كان قد مر مئة سنة على أول ضربة لحفر طريق القطارات من السويس إلى الإسكندرية، عندما قررت صبية عمرها 12 سنة أن تهرب حافية من بيت العائلة في حي الثلاثيني بمدينة الإسماعيلية، لتركب قطارًا إلى المجهول. أول محطة قطار لم توجد إلا بعد الضربة الأولى بأكثر من 17 سنة، ومن يومها أصبحت العلبة الحديدية التي تسير بالبخار شريكة في حياة الناس، تغيِّر مصائر، وتقود الهائمين إلى أقدارهم البعيدة عن عالمهم القديم. فالقطار يمثل قطيعة أكثر حدة من وسائل سابقة بالنسبة لهارب من مصيره.
شارع الثلاثيني هو خط التماس بين العرب والإفرنج في الإسماعيلية؛ أحد ثلاث مدن أقيمت على ضفتي قناة السويس، الممر المائي المحفور لربط عوالم متباعدة، لتخلق حولها أماكن تتيح فرصة للمهاجرين من عوالم قديمة. كانت هذه المدن في أول نشأتها تشبه احتفالًا يستقبل الغرباء.. ولهذا ظلت تحية كاريوكا تستعيد وصف “باريس الصغيرة” للإسماعيلية، المدينة التي هربت منها عشية يوم حار جدًا في أغسطس 1936، وكان جدها علي النيداني قد هاجر إليها من محافظة –وقتها كانت مديرية– الشرقية، بعد هجرات بدأت من نجد والجزيرة العربية.
الجد؛ النيداني الكبير عمل كأغلب أبناء القبائل المهاجرة في التجارة، ووضع أعرافًا لحفظ الثروة والنسل بمنع الزواج من خارج العائلة، لكن ابنه مزج وراثته للتجارة بغواية البحر، وصنع أسطوله الصغير من السفن التجارية؛ كان يعبر خليج السويس ليستقر في الإسماعيلية حيث “البيوت المتعددة” للمعلم محمد علي النيداني، رمز الرجولة الكلاسيكية في ذلك الزمن؛ الصرامة والحنان، القرب من المفضلين في العائلة، والمسافة عن كل من يخضع لسلطته الأبوية.. وهو فيزيائيًّا بجسد ضخم ممشوق وشارب كثيف، وعشق للنساء، وقد تزوج منهم الكثير، وأنجب 8 من الأولاد والبنات، لكنه في أيامه الأخيرة خرج عن أعراف العائلة، وسافر إلى قرية المطرية على بحيرة المنزلة –محافظة الدقهلية– ليتزوج –يقولون إنها الزيجة السابعة– من فاطمة الزهراء ابنة عائلة الزيني، من عائلات الفلاحين، وتصغره بأربعين سنة؛ أرملة أنجبت من زوجها الأول طفلة واحدة اسمها فاطمة النبوية؛ فالعائلة من نسل علي زين العابدين، ولا تُسمي أبناءها إلا بأسماء من عائلة النبي.
تحية كاريوكا كانت نتيجة هذه الزيجة بين أبناء “الهجرات القديمة” التي استقرت في مصر بتقاليدها وتفاعلت، قبل أن تنفتح على الثقافة الأخرى بمراكمة أفكار وقيم وأذواق طبقات جديدة.. لم تتكوَّن فجأة بتصريح فبراير الشهير في العام التالي لميلاد تحية.. الذي أعلنته بريطانيا من طرف واحد، وبه أنهت حمايتها لمصر واعتبرتها “دولة ذات سيادة“.
تحية.. هربت بعد سنوات. والمجهول الذي سافرت إليه كان صعودًا إلى مقام الأساطير المعاصرة. راقصة تكتشفها الأجيال كالخمر المعتقة؛ يزداد حضورها، وتتحول إلى أيقونة، وتتخلص من سفاسف الحكايات الصغيرة لتسكن حكايتنا الكبيرة مع الأزمنة الحديثة.
لولا الهروب من الخضوع للسطوة العائلية، ولما تحررت الأسطورة من ركام العنف والانتقام ذي الملمح القديم. تحوَّلت العائلة إلى سجن حقيقي؛ الأخ الأكبر وحش العائلة قيدها بالجنازير، وضربها في وصلات عنف وقسوة لا تحتمل، كل ذلك من أجل كسر إرادتها وإجبارها على مصير الخادمة لعائلته. ضامنًا الاستيلاء على ميراثها، معيدًا سطوة تهددت بخروج أبيه وتمرده وهو في الستين بزواجه من “الأغراب“.
فشلت تحية في كل محاولات الهروب الصغير؛ كان الوحش العائلي قادرًا على إعادتها إلى زنزانتها في بيته كلما هربت من محيط العائلة.
لكن الهروب الكبير لم ينجح إلا بالخيانة –خيانة ابن أخيها لسطوة أبيه– وبتحولها إلى شبح مغامر تقفز من سطح إلى سطح، ثم تختبئ في بيت الجيران، حتى تخرج شبحًا من المدينة وتجرى بأٍقصى طاقتها.. كي تبتعد عن قبضة الأخ والعائلة الخاضعة له.
لم يكن هناك سوى القطار، وحلم غامض بطلته سعاد محاسن؛ راقصة ومغنية كانت تحي حفلات العائلة وشاهدت تحية ترقص لأول وآخر مرة. وسعاد هاربة أخرى، لكن من مسافة أبعد، من الشام، ومن زوج عاشق يغار من غوايتها للفن.. هروب آخر جعلها فنانة متجولة لها “صيت” في شارع عماد الدين؛ مركز الهاربين الباحثين عن حياة أخرى تصنعها الأضواء والساهرين الباحثين عن الأنس والفرفشة والاحتفال بالجديد من فنون الغناء والرقص.
حملت سعاد محاسن أضواء المدينة إلى أسيرة عائلتها.. ودعت إليها تحية الصغيرة. كانت تداعب حلم الهروب “تعالي معي..”. وكان ذلك بالنسبة للمسجونة مستحيلًا لن يتحقق، لكن بالنسبة لشبح يحاول أن يجمع قدراته في مغامرة الحياة والموت لم يكن هناك إلا اسم وصورة سعاد محاسن.. وخيال حول مكان خرافي اسمه شارع عماد الدين.
تفاصيل هذا الهروب روته تحية كاريوكا للكاتب صالح مرسي، الذي أسهب غالبًا في تفاصيلها ذات الحس الدراماتيكي المتأثر بأفلام أنور وجدي الشهيرة؛ عن الهروب والضياع وما بينهما من إيقاع انتظار النهاية السعيدة.
لكننا بعد ما يقرب من مئة سنة من هذه الرحلة يمكننا أن نرى تمثيلًا مكثفًا للحظة اعتمدت على هروب أصحابها من مصائرهم. وقدرات الاكتشافات الحديثة على تقديم طرق سهلة، كما حدث في القطار، أو في وجود مدينة تتسع للهاربين وأحلامهم.
لم يكن هروب تحية من أجل الفن والرقص كما تقول الكليشيهات السطحية، لكن نجاح الهروب جعلها تعيد اكتشاف نفسها تحت إلحاح الحاجة إلى الاعتماد على الذات، وبأحاسيس غامضة تسرَّبت إليها مع نشوة الرقص الأولى في حفل عائلي؛ لفتت الأنظار، واستمتعت، لكن المتعة انتهت بالضرب. وهو لقاء سيتكرر كثيرًا في حياة تحية؛ التراوح بين المتعة والقسوة.. الفن والعذاب.
في الهروب العنيف من المصير والأقدار الحديدية، قوة تجعل من الفن وجود، لا مجرد لذة الشهرة أو الثروة.. هذا ما تعلمته تحية عندما اضطرت سعاد محاسن إلى تسليمها للهاربة الأكبر بديعة مصابني.