التاريخ شكجمية كبرى مرصعة… أحيانا يطمع فيها اللصوص ويسرقون بعض ما فيها… وأحيانا تبقى الجواهر فيها إلى الأبد… لكن ما الأبد؟ إلى متى يدوم الأبد الذي نسمع عنه دائمًا؟
في شكجمية التاريخ ملوك وأنبياء وراقصات ولصوص وقوادون وقطًاع طرق ومطربون، وطبعًا مطربات، يعرفهم الناس، ولا ينقطع ذكرهم، ومنهم من يختفي بلا أثر؛ فمتى يصير الواحد خالد الذكر، ومتى يتلاشى في بئر النسيان كمن لم يكن؟
في هذه السلسلة الجديدة على مدينة، ننبش في الذاكرة القريبة، ونخرج قائمة طويلة لمطربات كن ملء الأسماع، لكن اختفين… ماذا تعني قريبة؟ قريبة نسبة إلى أي شيء؟! هناك مشاهير محتهم الذاكرة وهم على بعد عشرين أو ثلاثين عامًا فقط…
أحوال الموسيقى
قبل العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لم يكن هناك سبيل للاستماع إلى الغناء إلا بحضور الحفلات الحية أو العروض المسرحية، أو في البيوت المستريحة التي تملك بيانو أو عودًا… المهم، في تسعينيات ذاك القرن تطور جهاز تسجيل الصوت واستعادته؛ الفونوجراف، قرص القصدير السحري المستدير، الذي اخترعه، من بين اختراعات كثيرة، توماس أديسون في 1877، وظل هذا الاختراع العجيب قيد التطوير إلى أن أصبح شائعًا. في بدايته استخدم الفونوجراف لتسجيل البيانات والأوامر الرسمية، ومع الوقت وجدت فيه الموسيقى، والغناء بطبيعة الحال، وسيطًا مناسبًا لتخليدها… وقد أحدث الفونوجراف وتقنيات التسجيل نقلة خطيرة في تسهيل الاستماع إلى الموسيقى واستعادتها في أي وقت، لمن استطاع إلى امتلاكه سبيلاً…
في القرن العشرين، تنوعت الموسيقى، وتطورت تطورًا كبيرًا، بدأ في القرن السابق، اختلفت أشكالها، وتنوع الذوق، وعُرف موسيقيون ومطربون، وصار لهم جماهير في كل مكان، بداية من مؤدي الموشحات الأندلسية، مرورًا بالأدوار والطقاطيق والوصلات الغنائية، التي لم تخل من الارتجال، حسب قدرات المطرب أو المطربة… وصولاً إلى الأغنية بشكلها الذي ظهر في بدايات القرن العشرين.
لم يكن ظهور الشيخ سيد درويش عابرًا في تاريخ الموسيقى في تلك الفترة، وحتى الآن. الشيخ سيد المولود في 1892، يعرّف دائمًا بأنه خالد الذكر، فهل تتحدى اللغة التاريخ وتعلن أنه لن ينسى إلى الأبد؟ لن نستطيع أن نجيب إجابة قاطعة، لأننا لن نكون هنا إلى الأبد… أكمل الشيخ سيد ما بدأه عبد الرحيم المسلوب، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، وغيرهم. وتوفي في 1923، شابًا، بأسباب غامضة. تاركا إرثًا عاش عليه الموسيقيون لفترة لا بأس بها بعده…
في الفترة منذ بداية القرن، العشرين، وحتى منتصفه، ظهرت أصوات ملكت المجد، وعرفها القاصي والداني، خصوصًا بعد ظهور الإذاعة، اختراع آخر عجيب، يأتي إليك بالأصوات إلى بيتك أو مقهاك… ظهرت الإذاعة في مصر في 1925، وبدأت بإذاعات أهلية يملكها هواة “مستقلون” قبل أن تنطلق الإذاعة الرسمية في منتصف الثلاثينيات، لتملك الدولة أثيرها الخاص… وكان للإذاعة أثر يفوق بمراحل ما كان للفونوجراف والأسطوانات الأصغر، وصلت إلى كل مكان، وكرست أصواتًا، وتحطمت في مؤشر الشهرة الدوار…
دعمت الإذاعة ذيوع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان وعبد الغني السيد، وغيرهم. وهو ذيوع بدأ قبل انتشارها…
ويبدو أن الذوق العام للموسيقى والغناء قد تغير فيما بعد 1952، لذا لم يصمد إلا قلة من المكرسين المخضرمين… طور عبد الوهاب نفسه، وحتى اللحظة الأخيرة، وجددت أم كلثوم دمها بملحنين أكثر شبابًا، واعتزلت ليلى مراد لأسباب غير محددة… ووقع الكثيرون والكثيرون في تلك الفترة الرخوة… ضاعوا في فترة الانتقال… من وجد إكسير الحياة استمر ومن لم يستطع أكلته الغولة!
هذه السلسة عن هؤلاء المطربات تحديدًا؛ اللائي أكلتهن الغولة، فاختفين بعد مجد وذيوع…