في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
لا تنظر تحية كاريوكا لأحد من جمهورها وهي ترقص؛ كانت نصيحة من بديعة حين لاحظت ارتباكها من مزحة “زبون” سمج. بديعة علمتها “لا تنشغلي بغير رقصك..”. جاءت هذه النصيحة من أستاذة فنون الاستعراض التي
كان أنفها الكبير يغطي على جمالها القديم؛ المزيج المدهش التركيب من المحظيَّة وفنانة العروض الغربية. بديعة هي الأم الثانية لتحية بعد الهروب. وهي كذلك أم نفسها؛ في ولادة اجتماعية في منطقة بين المغامرة والحذر. وهي صفات عمومية ولد فيها “المقاتل من أجل وجوده” في فترة ما بين الحربين. كانت الحرب الأولى تسمى “العظمى” باعتبارها فريدة في ضخامتها؛ لكن عندما قامت الثانية كانت التسمية أقل انبهارًا بضخامة التدمير؛ فمال الكتَّاب وقتها إلى إطلاق تسمية “العالمية”. أما فترة بين الحربين فقد شهدت مسارات جديدة على مستوى الفن والفلسفة والثقافة والسياسة والأفكار، وفي اختيارات شخصية بعيدًا عن “الكتل بتركيبتها القديمة”: العائلة… والمجتمع بتركيبته العشائرية أو القبلية أو المنتمية إلى مناطق مغلقة… والمجتمع القديم لفنون الموسيٍقي والرقص.
نقلت السينما التعامل مع الفنون إلى منطقة أخرى. أضيفت التكنولوجيا إلى الخيال الذي يفكر في المستقبل؛ الآلة لم تعد يدوية، بل تدخلت قوانين الفيزياء وخيالات المغامرين من أجل صورة متحركة. لم تعد الصورة مجرد إطار لاقتناص لحظة خالدة. بل مجال لحكايات من نوع جديد. وأبطال عابرين من زمن الأقدار إلى زمن الاختيار. اتسعت في الانتقال شريحة الباحثين عن وجودهم خارج “مجال الطمأنينة القديمة”، ولم تعد البطولة تقتصر على أفراد قلة، لكنها أصبحت سمة عصر يقاوم الفناء الذي أنتجته علاقات قديمة بالقدرات على العثور على حيازة جديدة علي يسار الخراب. المغامرون من هذا النوع لم ينظروا يمينًا أو يتوغلوا في حياتهم القديمة، لكنهم بحثوا عن “مساحات” أو “حيازات” جديدة يبنون فيها أماكنهم للمستقبل.

في العدد نفسه مقال عن “الأرستقراطية الجديدة: أبطال الرياضة والسينما”؛ مصحوبة بعنوان فرعي “المرتبات الضخمة التي يتناولها هؤلاء الأبطال”.
يقول الكاتب في المقال :”إذا كان المقام الاجتماعي للطبقات يتوقف على مقامها الاقتصادي، وإذا كانت الكرامة الاجتماعية تنتج عن الكرامة الاقتصادية، فليس هناك شك في أننا نرى أرستقراطية جديدة لم يكن لآبائنا عهد بها، وهذه الأرستقراطية الجديدة تتألف من رجال التمثيل السينمائي ونسائه ومن رجال الألعاب المختلفة؛ فقد ظهرت صناعة التمثيل السينمائي حديثًا ولكنها تغلبت على سائر الصناعات الأدبية والفنية، فصارت تجذب إليها أبرع الأشخاص من الجنسين وأجملهم.. وإذا كان الناس منذ 30 أو 40 سنة يهرعون لرؤية أمير أو نبيل في عربته الفخمة تجرها الجياد المطهمة فإنهم الآن ينهالون من كل صوب إذا سمعوا أن أحد أبطال السينما سيمر من إحدى المدن. وأعظم ما يناله الوزير الإنجليزي من المرتب هو 5000 جنيه في العام، ولا ينال رئيس الولايات المتحدة في العام سوى 15000 جنيه، ولكن هذا المرتب تحتقره نجمة أو نجم السينما، حيث يبلغ المرتب أحيانًا 70000 جنيه أو أكثر في العام”.
لا أعتقد أن مثل تحية كاريوكا يمكن أن تتملص من سيرتها مع الرقص فهي “كانت شعارًا لكل ما هو غير خاضع للإدارة والضبط والانضواء في ثقافتها” كما وصفها إدوارد سعيد عندما كان يراها أسطورة من أساطير شبابه في أربعينيات القاهرة.. كانت سحرًا كاملًا لمراهق ابن رجل طموح قادم من فلسطين ليشق طريق الثروة والصعود الاجتماعي في القاهرة “التي كانت وقتها مدينة “كوزموبوليتانية”.. أي متعددة الثقافات.. مدينة هي مركز الحركة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والفن.. ومكان العبور بين العالم القديم الذي انهار مع الحرب العالمية الأولى والجديد الذي دفعته الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة النضج. في هذا المناخ كانت “تحية” ثورة في الرقص الشرقي بل أنها كانت على وشك دخول بوابة المجد في هوليوود لكن قيام حرب فلسطين أعادها على الفور؛ كما تقول الأساطير الشائعة عنها ، لكن الوقائع أكثر تعقيداً و تعود إلي شعور بالإضطهاد ، سنعود إليه بتفصيل أكثر . لكن ما يمكن الإشارة إليه هنا أنها كانت في هذا الوقت مزيجًا من (العالمة) و(الراقصة) بالمفهوم الحديث الذي وضعت أساسه فنانة قادمة من بلاد الشام هي “بديعة مصابني” افتتحت صالة ونقلت الرقص من مهنة في إطار الإحتفالات الإجتماعية أساسًا.. مكانها شارع خاص.. إلى حالة فنية أقرب للاستعراض، ومن المؤسسة القديمة في حي العوالم إلى مؤسسة حديثة تدير علاقتها مع صناعات أقوى في المسرح والسينما، أصبحت العالمة نجمة بمفهوم جديد. والعالمة أساسًا تعني الراقصة التي وصلت إلى رتبة القيادة تتحرك حولها جوقة من العازفين غالبًا من الرجال.. وفريق من الراقصات المساعدات.. ورجال مخنثون يلعبون دور الصبي أو النائب.. العالمة هنا لها سلطة الرجال.. وفتنة النساء.. كائن مختلف تمامًا قادم من عالم الواقع إلى عالم الفانتازيا الاجتماعية؛ تدخل البيوت في احتفالات الزواج السبوع والطهور والختان.. تدخل المكان في وضع استثنائي وتخرج منه ليعود إلى ما كان عليه. في شارع محمد علي كانت السطوة للعوالم: هن سلطة الشارع والشارع هو مكانهن الأقرب إلى بيت كبير واسع مفتوح على بيوت صغيرة.. هذا العالم يندثر الآن ولا تبقى إلا صور للعوالم المعتزلات ورائحة ما تزال عالقة بمكان حكمته النساء إلى جانب صوره العالقة في الذاكرة من روايات نجيب محفوظ وأفلام كثيرة، أشهرها “خلي بالك من زوزو” الذي لعبت فيه دور البطولة كل من تحية كاريوكا وسعاد حسني؛ والمثير هنا أن الفيلم نفسه يمثل صراعًا بين القديم والجديد في مهنة الرقص وموقعه في المجتمع، حيث “زوزو” الفتاة الجديدة تصارع أصل “العوالم” وترفض مصير بنت الليل في الملاهي والمجتمع ينظر للرقص نظرة جديدة تفك الارتباط بينه وبين بزنس الغواية.. هذه النظرة تهتز فقط في لحظات صعود المجتمع.. زوزو هي اللحظة التي لمعت فيها كاريوكا في الأربعينيات.. والتي تلتها لحظة أخرى فتحت المجال لسعاد حسني، وبعد ذلك كي تلمع فريدة فهمي الراقصة التي تحمل شهادة جامعية في الرقص.