حين بدأت حياتي الفنية كان رمسيس يونان أسطورة، أسطورة ترتبط بالمرسم الذي استأجرته ببيت الفنانين بدرب اللبانة، درب اللبانة الذي اكتشفه رمسيس يونان؛ ولم يكن المنزل حين استأجره سوى أطلال وخراب، فأخذه يزيل الأتربه عنه حجرة فحجرة. وحينما كان يتم تنظيف إحدى الحجرات كان يأتي بصديق أو زميل له ليقطنها حتى أصبحت الحركة التقدمية الفنية والفكرية والأدبية في مصر تقاد من هذا المنزل، وأصبح ساكنوه روادًا للحركة التقدمية والسوريالية في مصر.
وأذكر من هؤلاء الرواد لويس عوض وحسن التلمساني وكامل التلمساني وعبد الحميد الحديدي وأنور كامل وعادل كامل، الذي كتب بعد ذلك رواية طويلة عن هذه المجموعة وهذا المنزل سماها مليم الأكبر. أصدروا مجلة التطور سنة 1940 كان رئيس تحريرها أنور كامل. ولم تمض شهور على إصدار هذه المجلة إلا وأصدروا مجلة أخرى وهي المجلة الجديدة. حررها رمسيس مع مصطفى كامل منيب وأنور كامل وغيرهم.
أخذت حجرات الدار تضج بالحياة يومًا بعد يوم. وما لبث أن انضم إلى هذا الرعيل الأول رعيل ثانٍ؛ وهم عبد القادر التلمساني وخضر وعادل أمين وكامي زهير وأحمد زهير ومحمد عوده ولطفي الخولي وإبراهيم عامر. ولكن حين قطنت هذا المنزل كان كل شيء جذوة تحت الرماد. تشتت الرفاق وبعثرتهم رياح سنة 1946 واعتقالات صدقي باشا الواسعة النطاق. فهاجر رمسيس شبه منفي إلى باريس سنة 1947 واحتوى السجن بعضهم وتشتت الباقي. فذهب عوده وكامل زهير وإبراهيم عامر إلى الهند ليعملوا هناك، وصمتت تلك الجدران السميكة القائمة في درب اللبانة عن كل شيء. ولكن ثرثرة هندية “بوابة البيت” ما كانت تنقطع. “الصورة دي بتاعة رمسيس ولكنها كما تراها لم تتم”، “الكتاب دا والله مش عارف بتاع مين أظنه بتاع إبراهيم عامر”، و”رأس التمثال الأنتيكة دا اشتراه حسن التلمساني وأعطاه لاشتاسن”. أو كانت تصرخ في وجهي “لا تصيح هكذا، فرمسيس يونان الله يمسيه بالخير كان يريد دائمًا حين يرسم أو يكتب أن يخرس المنزل كله كالقبر”.
تعيش مع ذكراهم وتتحدث عنهم راوية ذكرياتهم. كيف أنها باعت أساورها الذهبية لتدفع الكفالة لـ(س)، أو كيف أنها قضت ليلة بأكملها تشغل الفرن بكل أوراقهم ومسوداتهم ومذكراتهم وكتاباتهم متظاهرة أنها تخبز ولكن “نار الورق المكتوب ما تسويش عيش” كما كانت تقول. وما كانت هندية تعلم أن هذه الكتابات قد فعلت شيئًا فعلاً، لقد أنضجت الجيل الذي تلاهم أسرع مما كان يتوقع أحد وإن كان أحد يتهمهم بأنهم أخذوا من الفنون الغربية، وتأثروا لكتابات الكتاب المعاصرين الغربيين فما من فنان أو فن طوال مراحل التاريخ المختلفة إلا وتأثر بغيره، ويكفيهم فخرًا وعلى رأسهم رمسيس أنهم بشروا بالقيم الجديدة في الفن في ذلك الوقت الذي بشر بها بريتون وأبولنير وبيكاسوا وكيركو وغيرهم في الخارج في الوقت نفسه وبالحماس نفسه.