لا تنظر تحية كاريوكا لأحد من جمهورها وهي ترقص؛ كانت نصيحة من بديعة حين لاحظت ارتباكها من مزحة “زبون” سمج. بديعة علمتها “لا تنشغلي بغير رقصك..”. جاءت هذه النصيحة من أستاذة فنون الاستعراض التي كان أنفها الكبير يغطي على جمالها القديم؛ المزيج المدهش التركيب من المحظيَّة وفنانة العروض الغربية. بديعة هي الأم الثانية لتحية بعد الهروب. وهي كذلك أم نفسها؛ في ولادة اجتماعية في منطقة بين المغامرة والحذر. وهي صفات عمومية ولد فيها “المقاتل من أجل وجوده” في فترة ما بين الحربين. كانت الحرب الأولى تسمى “العظمى” باعتبارها فريدة في ضخامتها؛ لكن عندما قامت الثانية كانت التسمية أقل انبهارًا بضخامة التدمير؛ فمال الكتَّاب وقتها إلى إطلاق تسمية “العالمية”. أما فترة بين الحربين فقد شهدت مسارات جديدة على مستوى الفن والفلسفة والثقافة والسياسة والأفكار، وفي اختيارات شخصية بعيدًا عن “الكتل بتركيبتها القديمة”: العائلة… والمجتمع بتركيبته العشائرية أو القبلية أو المنتمية إلى مناطق مغلقة… والمجتمع القديم لفنون الموسيٍقي والرقص.
نقلت السينما التعامل مع الفنون إلى منطقة أخرى. أضيفت التكنولوجيا إلى الخيال الذي يفكر في المستقبل؛ الآلة لم تعد يدوية، بل تدخلت قوانين الفيزياء وخيالات المغامرين من أجل صورة متحركة. لم تعد الصورة مجرد إطار لاقتناص لحظة خالدة. بل مجال لحكايات من نوع جديد. وأبطال عابرين من زمن الأقدار إلى زمن الاختيار. اتسعت في الانتقال شريحة الباحثين عن وجودهم خارج “مجال الطمأنينة القديمة”، ولم تعد البطولة تقتصر على أفراد قلة، لكنها أصبحت سمة عصر يقاوم الفناء الذي أنتجته علاقات قديمة بالقدرات على العثور على حيازة جديدة علي يسار الخراب. المغامرون من هذا النوع لم ينظروا يمينًا أو يتوغلوا في حياتهم القديمة، لكنهم بحثوا عن “مساحات” أو “حيازات” جديدة يبنون فيها أماكنهم للمستقبل.
أرستقراطية جديدة
عندما كانت تحية في العاشرة تقريبًا وبينما لم يخرج تفكيرها عن الاستجابة الغامضة لجينات مغامري البحر، صدرت هذه المجلة التي أسسها إميل وجورجي زيدان تتخيل شكل الصحافة في المستقبل.
وفي مقال داخل هذا العدد من مجلة “كل شيء والعالم” يتخيَّل الكاتب سنة 1929؛ أي قبل نحو 90 سنة من الآن، أنه “في المستقبل يمكن للناس أن يقعدوا في إحدى غرف البيت وأمامهم لوحة تشبه لوحة السينماتوغراف تكتب عليها الأخبار أو ترسم الحوادث كما تقع في وقت وقوعها بالألوان من أقصى مكان في العالم، كما يرى القارئ في صورة الغلاف”.
في العدد نفسه مقال عن “الأرستقراطية الجديدة: أبطال الرياضة والسينما”؛ مصحوبة بعنوان فرعي “المرتبات الضخمة التي يتناولها هؤلاء الأبطال”.
يقول الكاتب في المقال :”إذا كان المقام الاجتماعي للطبقات يتوقف على مقامها الاقتصادي، وإذا كانت الكرامة الاجتماعية تنتج عن الكرامة الاقتصادية، فليس هناك شك في أننا نرى أرستقراطية جديدة لم يكن لآبائنا عهد بها، وهذه الأرستقراطية الجديدة تتألف من رجال التمثيل السينمائي ونسائه ومن رجال الألعاب المختلفة؛ فقد ظهرت صناعة التمثيل السينمائي حديثًا ولكنها تغلبت على سائر الصناعات الأدبية والفنية، فصارت تجذب إليها أبرع الأشخاص من الجنسين وأجملهم.. وإذا كان الناس منذ 30 أو 40 سنة يهرعون لرؤية أمير أو نبيل في عربته الفخمة تجرها الجياد المطهمة فإنهم الآن ينهالون من كل صوب إذا سمعوا أن أحد أبطال السينما سيمر من إحدى المدن. وأعظم ما يناله الوزير الإنجليزي من المرتب هو 5000 جنيه في العام، ولا ينال رئيس الولايات المتحدة في العام سوى 15000 جنيه، ولكن هذا المرتب تحتقره نجمة أو نجم السينما، حيث يبلغ المرتب أحيانًا 70000 جنيه أو أكثر في العام”.
إنه انتقال من “مقام اللهو أو التسلية البريئة إلى مقام الحرفة” لا تقتصر فقط على حمل الأثقال والمصارعة والملاكمة الذي “كان من عشرين أو ثلاثين سنة لا يتبارى فيه سوى اللصوص والأوباش، ولا يذهب لرؤيتهم سوى الطبقات الوضيعة من الناس، ولكن هذه الحرفة ارتقت في أيامنا ودخل أعضاؤها في زمرة الأرستقراطية الجديدة”.
في هذا الانتقال ستكتسب تحية قوة وقدرة على التحدي، وسترسم “صورة جديدة” للراقصة الحديثة.
الاعتراف و الاعتذار
الجمهور الثقافي احتفى بمقال إدوارد سعيد الأولى باعتباره لقاء بين الفيلسوف والراقصة و”اعتراف ثقافي” بقيمة راقصة في زمن “الاعتذار” عن الفن (عمومًا) والرقص بشكل خاص وحاد، باعتباره لحظة طيش مؤقتة تبدأ باللذة وتنتهي بالوعظ.. وسوسة شيطان؛ فالراقصة في المعتقد الشعبي ذكوري الطابع أخت الشيطان أو ابنته أو وكيلته الحصرية. ولهذا اختفت الراقصات المصريات تمامًا في عصر انتصار “الصحوة الإسلامية”، بعد تراكم الشعور بالذنب واتساع النفاق الاجتماعي إلى حدود طلب التوبة.
تعيش سيرة تحية كل تناقضاتنا. فهي سيدة السيطرة على التناقضات والسير إلى الحواف، تدخل سيرتها بالتدريج إلى حياتنا التي تتصارع فيها خيالات مثالية عن الحياة. يسميها الباحث أو الدارس بأسماء معروف مستقرة مثل الأصالة والمعاصرة. ويروِّج لها أصحاب أيديولوجيات السيطرة على أنها “خصوصيتنا” و”ثوابتنا” و”هويتنا”. تحية هنا هامش مربك؛ رمز لانسلاخ عن العالم القديم لسيطرة الذكور والذهاب إلى حيث تختلط ثقافات وحضارات وأفكار متباينة في ملعب محرم وخطِر، هو الجسد؛ لبناء ذات منفردة هي قمة هذا الخطر. كيف تولد امرأة في مجتمع الرجال لتقوده بعد أن كانت سجينته؟ كيف نستقبل “خائنة” مصيرها العائلي بكل الاحترام والنجومية بعيدًا عن الجانب السرِّي من حياتنا؟
دخلت تحية عالمها الجديد من ” دنيا الليل والسهر”، دخلته مقاتلة، لها مخالب دفاع مثل القطط الشرسة، وساعدها في ذلك خائن آخر من العائلة هو “عثمان” ابن أخيها نفسه الذي قيدها بالجنازير في إطار السعي إلى استرداد عرش “النيداني” المهدد من الفلاحين الغرباء. قصة تتكرر كثيرًا مع تأزم العلاقات العائلية وارتفاع التمرد إلى حدود لم تعد تحتمل التصالح. لكن نجاح تحية حوَّل الانسلاخ إلى نموذج.. موديل. ومنحه معنى أقوى من الضياع الذي تحكي العائلات قصصه لتحافظ على انسجامها.
خيانة من هذا النوع منحت تحية هدية؛هي حياتها الجديدة، لم تساعدها وراثة صفات الأب البحَّار فقط، ولا طابع المناكفة الذي جعلها تحب الغرباء، وتنتمي إليهم باعتبارها وأمها فرعًا غريبًا عن العائلة المعقدة المترامية. ورثت تحية ملامح الأب؛ الأطراف الكبيرة، والقدرة على التفاوض مع الطبيعة والناس، ومناكفة سكان السواحل. ولتحية أساطيرها، رموزها الخفية للانسلاخ عن “العالم القديم” الذي يرفض أن يصبح قديمًا. هي تقريبًا كود سري يستفز نوعًا من الصراع حول “السلطة الثقافية”، وتنشر صورها باعتبارها رسائل تحرر من أسرى العالم القديم، وبدلاً من الرفض التام يطلب المقيمون في رعاية الثقافة المحافظة لها الغفران. تحية هنا رمز لشهوة الاندماج مع اللحظة الحالية، في مقابل وضع تصورات ما بعد الموت على أنها الحقيقة الأكثر رسوخًا وتأثيرًا، وإليها تنسب الأشياء.
كلما نشرت صورة لتحية أو غيرها بملابس الرقص أو في مشهد سينمائي كان يتكرر تعليق يطالب بعدم نشر الصورة كيلا يزيد عذابها ويثقل حسابها. هذا المفهوم الذي يؤجل الحياة إلى ما بعد الموت هو حصاد الهزائم المتكررة.
ضد الإستئناس
عندما سألها إدوارد سعيد: “كم مرة تزوجت يا تحية؟
كان التحول في مظهرها صاعقًا (يحكي إدوارد): “فرغت لتوها من الصلاة حين تهيأت للإجابة عن السؤال؛ فوقفت منتصبة وكوعها مائل نحوي باستفزاز والذراع الأخرى ترسم إيماءة مجازية في الفضاء وقالت: “مرات عديدة”، ثم اقترن صوتها بالصفاقة المعهودة عند نساء الليل، وبدا أن عينيها ونبرة صوتها تضيف التالي “ثم ماذا؟ لقد عرفت الكثير من الرجال”. بعد قليل أجابت تحية بحدة على سؤال آخر عمن أحبته بين هؤلاء، ومن الذي تأثرت به أكثر من سواه: “لا أحد على الإطلاق.. كانوا مجموعة رثة من الأوغاد”… الحدة التي لاحظها إدوارد سعيد كانت السمة الغالبة على تحية كاريوكا في سنواتها الأخيرة وخصوصًا عندما يكون الحديث عن تقييم حياتها.. في أحاديثها التليفزيونية كانت كمن يقدم اعترافات عارية من الزيف تحوَّلت إلى فضائح أحيانًا، أو إلى أضواء كاشفة لشخصيات وأحداث كانت كاريوكا في مركزها أو على مقربة منها، ومن أبطالها.
تحية كاريوكا لم تكن مجرد امرأة عجوز انسحبت عنها أضواء الشهرة فأصيبت برد فعل عصبي.. لكنها أقرب إلى الأبطال التراجيديين الذين يقضون حياتهم يتلمسون الطريق إلى اكتشاف حقائق وخفايا.. هي من نوع حساس من شخصيات قلقة تبحث عن شيء غامض وبعيد.. هؤلاء ينهون حياتهم وهم متعلقون بحقائق مطلقة، أي أنهم يسيرون الشوط إلى نهايته: الموت أو الذوبان في القيمة المجردة هكذا أرادت تحية كاريوكا أن تنهي حياتها بجوار المسجد النبوي في المدينة المنورة. هل هذا نوع من التوبة كما يسمون اعتزال الفن هذه الأيام؟
سطوة العوالم
لا أعتقد أن مثل تحية كاريوكا يمكن أن تتملص من سيرتها مع الرقص فهي “كانت شعارًا لكل ما هو غير خاضع للإدارة والضبط والانضواء في ثقافتها” كما وصفها إدوارد سعيد عندما كان يراها أسطورة من أساطير شبابه في أربعينيات القاهرة.. كانت سحرًا كاملًا لمراهق ابن رجل طموح قادم من فلسطين ليشق طريق الثروة والصعود الاجتماعي في القاهرة “التي كانت وقتها مدينة “كوزموبوليتانية”.. أي متعددة الثقافات.. مدينة هي مركز الحركة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والفن.. ومكان العبور بين العالم القديم الذي انهار مع الحرب العالمية الأولى والجديد الذي دفعته الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة النضج. في هذا المناخ كانت “تحية” ثورة في الرقص الشرقي بل أنها كانت على وشك دخول بوابة المجد في هوليوود لكن قيام حرب فلسطين أعادها على الفور؛ كما تقول الأساطير الشائعة عنها ، لكن الوقائع أكثر تعقيداً و تعود إلي شعور بالإضطهاد ، سنعود إليه بتفصيل أكثر . لكن ما يمكن الإشارة إليه هنا أنها كانت في هذا الوقت مزيجًا من (العالمة) و(الراقصة) بالمفهوم الحديث الذي وضعت أساسه فنانة قادمة من بلاد الشام هي “بديعة مصابني” افتتحت صالة ونقلت الرقص من مهنة في إطار الإحتفالات الإجتماعية أساسًا.. مكانها شارع خاص.. إلى حالة فنية أقرب للاستعراض، ومن المؤسسة القديمة في حي العوالم إلى مؤسسة حديثة تدير علاقتها مع صناعات أقوى في المسرح والسينما، أصبحت العالمة نجمة بمفهوم جديد. والعالمة أساسًا تعني الراقصة التي وصلت إلى رتبة القيادة تتحرك حولها جوقة من العازفين غالبًا من الرجال.. وفريق من الراقصات المساعدات.. ورجال مخنثون يلعبون دور الصبي أو النائب.. العالمة هنا لها سلطة الرجال.. وفتنة النساء.. كائن مختلف تمامًا قادم من عالم الواقع إلى عالم الفانتازيا الاجتماعية؛ تدخل البيوت في احتفالات الزواج السبوع والطهور والختان.. تدخل المكان في وضع استثنائي وتخرج منه ليعود إلى ما كان عليه. في شارع محمد علي كانت السطوة للعوالم: هن سلطة الشارع والشارع هو مكانهن الأقرب إلى بيت كبير واسع مفتوح على بيوت صغيرة.. هذا العالم يندثر الآن ولا تبقى إلا صور للعوالم المعتزلات ورائحة ما تزال عالقة بمكان حكمته النساء إلى جانب صوره العالقة في الذاكرة من روايات نجيب محفوظ وأفلام كثيرة، أشهرها “خلي بالك من زوزو” الذي لعبت فيه دور البطولة كل من تحية كاريوكا وسعاد حسني؛ والمثير هنا أن الفيلم نفسه يمثل صراعًا بين القديم والجديد في مهنة الرقص وموقعه في المجتمع، حيث “زوزو” الفتاة الجديدة تصارع أصل “العوالم” وترفض مصير بنت الليل في الملاهي والمجتمع ينظر للرقص نظرة جديدة تفك الارتباط بينه وبين بزنس الغواية.. هذه النظرة تهتز فقط في لحظات صعود المجتمع.. زوزو هي اللحظة التي لمعت فيها كاريوكا في الأربعينيات.. والتي تلتها لحظة أخرى فتحت المجال لسعاد حسني، وبعد ذلك كي تلمع فريدة فهمي الراقصة التي تحمل شهادة جامعية في الرقص.
ترقص تحية في مساحة صغيرة. لا تحتاج إلى ملعب كبير. ولا تعتمد على الإفراط في الحركات بل على قلتها. ترقص كأنها تحفر في موقعها. غوايتها تتحرك بغموض مع حركاتها الأفقية. سر الغواية يتجه إلى الداخل، ويختلف عما تلجأ إليه راقصات أخريات من الألعاب البهلوانية أو التلوي على الأرض كالحية، أو الانخراط في ستربتيز من نوع ما، ولكن ليست تحية كاريوكا لأن سحرها وتألقها يوحيان بشيء كلاسيكي… كما قال إدوارد سعيد، ربما ليلخص طرفًا من عناصر جمالها القوي. تحية التي لا تخفي غريزة قوية (يحب المصريون تسمية تربطها بملامح شخصية يسمونها “بنت البلد”) استطاعت أن تكرس كلاسيكيتها.
لم يهتم إدوارد سعيد كثيرًا برحلة انتهت باعتكاف تحية كاريوكا في المساجد، وأصبح لقبها المحبوب هو “الحاجة” واكتفت بورع العجائز الذين يرتقون فجوات العمر الأخيرة بنسيج من حكمة النهاية، والاكتفاء الذي يبدو أقرب إلى رومانتيكية العشاق الذين يبكون على التجارب الخائبة في الوقت الذين يبكون فيه على خفوت القدرة على خوض التجارب نفسها بخيبات جديدة.
رحلة حفرت فيها تحية أنفاق لتفجير طاقتها الحسية بحذر، وعدم التفات إلى ما هو خارجها في أثناء الرقص (نصيحة بديعة)… وذكاء لا يجعلها تذوق مصير شفيقة القبطية.
إلى أي مدى نجحت تحية كاريوكا؟