حين فتح عبد الوهاب فمه للكلام لا للغناء
أحداث هذه القضية وقعت في 1960… وأبطالها هم: محمد عبد الوهاب وصلاح عبد الصبور وإحسان عبد القدوس من جهة، وعلى الجهة الأخرى محمد البحر، ابن الشيخ سيد درويش. كانت البداية حين أجرى الشاعر صلاح عبد الصبور حوارًا صحفيًّا مع محمد عبد الوهاب لمجلة روز اليوسف في العدد 1655 الصادر في 29 فبراير 1960 . وكان الحديث، في معظمه عن شوقي وسيد درويش… في البداية سأله صلاح عبد الصبور “على حياتك ظلّ رجلين كبيرين، شوقي وسيد درويش، ماذا أخذت منهما؟ فتحدث عبد الوهاب عن أحمد شوقي ودوره المهم في حياته الشخصية، ثم عدَّد مآثر سيد درويش على الغناء العربي، فقال إنه حوَّل الغناء من تركي ممطوط نائم إلى غناء عربي يقظ، وفتح للموسيقى آفاقًا جديدة… وفي وسط الكلام قال نصًّا “لو عاش سيد درويش لما فعل أكثر مما فعل، لأنه لو عاش لانطمس عقله من كثرة السُطَل، فقد كان يأكل المخدرات ثلاث أيام ويؤلف ثلاثة أيام، ولو عاش لقضى بقية حياته مسطولًا، وقد رأيت سيد درويش وهو يأكل ملعقة كوكايين حين كان كل الناس يشمون منه مجرد شمَّة.. وسيد درويش كان يأكل المخدرات لينام، وينام لينتج ويكافئ نفسه على الإنتاج بأكل المخدرات…”!
في تقديمه للحوار يبدي صلاح عبد الصبور إعجابه بشخص عبد الوهاب، فهو شخصية ذات طعم، وطعمه مثل طعم موسيقاه.. كقطعة الحلوى المرشوشة بالسكر، السابحة في الشربات! ويضيف أنه “رجل ذكي جدًا، وعقله مرتب.. وكلماته منتقاة“، ومعنى ذلك أنه فكر فيما قاله، ومع هذا قاله، وهذا لم يعجب محمد البحر، ورأى أن محمد عبد الوهاب بحديثه عن تعاطي الشيخ سيد للكوكايين قد قصد التحقير والنيل من سمعة الشيخ سيد درويش وأسرته من بعده، وأنه ينطوي على قذف وطعن يجلب عليه وعلى عائلته ما يوجب الاحتقار بين أهل الوطن.
الأمة المصرية سائرة إلى التهلكة
قبل القضية الغريبة، هناك نقطة مبدئية، إذ لا يمكن أن نتحدث عن تعاطي سيد درويش للمخدرات دون أن نعود إلى عصره ونضع الأمور في سياقها الزمني؛ وقتها لم يكن تعاطي المخدرات ممنوعًا في القانون، بل كان أمرًا شائعًا ومألوفًا، وكانت شفيقة القبطية تتعاطاه، ومن يعود إلى المراجع المعتبرة في هذا الموضوع؛ ومن أهمها كتاب الدكتور عبد الوهاب بكر “الجريمة في مصر” سيجد أرقامًا مذهلة عن حجم الإتجار والتعاطي، لدرجة أن العمال كانوا يتقاضون أجورهم في بعض الأحيان كوكايين وأفيون، ومعظم حالات الوفاة كانت بسبب التعاطي، وكان الهيروين والأفيون وغيرها من المخدرات تباع في الأجزخانات بشكل علني، إذ كانت تستخدم لأغراض طبية، وحتى عندما بدأت الحكومة في تقنينها كانت العقوبات في بداية الأمر غير رادعة بالنسبة للمصريين، أما الأجانب فلم تكن عليهم عقوبات من الأساس. والثابت أن الكوكايين لم يكن من المخدرات المنتشرة في مصر قبل 1914، ويقال إن أحد المهربين اليونانيين أدخله إلى مصر بحلول نهاية الحرب الأولى، فراح أبناء الطبقتين العليا والمتوسطة يتعاطونه، وظل الأمر كذلك حتى انتبهت الحكومة المصرية إلى فداحة الأمر، فصدر في 20 مارس 1929 قرار مجلس الوزراء بإنشاء مكتب مكافحة المواد المخدرة، وهو الأول من نوعه في المنطقة، وكان تابعًا لحكمدارية البوليس بالقاهرة، وضم، في مقره الكائن بالعتبة الخضراء، موظفين مصريين وأجانب. وفي رسالة أرسلها حكمدار القاهرة إلى صحيفة الأهرام ونشرت في 15 سبتمبر 1924، يحذر بشدَّة من الخطر الفادح للسموم البيضاء، مثلما كان يطلق عليها آنذاك “إن الأمة المصرية سائرة إلى التهلكة من جراء تعاطي الكوكائين… من في القاهرة لا يعرف عشرات الشبان الذين قضى عليهم الكوكايين صحيًّا أو أدبيًّا“.
اشمعنى يا نُخ.. الكوكايين كخ؟
في كتابه “مما جرى في بر مصر“، دار الشروق، 2007، يروي الكاتب يوسف الشريف ما حكته له المطربة حياة صبري؛ تلميذة سيد درويش وملهمته، التي قيل إنه تزوجها، وقالت هي إنها لم تتزوجه، عن أن الشيخ سيد كان بالفعل يتعاطى الكوكايين أحيانًا “كان ساعات بيشم كوكايين.. لكن لكي يستطيع السهر لما يكون عنده شغل، مش عشان المسخرة، ولما قرف من الكوكايين طلقة بالثلاثة، وكان دايما يغنى مونولوج الكوكايين خلاني مسكين “. وأغلب الظن أنها كانت تقصد مونولوج الكوكايين الذي غناه سيد دوريش وكتبه بديع خيري؛ لأن مونولوج “الكوكايين خلاني مسكين” منسوب للفنان حسن فايق، الممثل والمونولوجست 1998-1980، وأنتج في 1922 من ألحان يوسف وهبي، وفي مطلعه “شم الكوكايين خلاني مسكين.. مناخيري بتوِّن وقلبي حزين.. وعينيا في رأسي رايحين جايين“، أما أغنية الشيخ سيد فهي مديح في الكوكايين ودفاعاً عنه:
اشمعنى يا نُخ؟
الكوكايين كخ
دا أكل المخ
هلكنا اعمله على غيرنا
رايح لي تطخ وجاي تبخ
شات أب هو أنت شريكنا حتى في مناخيرنا
إيش عرفك أنت يا دونكي
المدعوقة دي بخنفتها بتكلفني كوكايين كام في ليلتها
ياما راح قناطير جواها من القزايز إياها
صحة ما صحة
لا إله إلا الله ها ها.. هاهاااا
راحت مورتوم
العايز أهبل ياخواجة زنفل
يروح أبو زعبل
وأبوها علشان تنشيقة
ولا خمسة جرام ولا عشرة جرام بيقضوا
أخوك دا أنا اشطب على ميت فابريقة
مش غايته الجيب حاينفض إيه يعني؟
المخ يأكسد إيه يعني؟
نشمه أبيض.. يطلع أسود
ياما حُكما وأجزاجية
ياما حانوتية وطربية بقوا أغنيا على حس الكوكاينجيه
إيه إيه إيه شوف الدنيا
ما بقينا صمُّ بكمُّ عُميٌ
تررم بيررم يا فندي البيجي بيجي بيجي
من السما احنا وقعنا لك وأنت استلقيتنا
يا مصلحة الجمارك الحقينا
تنشيقة ورا تنشيقة
حانموت ميه ورا مية
وآخرتها تربيت تيتيتي ع العباسية
حوشيني يا امه ع العباسية
حوشيني يا امه ع العباسية
يا مناخيري طولت شوية
دي مناحيري طولت شوية
هل من الممكن أن نطلق على تأثير الكوكايين “سُطَل“؟ وفقًا لفرويد، لا يشعر متعاطي الكوكايين أن مناخيره طولت شوية “تشعر معه بالسيطرة على النفس، ويمنحك حيوية وقدرة على العمل، ويجعل الشخص الخجول أكثر جرأة، وينمي مهارات الجدل، ويجعل من الشخص الضعيف قويًّا“.. وهو ما يختلف تمامًا عن السُطَل الذي من بين عوارضه فقدان الانتباه والتراخي… وقد كان للسُطل نصيب في أغنية أخرى لسيد درويش؛ وهي أغنية الحشاشين “ياما شاء الله ع التحفجية، أهل اللطافة والمفهومية.. اجعلها ليلة مملكة يا كريم.. دا الكيف مزاجه إذا تسلطن أخوك ساعتها يحن شو شو شوقا.. إلى حشيش بيتى نيتى نيشى.. اسأل مجرب زي حالاتي.. حشاش قرا قرارى يسفخ يوماتي خمسين جراية.. ستين.. سبعين“..إلخ، والقصد أن المزيكا والمزيكاتية لا يسلمون من هذا الربط بين الفن والمخدرات، فما الذي تصنعه المخدرات في الروح يجعلها لازمة للإبداع؟
المرافعة العصماء
وكان الكاتب الصحفي لويس جريس قد نشر في مجلة صباح الخير في مايو 1961 تحقيقًا عن القضية نشر فيه تفاصيل مرافعة محامي المتهمين جمال العطيفي، (1925- 1983) – وهو قانوني بارز صار لاحقًا وزيرًا للإعلام، كما أنه صاحب مشروع دستور 1971. كما لم يترك رسامو الكاريكاتير هذه القضية دون أن يضعوا بصماتهم عليها، فرسم حجازي صورتين؛ إحداهما لمايسترو أمام فرقة كل من فيها يحملون أجهزة الشيشة، أما الثانية فهي لعبد الوهاب يقف أمام مسرح وخلفه لافتة عليها اسم مسرحية “الباروكة” لسيد درويش، وعبد الوهاب يقول “ناس مش مؤمنين بالتطور اللي حصل في المزيكة يا أستاذ… ليه يعرضوا على المسرح حاجة قديمة كده… مش كان المفروض يعرضوا حاجة جديدة زي ساكن قصادي وبحبه مثلًا“.
القضاء كان له رأي آخر… دفاعًا عن المتهمين، أمام محكمة جنح العطارين، قال العطيفي في المرافعة “إن ما ينسبه المدعي إلى المتهمين هو القذف في حق شخص ميت أصبح ملكًا للتاريخ، وسيد درويش شخص عام دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وقد كان في حياته كما هو بعد مماته ملكًا لجمهوره الذي عشق فنه. وأصبح في حوزة الجمهور والرأي العام ويجوز نقده وتناول سيرته الخاصة ما دام الناشر قد التزم الصدق والحقيقة. واستطرد العطيفي “الشخص العام هو الذي تصدر منه تصرفات تنم عن رغبة في الظهور في المجتمع، وأن يكون قدوة للتصرف تتطلع إليه الناس وتترسم خطاه وتهتم بسلوكه، ومثل هؤلاء الأشخاص قبلوا سلفًا بتصرفاتهم أن تتحدث عنهم الصحف وأن تنتقدهم، وما دام النقد قد أورد واقعة ثابتة غير منكورة فليس هناك لوم على الصحفي الذي نشر الحوار مع عبد الوهاب أو رئيس التحرير الذي أجاز النشر، فمتى أصبحت الواقعة مشهورة معلومة وكانت متعلقة بشخص يهم الجمهور أصبح من حق الصحفي أن يتعرض لها… إن سيد درويش الفنان ليس بعيدًا عن النقد، وحياته الخاصة لا يمكن أن تكون منفصلة عن إنتاجه الفني، فالعوامل الشخصية قد لعبت دورها في إنتاج سيد درويش وتفاعلت معه، وسيد درويش مثل غيره من الفنانين في كل بلدان العالم فنان عام من حق التاريخ عليه أن يقول فيه كلمة الحق، ومن حق التاريخ ألا يحجب عن الجيل الحاضر والأجيال المقبلة المؤثرات التي أثَّرت في إنتاج هذا الفنان العظيم والنزوات، التي لو لم يكن قد تردى فيها لكثُرَ ما خلفه من تراث، ومن حق التاريخ ألا يحرم من تقديم عظته للأحياء مستخلصة من سيرة الأموات“.
وذكر العطيفي عدة حالات مشابهة لما حدث مع سيد درويش؛ فاستشهد بالقضية التي رفعتها حفيدة الكاتبة الفرنسية جورج صاند على أحد الكتاب لأنه نشر مقالًا جاء فيه “ليس من المستطاع حصر عشاق جورج صاند، سواء من عشقتهم في شبابها أو في شيخوختها، المعروفين منهم بطبيعة الحال دون المجهولين“، لهذا قضت المحكمة برفض الدعوى على أساس أن الكاتب لم يتجاوز حدود النقد الأدبي والتاريخي، وأن حياة جورج صاند موضوع بحوث عديدة. وعليه أصدر القاضي عبد الحميد شمس الدين حكم البراءة، وأصدر حيثيات الحكم في هذه القضية في 45 صفحة… وكان من أهمها:
– من المقرر أن للتاريخ حق سرد وتقدير ما جرى في حياة الأشخاص العموميين من وقائع تهم المجتمع، وإذا كان صحيحًا ما يقال إن الحياة الخاصة ملك للفرد حال حياته فإن هذا المبدأ لا يسري على التاريخ بعد وفاته.
– القانون لا يحمي التصرفات، لأن تصرفات المرء هي الرصيد الذي تتكون منه سمعته في باب الموهبة والجدارة.
– المرحوم سيد درويش من عباقرة الموسيقيين في الشرق، وقلما يجود الدهر بمثله، ولكن من حق التاريخ ألا يحجب عن الجيل الحاضر والأجيال المقبلة المؤثرات التي أثرت في إنتاج هذا الفنان العبقري والنزوات التي لو لم يكن قد تردى فيها لزاد من ألفه من تراث.
– الواقعة التي نسبت إلى سيد درويش واقعة معلومة لأغلب الناس، ولم يكن المتهمون أول من يذيعها.
وهكذا أُغلقت قضية شغلت الرأي العام كثيرًا، والطريف أنه في وقت صدور الحكم قدمت إحدى دور السينما بالقاهرة فيلمًا يروي المحاكمة التاريخية للكاتب المسرحي أوسكار وايلد، وكان الفيلم يتعرض صراحة للتوجه الجنسي المثلي عند أوسكار وايلد.
الغريب أن رأي عبد الوهاب إجمالًا في فن سيد درويش واضح وقطعي وفيه اعتراف بالفضل والأستاذية؛ ولا مجال للاعتقاد بكونه يهين الشيخ سيد، أو يقلل من شأنه بأي حال؛ وقد سبق وكتب عنه عدة مقالات، وذكره في الكثير من المناسبات؛ منها مثلاً ما جاء في مذكراته الشخصية “سيد درويش هو الذي جعلني أستمتع عند سماعي الغناء بحسِّي وعقلي، بعد أن كنت قبله أستمتع بحسي فقط، إنه فكرة العصر التي لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقية للأعمال المسرحية“. وفي مقال منشور في مجلة الكواكب عام 1949 كتب عبد الوهاب عن سيد درويش تحت عنوان “لو عاش سيد درويش” ذاكرًا أن الشيخ سيد “هو أول من وضع أسس النهضة الأولى للموسيقى المصرية، وهو أول من لفت العقل إلى المعاني بعد أن كان الغناء قبله مجرد إظهار مهارة المغني في أداء النغمات، واتجه إلى الطوائف الشعبية المختلفة فوضع لها في غنائه تعبيرات واصطلاحات“.. ثم أكد في مقاله إلى الموضوع الأصلي، وهو لو عاش سيد درويش هل كان سيتأثر بالموسيقى الغربية كما فعلوا هم، وهل كان سيدخل أساليب جديدة مقتبسة من الغرب؟ وأجاب بأن سيد درويش مبتدع لا يقبل أن يقتبس أسلوبًا واتجاهًا، ولا يقبل أن يطعِّم إنتاجه الموسيقي بأي أسلوب أو اتجاه سبق لغيره أن طرقه، لذا يصعب علينا أن نقرر قبوله للاقتباس الفني لو كان حيًّا…”.