف راضي وإخراج حسين كمال والكلمات والألحان للأخوين رحباني.. وافق محمد القزاز، وعلى الفور بدأ منير راضي الاتصال بالأخوين في بيروت وطلب منهما الحضور إلى القاهرة للاتفاق على التفاصيل..
ترك الأخوان رحباني عروض مسرحيتهما الجديدة “الربيع السابع” دائرة في لبنان، ولبيا الدعوة وحضرا إلى القاهرة في 9 ديسمبر 1981.. كان حضور الأخوين للقاهرة تلك المرة هادئًا خاليًا من التغطية البرّاقة.. اجتمع عاصي ومنصور بعفاف وحسين كمال، واستقبلهما وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان في منزل محمد عبد الوهاب..
في منزل محمد عبد الوهاب أجرى الأخوان حوارًا صحفيًّا طرحا فيه فكرة تمصير إحدى مسرحياتهما الغنائية وتقديمها في القاهرة..
يقول المحاور: لكن بعض المسرحيات مثل “بترا” عُرِض على شاشتنا التليفزيونية؟!
يرد عاصي “كل شي ما بتعرفه جديد.. وسنختار مسرحية لم يعرفها جمهور مصر.. ونحن نطمع في أن يحب الناس في مصر مسرحنا.. وفي تصوري أن نقل مسرحياتنا إلى اللغة العامية يزيد من عدد من يحبونها ويجعلها تصل إلى عدد أكبر من المشاهدين..”
مكث الأخوان لمدة خمسة أيام فقط في القاهرة ثم عادا إلى بيروت في 14 ديسمبر 1981..
فبراير 1982
هل تذكرون المطرب سيد إسماعيل الذي رافق الأخوين وفيروز في زيارتهم لمنزل محمد عبد الوهاب، وقت زيارتهم الأولى للقاهرة 1955؟ يومها قلنا سنعود لذكره مرة أخرى بعد ثلاثين عامًا.. في الحقيقة لم تنقطع الصداقة بين سيد إسماعيل والأخوين وفيروز.. سافر سيد إسماعيل لفترة للعمل في محطة الشرق الأدني في لبنان بعد تعاقد صبري الشريف معه، وهناك توطدت صداقته أكثر وأكثر مع الأخوين..
في رحلتهم الثانية إلى مصر 1966 كان سيد إسماعيل مرافقًا لهم في جولاتهم في القاهرة، ونجد صوره جالسًا بجوار فيروز في ندوة دار الهلال.. أيضًا في رحلة 1976 نجده في حفل تكريم فيروز في مؤسسة الأهرام، يظهر في الصور بجوار عاصي الرحباني ورشدي أباظة ويوسف السباعي وفيروز وكمال الملاخ..
في فبراير 1982 أسس سيد إسماعيل شركة “راندافون” للإنتاج والنشر، ثم سافر إلى بيروت ودعاه عاصي ومنصور لحضور عرض مسرحية “الربيع السابع” على مسرح جورج الخامس.. بعدها تعاقد مع الأخوين على توزيع ونشر أعمالهما في مصر، وبذلك ظهرت في مصر لأول مرة مختارات المسرحيات الرحبانية وأغاني فيروز على شرائط كاسيت بعد أن كانت مقصورة على من يستطيع استحضار الأسطوانات الفينيل من لبنان وأوروبا..
أبريل 1982
كان مشروع المسلسل الغنائي مع عفاف راضي مجرد فكرة، لكن بلا موضوع حقيقي أو شروع في كتابة، لذا مات تلقائيًّا واختفى.. إزاء حماس عفاف راضي للتعامل مع الأخوين رحباني، وفي وجود المنتج محمد القزاز صديق منير راضي والمُحِب للفن، تجددت فكرة تمصير مسرحية “الشخص” للأخوين، وهي فكرة قديمة أعرب عنها منصور الرحباني في أثناء زيارتهم الأخيرة للقاهرة مع فيروز، وقت حفل حديقة الأندلس 1976.
على الرغم من تصريح عفاف في المرة الأولى لحضور الأخوين (ديسمبر 81) أنها ترفض أن تقدم مسرحية قديمة سبق أن قدمتها فيروز، عادت ووافقت بعد تبخَّر مشروع المسلسل، وبعد أن وعدها الأخوان أن يضعا لها ثلاثة أغانٍ جديدة داخل المسرحية..
في 22 أبريل 1982 حضر عاصي ومنصور إلى القاهرة لمدة 48 ساعة لإنجاز الاتفاق.. ستتولى الشركة المتحدة للاستديوهات المملوكة لمحمد القزاز الإنتاج، وسيقوم بتمصير حوار المسرحية الشاعر أمل دنقل.. أجرت الأستاذة عبلة الرويني– زوجة أمل دنقل– حوارًا صحفيًّا مع منصور الرحباني، وقالت له:
– مسرحية الشخص هي دخولكم الموسيقى المسرحي الأول للمتفرج المصري، ألا تعتبرون هذا الدخول محدودًا باستثمار نجاح سابق لمسرحية الشخص، وبغياب فيروز عنكم؟
رد منصور: أخالفك الرأي تمامًا يا سيدتي، فالجمال يجب أن يعمم.. وهذه المسرحية أصبحت تراثًا، فلماذا يُحرَم الشعب المصري منها؟ ونحن نقدمها هنا في صياغة مصرية.. إنه عمل ضخم يتضافر الجميع على وجوده.. محمد القزاز كمنتج متفهم، وصوت عفاف راضي الذي طالما فكر عاصي في التلحين له منذ كانت طالبة في الكونسرفتوار، والشاعر أمل دنقل الذي نقل المسرحية وصاغها بصورة أمينة وجمالية جدًا..
سخن الموقف بعد أن سرت شائعة عن خلاف بين عفاف راضي والأخوين.. اتصلت مجلة الحوادث اللبنانية بمنصور الرحباني للاستفسار، وحاولت المحررة أن تستفزه:
تواصلت المجلة أيضًا مع عفاف راضي، وسألتها عن سر قبولها أن تحل محل فيروز، فأجابت بعد تمهّل:
– في الحقيقة.. أصرّ عاصي ومنصور رحباني على تقديم هذه المسرحية، لأن الإعداد لتقديم مسرحية جديدة يتطلب فترة طويلة، وأنا كنت بحاجة للعمل معهما.. الأعمال الكبيرة يمكن أن تقدم في أي بلد وأي وقت كعمل ناجح نصًّا ولحنًا، وفي رأيي الأعمال الكبيرة ليست ملكًا لفنان بعينه كالأغنية الفردية مثلاً.. والشخص كعمل شامل مثل مسرحيات سيد درويش ومسرحيات شكسبير التي تعرض في لندن باستمرار ويتغير ممثلوها وكالأوبريتات العالمية“.
بعد اليومين عاد عاصي ومنصور إلى بيروت حتى يأتي قرار الرقابة على المصنفات الفنية في مصر بالموافقة على العمل والسماح ببدأ البروفات..
أكتوبر 1982
تأخر البتّ بشأن المسرحية من أبريل حتى يوليو لأن المسرحية بها نقد سياسي جريئ ولاذع.. اعترضت الرقابة على النص المسرحي، وأصرّ الرحبانيان على عدم إدخال أي تعديل أو تبديل، وحاولت الشركة المسؤولة عن الإنتاج تقريب وجهات النظر، واستلزم السماح بعرض المسرحية العديد من النقاشات والأخذ والرد.. في النهاية جاءت موافقة الرقابة، وسمحت وزارة الثقافة بتقديم العرض على مسرح البالون بدلاً من مسرح الجمهورية.. وبسبب الأوضاع في لبنان تأخر حضور الأخوين لمباشرة العمل في المسرحية، وبهذا ضاع الموسم المسرحي الصيفي دون أن تبدأ المسرحية..
وصل الأخَوان إلى القاهرة يوم 5 أكتوبر 1982 وكان في استقبالهما صديقهما الدائم سيد إسماعيل ومنير راضي.. بدأ الأخَوان على الفور مباشرة العمل، فاختارا الكورال فردًا فردًا من دار الأوبرا والكونسرفتوار، والعازفين كذلك للتأكد من مدى الانسجام الصوتي بين المجاميع والموسيقى.. ذهب إخراج العمل للمخرج جلال الشرقاوي بعد ارتباط حسين كمال بإخراج مسرحية “ريا وسكينة” واعتذار السيد راضي.. رشّح عاصي الرحباني الفنان سيد الملاح لدور الشاويش والذي كان يلعبه الفنان وليم حسواني في النسخة اللبنانية، وكان عاصي قد شاهد سيد الملاح على مسرح دار الأوبرا في العام 1966 عندما حضر مع فيروز عرض “هدية العمر“.. اختير محمد نوح للعب دور المحافظ أو المتصرِّف في النسخة اللبنانية، وهو دور الفنان الكبير نصري شمس الدين، والفنان الأوبرالي العالمي د. جابر البلتاجي للعب دور القاضي.. وعرض جلال الشرقاوي دور “الشخص” على كمال الشناوي، ثم عمر الحريري لكن كلاهما رفض، لأن الشخص ومع أنه محور الأحداث إلا أنه يظل صامتًا حتى مشهد النهاية في الفصل الأخير، وفي النهاية أُسِند الدور إلى الفنان كمال ياسين..
في أثناء وجود الأخوين غاب عاصي الرحباني تمامًا عن الصورة، وفي صور البروفات والتسجيل ظهر منصور مع عفاف راضي والمايسترو مصطفى ناجي، وعلى الرغم من ذلك ظل الجميع بما فيهم جلال الشرقاوي يرددون في اللقاءات الصحفية اسم عاصي وكأنهم بذكره يعطون للعمل مشروعية بتصديقه عليه ووجوده معهم..
بقي الأخَوان في القاهرة قرابة الشهر لتدريب عفاف راضى على الألحان والإشراف على البروفات، ثم رجعا إلى بيروت في 28 أكتوبر تاركين التنفيذ للمايسترو مصطفى ناجي والمخرج جلال الشرقاوي، على أن يعودا مرة ثانية في ديسمبر للبروفات النهائية للعرض..
ثلاثة عصافير شمس
قدّم الأخوان رحباني مسرحية الشخص مع فيروز للمرة الأولى في معرض دمشق الدولي في سبتمبر 1968، ثم قدموها في بيروت على مسرح البيكاديللي في فبراير 1969.. قوبلت المسرحية بإعجاب الجماهير والصحافة، ليس فقط لجمالها،ولكن لأنها المرة الأولى التي يدخل فيها الأخوان عالم المدينة ويتركان عوالم الضيعة.. ينصرفان عن القصص البسيطة السحرية والقيم الجمالية الفلسفية، إلى قصص الواقع الملموس والنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع والصريح..
في العام التالي (1970) قدّم الأخوان في البيكاديللي مسرحية “يعيش يعيش” وبعد انتهاء عرض “يعيش يعيش“، وقبل الإعداد لمسرحية “صح النوم” والسفر لتقديمها في معرض دمشق الدولي، أعاد الأخوان مع فيروز تقديم مسرحية “الشخص” مرة ثانية على خشبة البيكاديللي في سابقة نادرة..
تحكي المسرحية عن “الشخص” الذي يرمز للحاكم، الذي يقرر أن يمر بالسوق، فتعد له أجهزة الدولة استقبالًا رسميًا وتخلي السوق ويطرد الشاويش البياعين، وبالصدفة تمر بائعة طماطم بسيطة، فتقف لمشاهدة موكب الشخص، وتقترب منه وتسلم عليه، وتهز يده على الطريقة البلدية وتسأله عن أولاده في بساطة، ثم تغني له بتلقائية.. بعد انصراف موكب الشخص، يستجوب الشاويش البياعة ويتم اعتبار اقتحامها للاستقبال الرسمي جريمة مدبّرة، وتتصاعد الإجراءات حتى تتم محاكمة البنت بتهمة الغناء ويُحكم عليها بمصادرة عربة الطماطم وبيعها بالمزاد العلني..
تدور “الشخص” في قالب بين الواقعية والفانتازيا الهزلية.. واقعية الأحداث والأماكن والنقد الاجتماعي، وفانتازيا الكتابة المسرحية والإخراج.. في مشهد المحاكمة يخاطب القاضي الجمهور مباشرةً ويقول “بما إن الرواية، ما فيها أسامي، اكتفت المحكمة بلقب البنت البياعة” والبياعة تصر على إضافة كلمة “طازة” لمهنة “بياعة بندورا” في محضر الجلسة.. هذه الفانتازيا المتقدمة تمتد أيضًا للممثلين، حيث يغير الممثلون ملابسهم وأدوارهم من مشهد لآخر.. بعض من كانوا بياعين في ساحة السوق في المشهد الأول، أصبحوا ضمن حاشية الشخص بملابس أنيقة، وينضم بينهم منصور رحباني نفسه على المسرح ضمن موكب الشخص.. الفنان إيلي شويري هو بائع الخيار في المشهد الأول، ثم كناس في مشهد الكناسين، ثم أحد وكلاء الإدعاء العام أثناء المحاكمة، ثم أخيرًا هو الدلال الذي يبيع عربة الطماطم.. الفنان مروان محفوظ في الفصل الأول هو السكّير الذي يقتحم السهرة حاملاً زجاجة، ويصيح وهو يتمايل “خلّوها بكرة بتفرج” ثم يغني “بالنجمة وعدتك ونسيت” وفي الفصل الثاني هو وكيل الكناسين في مشهد الكناسين..
بعد انفصال فيروز فنيًّا عن الأخوين رحباني، أعاد الأخوان تقديم “الشخص” للمرة الثالثة في الأردن في العام 1980 مع الفنانة الصاعدة “رونزا” والتي كانت ضمن الفرقة.. صاحبت نسخة (رونزا) اختلافات غريبة ومُربِكة عن نسخة فيروز الأصلية.. هنا نجد البنت البياعة لم تغنِ للشخص بل قام الفنان نصري شمس الدين– وهو يلعب دور المتصرِّف– بغناء “جبلية النسمة“.. ومع ذلك تستمر المسرحية في سياقها القديم ويتم حبس البنت ومصادرة العربة..
في 8 ديسمبر 1982 وصل الأخوان رحباني إلى القاهرة للمرة الأخيرة.. البروفات النهائية للمسرحية تجرى على قدم وساق.. جلال الشرقاوي يصرّح للصحافة أنه يتحدى فيروز، وأن إنتاج المسرحية هذه المرة سيتجاوز النسخة اللبنانية والنسخة الأردنية.. أمّا محمد نوح ذو الروح الثائرة الصعب السيطرة عليها قال “الأعمال الفنية ليست فيها عنصرية.. وللعلم فإن المقارنة لن تكون لصالحنا، ستقارنني عفاف راضي بفيروز، وسأقارَن أنا بنصري شمس الدين.. وفي هذه الحالة إذا نجحت المسرحية فلا فضل لنا فيها لأنها نجحت من قبل.. وإن فشلت فنحن السبب في فشلها، فالظلم واقع علينا لا محالة.. ولكنها محاولة منا للنهضة بالمسرح الغنائي..”.
يوم الافتتاح، 15 ديسمبر 1982، جلس الأخوان رحباني في الصف الأول مع الجمهور وبجوارهما وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان، ووزير الدفاع المشير عبد الحليم أبو غزالة ونائب رئيس الوزراء، بينما قاد الأوركسترا مصطفى ناجي.. قيادة الأوركسترا كانت من أجل مشهد حفل الافتتاح فقط؛ فألحان وأغاني المسرحية جميعها مسجلة.. في العروض التالية لم يكن هناك أوركسترا..
التزمت النسخة المصرية تقريبًا بالنص الأصلي للمسرحية، وغنت البنت البياعة للشخص.. وهنا ظهرت الحاجة إلى أغنية أخرى غير (جبلية النسمة) التي لن يفهمها الجمهور المصري ولن يفلح معها التمصير بالتأكيد؛ لأن فكرة المشهد تعتمد على غناء البنت لأغنية شعبية بما يناسب ثقافتها.. كتب الأخوان لعفاف راضي أغنية جديدة هي “يا وابور الساعة 12″ حيث استخدما المقطع الفلكلوري وبنيا عليه باقي الأغنية من كلماتهما وألحانهما.. أيضًا استبدلا بأغنية “بكرا أنت وجايي” لفيروز أغنية جديدة هي “غرب الجزيرة” واستبدلا بأغنية “سوا ربينا” أغنية “الصاري عالي“.. كانت تلك هي الأغاني الثلاثة الجديدة التي وضعاها خصيصًا لعفاف راضي..
تلقى الجمهور المصري المسرحية كعرض جديد، فلم يكن هناك مجال للمقارنة مع نسخة فيروز لأنها لم تكن معروفة أو متداولة بتاتًا في مصر.. والحقيقة أن تمصير الحوار الذي أعدّه أمل دنقل وعاونه فيه الشاعر شوقي خميس جاء هجينًا مضطربًا، فلا هو احتفظ بلغة الرحبانيين الشاعرية ولا هو مصري خالص خفيف الظل، وليس أدلّ على ذلك من أول جملة تنطقها عفاف راضي في المسرحية، وهي تنادي على بضاعتها وتغني “يا طماطم بندورا” وكان من الممكن الاستغناء عن كلمة بندورا تمامًا مع الاحتفاظ باللحن وتغيير الكلمات، لكن الممصِّر قرر الاحتفاظ بالقافية الأصلية للنص الأصلي (بندورا–غندورة–مغرورة) مع أن كلمة بندورا غير معروفة ولا مستخدمة في مصر.. بل ربما لو تولّى الأخوان تمصير النص بنفسيهما لكانت النتيجة أفضل بكثير، لكنهما أرادا ألا يكون لهما مسؤولية كاملة عن العمل، وأن يكون تدخلهما في صورة ملاحظات، كي لا يقال إن الأخوين رحباني تمصّرا بعد العمر الطويل، وأن يخرج العمل في صورة مسرحية للأخوين رحباني تقدمها أصوات ورؤية مصرية..
نجحت المسرحية في مصر جماهيريًّا ونقديًّا، وحتى الصحافة اللبنانية أشادت بالعمل واعتبرته نصرًا لفن الأخوين رحباني الذي يغزو مصر.. غير أن الأمر لم يسلم أيضًا من بعض النقد الواجب، واللعنة التي ستلازم عفاف راضي لفترة طويلة كلما أجرت حوارًا، فكانوا يسألونها لماذا قبلت أن تلعب دورًا لعبته فيروز واضعةً نفسها هدفًا للمقارنة.. كتب محرر جريدة السياسة نقدًا موجعًا، ولكنه حقيقي لمن يعرف النسخة الأولى للمسرحية “بدا الشخص شخصًا آخر.. فيروز كانت في العمل خلّاقة، عفاف راضي كانت مؤدية.. فيروز كانت تعيش الحكاية، عفاف راضي كانت تحاول أن تمثلها.. الفارق هائل بين نصري شمس الدين ومحمد نوح، وهو أكثر هولًا بين الفرقة اللبنانية ودبكاتها الشعبية وبين ما عُرِض من رقصات.. الأولى كانت شيئًا جماليًّا خارقًا، والثانية كانت شيئًا تعبيريًّا… “الشخص” صُنِعت لفيروز، وإذا أراد الرحابنة أن يعطوا شيئًا مسرحيًّا لغير فيروز، فأبسط ما قالته لهم “الشخص” أعطوا شيئًا جديدًا، لا شيئًا قديمًا المقارنة فيه ليست لصالح المدرسة الرحبانية بشكل عام“.
بعد شهرين من عرض الشخص حدث خلاف بين منير راضي مدير الشركة المنتجة وبين الفنان محمد نوح، وتبادلا المحاضر والدعاوى القضائية، فأسند دور المحافظ إلى الفنان عادل عثمان.. واستمر عرض المسرحية على خشبة مسرح البالون لثلاثة أشهر، من 15 ديسمبر 1982 حتى 15 مارس 1983 بعدها انتهت مدة عقد استئجار المسرح، ولم يُجَدد العقد وتوقفت المسرحية..
سافر الأخوان رحباني وعادا إلى بيروت يوم 19 ديسمبر 1982 بعد الافتتاح بثلاثة أيام، بعد أن اطمئنّا إلى نجاح المسرحية والنص.. كانت مسرحية “الشخص” المصرية هي آخر عمل يخرج حاملًا اسم الأخوين رحباني.. بعدها دخل عاصي الرحباني في حلقات من الصمت الطويل والكلام القليل حتى وفاته في 21 يونيو 1986..
هاتوا القلم والدواه.. أكتب لحبيبي دوا..
احنا ابتدينا الهوا.. واحنا انتهينا..