تقاطع الشرق والغرب في شارع فولتون
بعد انتهاء مقطوعة موسيقية، رفع ظافر الطويل سبابتيه أمام وجهه، وعلى كلِ منهما ريشة القانون، مقارنًا طول مقام الحجاز العربي بنظيره التركي الذي قصَّر عند ذِكرِه المسافة بين سبابتيه، فرد حسين، الشاب اللبناني الجالس على البار مع صديقته، قائلًا بالإنجليزية “الحجم ليس مُهمًا“، فضحك الجميع. ثم انطلقت الموسيقى من جديد، وزغردت امرأتان من المغرب والعراق كانتا تجلسان خلفي.
كان ذلك في أثناء حفل شهر ديسمبر من “جلسات المقام في بروكلين” التي تُنظّم مرتين شهريًّا في حيّ بروكلين بمدينة نيويورك الأمريكية، وينطوي الجزء الأول من تلك الحفلات على عزف فرقة محددة، أمّا الجزء الآخر فتُفتح فيه خشبة المسرح للحضور، وكأنه كاريوكي حيّ يتبادل فيه الموسيقيون الأدوار مع الجمهور للارتجال والغناء والسلطنة. فمثلًا في إحدى الجلسات السابقة في شهر سبتمبر، سامرَنا مُسِنّا جاوز السبعين من عُمره جاوَرَنا على الطاولة نفسها، وبعد قليل ناداه أحد عازفي الفرقة “راي“، فقام راي ببطء وأخرج رِقٍّه من محفظته ودخل الحلقة مشاركًا بدق الرِقّ.
يجزم مؤسسو جلسات المقام؛ وهم ثلاثة موسيقيين أمريكيين بريان برونكا وماراندي هوستِتر وجون مِرتشسن، بأن التنوّع العرقي في نيويورك جعلها خيارًا طبيعيًّا لمشروعهم، فهنا يجدون موسيقيين عرب وأمريكيين ومتخصصين في الموسيقى العربية وطلاب وهواة وزبائن ومستمعين.
ويقول بريان (43 عامًا) إن إقامة جلسات كتلك كان ليكون دربًا من الجنون قبل 15 عامًا، خصوصًا وأن بروكلين اليوم صارت مركزًا يتوافد عليه الشباب والفنانون والمهاجرون–فيجرّون معهم المسارح والمطاعم والحانات– بالنظر إلى رُخص إيجارات السكن فيه عن مانهاتن، حي نيويورك الأصغر الذي يأوي وول ستريت وميدان التايمز ومسرح برودواي، والذي يفصله عن بروكلين، بخلاف الثراء، ممرًا مائيًّا يُسمّى بالنهر الشرقي.
تعرَّف بريان على آلة العود في نهاية التسعينيات بينما كان يعيش ويعزف موسيقى الجاز في عاصمة الجاز نيو آورلنز (سمّى بريان إحدى أغانيه من تلك الفترة “اللص والكلب” تيمّنًا برواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ).
أُغرم بريان بالعود وتمكّن من شرائه من صانع عود أرمني من كاليفورنيا عبر الإنترنت، وبعد ذلك بنحو عِقد من الزمان، وتحديدًا بين عاميّ 2012 و2014، صار بريان أستاذًا يدرِّس العود في ملتقى سيمون شاهين السنوي للموسيقى العربية في ولاية ماستشوستس. بالإضافة إلى العود، يعزف بريان الجيتار والبُزُق ويدق الإيقاع.
أمّا ماراندي هوستِتر (33 عامًا/كمان) فتنتمي لعائلة موسيقية بامتياز من مدينة سانتا كروز بولاية كاليفورنيا. تحكي لنا، بطبيعتها المرِحة، كيف أن والديها تركاها وأختها الكبرى–وهي موسيقية كذلك تعيش في إثيوبيا– مع مربية في آواخر الثمانينيات لحضور حفل للموسيقار النوبيّ حمزة علاء الدين.تحسدهما ماراندي على ذلك فهي لم تتمكن من تحقيق حلمها بحضور حفلة لحمزة من قبل.
قدِمت ماراندي لمدينة نيويورك في عام 2009، وما لبثت أن حضرت حفلًا أوركسترا نيويورك العربية فانتشت من أثرِ الموسيقى وسارعت لحضور ورشة عمل بقيادة الموسيقار اللبناني بسّام سابا، ثم أمست عضوة في الأوركسترا، وهي عضوة كذلك في الأوركسترا العربية الوطنية (أوركسترا ميشيجان العربية سابقًا) بقيادة ميكل إبراهيم، بالإضافة لفرق عدة أخرى.
وكانت مدينة مكناس المغربية أول تعارف لجون مِرتشسن (31 عامًا) بالموسيقى الشرقية حيث مكث لأسبوعين في عام 2013 مع صانعيَّ طبول من مدينة البلوز شيكاجو. ورجع من الرحلة بصحبةِ طبلة وألبومات موسيقية وشغف بالإيقاعات المغاربية، ثم تلقّى دروسًا على يد الطبَّال رامي العاصر، وتلقّى دروس مقام من سامي أبو شميس (كمان)، ثم تعرَّف إلى بريان برونكا وآخرين من موسيقييّ المقام في نيويورك. ويقول جون إنه تدرج من الدفع مقابل دروس الموسيقى إلى المشاركة في حفلات مقابل تلقّي الدروس وصولًا للمشاركة في حفلات بمقابل مادي. ويعزف جون آلات القانون والكونترباص والبيس الكهربي والسنتير الأمازيغي ويدقّ على البندير.
اتفق المؤسسون الثلاثة، بينما كنا نتناول القهوة في صباح يوم خريفي مؤخرًا في مقهى رحِب بحيّ بروكلين هايتس ذات مقاعد وطاولات خشبية وحائط طوبي يميز ديكورات بروكلين. سمح الطابع العفوي لتلك الجلسات بتجمّع عدد ليس بالقليل من موسيقيي المقام معًا، وهو الأمر الذي قد يصعب ترتيبه مع الحفلات الأكثر رسميّة. ويقول بريان إن تسمية “جلسات” البسيطة غرضها الترحيب بمحبّي موسيقى المقام الشرقية وعازفيها سواء محترفين أو هواة، مضيفًا أن الجزء الثاني الارتجالي يحث الحاضرين من خلفيات مختلفة على التواصل عبر لغة الموسيقى.
نبعت فكرة تلك الجلسات من استفسارات الأصدقاء المتكررة عن أماكن تقديم الموسيقى العربية في نيويورك، ورغبات هؤلاء الأصدقاء في مرافقة الموسيقيين في أثناء البروفات. فقرر الثلاثة مؤسسين “تعميم البروفات وإخراجها للعلن” ممثلّة في جلسات المقام، ما يتيح ذلك للموسيقيين فرصة للتمرين والتنويع والتقسيم في جوٍّ حميمي غير متكلّف، كما يشكّل فرصة للتشبيك بين موسيقيي المقام ومستمعيه في مدينة نيويورك ومحيطها.
وبينما توفر تلك الجلسات ملتقى يستمتع به محبّو الموسيقى العربية خصوصًا والشرقية عمومًا، يقول المؤسسون إنها تخلّص الموسيقيين من أعباء التفاوض مع الملاهي والمسارح. ويقول بريان إن حفلات “سيمون شاهين قد تحظى بتغطية مجلة نيويوركر ومارسيل خليفة قد يُكتب عنه تقرير في النيويورك تايمز“، ولكن حظوظ عشرات الموسيقيين الآخرين، غير المعروفين خارج دوائر الموسيقى العربية في نيويورك وخارجها، في التغطية الصحفية ضئيلة إذا لعبوا فرادى، وكبيرة “إذا اتحدوا بشكل منظّم“، وهي الفرصة التي توفرها لهم “جلسات المقام في بروكلين” من وجهة نظره.
لاقت تلك الجلسات استحسانًا جعل تنظيمها مرتين شهريًّا دون انقطاع لسنة كاملة حتى الآن أمرًا ممكنًا، عدا مرّة واحدة في عطلة عيد الميلاد. ويقول ريموند راشد، أو “راي” ضارب الرِقّ، إن مرتادي تلك الجلسات يدركون أن “موسيقى الجام (الجلسات) مثلها في الجودة مثل الحفلات المدفوعة“، ولهذا السبب يواظب ريموند على حضورها والمشاركة في دق الرِقّ والدُفّ والطبلة في بعضيها.
ويستغل موسيقيون في بداية مسيراتهم الفنية تلك الجلسات للتفاعل مع الجمهور واكتساب الثقة مثل محمد علي (غناء/اليمن)، والذي أخبرني وكان قد خلُص لتوِّه من وصلة غنائية في حفل شهر ديسمبر، إنه “لا توجد مثل تلك الجلسات في أيّ مكان آخر في نيويورك“. ويقول بريان إن بعض الموسيقيين المبتدئين اتخذوا “جلسات المقام في بروكلين” منصة انطلاق نحو التخصص في الموسيقى العربية قبل الاتجاه لدراستها مع أساتذتها مثل سيمون شاهين وبسام سابا.
يتفق المؤسسون الثلاثة أن إيريك آلان (تشيلّو)، عازف جاز أمريكي محترف، يُعدُّ “قصة نجاح الجلسات” كونه تعرّف من خلالها على الموسيقى العربية، وما لبث أن واظب على حضورها بل وارتاد ملتقى الموسيقى العربية السنوي في أغسطس لأول مرة. أخبرني إيريك في حفل شهر ديسمبر، وكان قد خلُص لتوّه كذلك من المشاركة بالعزف بينما كان محمد يغني، إنه عهِد منذ صيف عام 2018 أن يتعلّم أغنية عربية واحدة في كل جلسة مقام.
ويقول جوني فراج وهو ضارب إيقاع لبناني فلسطيني شارك في العديد من جلسات المقام وعضو في عدة فرق طربية مثل تخت النغم وذكريات بالإضافة لكونه مهندس برمجيات يعمل في “وول ستريت“، إنه بدأ في لعب الموسيقى العربية بعد رحيله عن لبنان وانتقاله للعيش في نيويورك في عام 1998 بإيعاز من الحنين، وكأن الغُربةَ زيتٌ والطربَ نارٌ.
والمقام، كما يعرّفه جوني، أحد مؤلفَي كتاب “في الموسيقى العربية” مع سامي أبو شميس، على موقعه “عالم المقامات” أنه “نظام من سلالم وجُمل موسيقية معتادة وانتقالات مألوفة وزخارف تقليدية وجماليات مُتّبعة ومُتّفق عليها“، ويسمى التدرج النغمي في سياق المقام بالـ“سير“. وتمتد موسيقي المقام جغرافيًّا من المغرب حتى سنجان شمالي غرب الصين مرورًا بالمنطقة العربية بأكملها واليونان وتركيا وآسيا الوسطى.
ويشبه جوني المقام بالطبخ، فالمطبخ الحلبي، وإن استخدم مكوّنات مشابهة، يختلف عن المطبخ اللبناني أو المصري ولكلٍ ذائقة مختلفة. ويضيف أن المقام يتطور عضويًّا أو بتأثيرات خارجية كالموسيقى الأجنبية وآلاتها مثل البيانو، مُعطيًا مثالًا على عُرَب أم كلثوم الطربية التي “اختلفت في السبعينيات عن نظيراتها في الثلاثينيات” بالنظر إلى لتطوّر المقام.
وينتقد جوني دراسة المقام من منظار الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهي الطريقة السائدة في الدول الغربية ولا سيّما الولايات المتحدة، كونها “مُضرًّة” بالموسيقى العربية، مضيفًا أن مراجعات الموسيقى العربية في الصحف والمجلات الغربية “تعيسة ومحدودة“. ويمزح قائلًا إن كان الغرب يتهم بلادنا العربية بالديكتاتورية، فالغرب ديكتاتوريات موسيقية بامتياز لأن مايسترو واحد يتحكم في أوركسترا كاملة “بشكل فاشيّ“، أمّا في بلادنا العربية فأعضاء الفرقة الموسيقية ما انفكوا يعقدون “مفاوضات خافتة” في أثناء العزف، فيغيّرون الإيقاع أو يطيلون جملة موسيقية معيّنة أو يقصّرون أخرى بإجماع لحظيّ ودون اتفاق مسبّق لبلوغ تسوية طربية. ويضرب مثالًا قائلًا إن “أم كلثوم لم تحضّر قبل صعودها للمسرح إن كانت ستغني مقطع ‘نسيت النوم‘ مرتين أو ثلاث أو حتى سبع مرات“.
وتشكّل جلسات المقام بيئة نموذجية لاستحضار الطرب، وذلك لاعتماد موسيقى المقام على وجود جمهور متحمّس. ويقول جوني إن الموسيقى العربية حلقة يتفاعل فيها المغنّي مع مستمعين يمتلكون من المخزون السماعي ما يؤهلهم للتماهي مع الموسيقى وبلوغ نشوة الطرب. فالطرب ينطوي على خلق توازن بين تراث مقاماتي معروف لدى المستمعين من ناحية، وتجديد وتقسيم وفق اجتهاد لحظيّ من قِبلِ أعضاء الفرقة الموسيقية من ناحية أخري “بناء المقام وفق ذلك التوازن ومن ثمّ ترسيخه تدريجيًّا يخلق حالة التطريب“.
اختلاف الرأي لا يفسد للجام قضية
(jam)
تسجيل فيديو من إحدى جلسات المقام في شهر أغسطس مع المطربة السورية نانو رئيس (غناء)، ومن اليسار لليمين: إيلَم بسالدي (كمان)، وبريان برونكا (عود)، وجون مِرتشسن (كونترباص)، وفيليب ماير (رِقّ).
يقول المؤسسون الثلاثة إن الجلسات ليست ردَّ فعل على انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي صرَّح في أكثر من مناسبة بعداءٍ تجاه المسلمين والمهاجرين اللاتينيين وغيرهم من الأقليات، وخصوصًا في ظل ازدياد عدد المبادرات الأمريكية المرحّبة بالمهاجرين والمسلمين. ومع ذلك يقول بريان إنه “لا مفر” من تسيُّس تلك الجلسات في ظل المناخ السياسي الأمريكي المشحون. ويذكر أنه بعد شهر من ارتياده ملتقى الموسيقى العربية لأول مرة في عام 2001 وقعت أحداث 11 سبتمبر، “ومنذ ذلك الحين أمست كل قراراتي المتعلقة بالموسيقى العربية سياسية“.
ويقول جوني فراج إنه من السذاجة إغفال العلاقة بين الموسيقى العربية والسياسة، فالمؤسسون ثلاثة أمريكيين بيض يديرون جلسة نصف شهرية للموسيقى الشرقية ولا يتحدثون العربية، وهذا أمر محمود يتطلب التشجيع، ولكنهم “من الضروري أن يراعوا الحساسيات تجاه القضايا السياسية العربية مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) المضادة لإسرائيل“، مضيفًا أنه وموسيقيين عرب آخرين من مجتمع موسيقييّ المقام في نيويورك يدعمون حركة المقاطعة “لأن الموسيقى جزء لا يتجزأ من الثقافة والواقع السياسيّ العربي“.
وقال جون مِرتشسن، بشكل اعتذاريّ نوعًا ما، إنهم يسعون دومًا لإشراك موسيقيين عرب وجذب مستمعين عرب. (حرص المؤسسون على ترجمة اسم الجلسات على الموقع وصفحة الفيسبوك). وأضاف مازحًا إن أصدقاءهم العرب أخبروهم أن سبب نجاح تلك الجلسات أن مؤسسيها ليسوا عربًا، إذ هناك خصومات بين العرب قد تجعل من نجاح مبادرة كهذه أمرًا صعبًا. وقاطعه بريان للتأكيد على أن هذا الأمر ليس سوى مزحة.
عندما يُسأل بريان عن سر ولعه بالموسيقى العربية، يجاوب بشكل دفاعي أكثر منه منطقي مستنكرًا “ولماذا إذن يعزف شخص صينيّ موسيقى موتسارت؟“، ومع أن فكرته واضحة، يصف السؤال بأنه “إهانة للموسيقى العربية وكأن فريد الأطرش حكر على العرب“. ثم يقول بطيبة خاطر وغرام عاشق ولِه “إننا (أي المؤسسين) نحبّ الموسيقى العربية لدرجة أننا نعتقد أن الكثير من المستمعين [في نيويورك] سيقعون في غرامها إن جرّبوا الاستماع إليها، ولكنهم لا يعرفونها بعد“.
يشعر المؤسسون أن مقاماتهم صارت أكبر من حانة سيسترز في شارع فولتون التي يستوعب مسرحها الداخلي نحو خمسين شخصًا جلوسًا، ولذلك يتطلعون للحصول على تبرعات الحضور وجزء من عائد المشروبات بالتعاقد مع الحانة. ومستقبلًا، يعزمون التوسّع بعقد دورات تدريبية، وتأسيس لجنة استشارية تعكس تطلعات مجتمع موسيقيي المقام في نيويورك والتنوّع العرقي الذي يتمتع به ذلك المجتمع بين عرب وأمريكيين، بالإضافة لحفل كبير بمناسبة بمرور عام على انطلاق تلك الجلسات الناجحة والمبهجة والتي تشكل نقطة التقاء بين كل من يجمعهم رابطًا أي كان بالمنطقة العربية سواء أصدقاء قدامى هاجروا للولايات المتحدة منذ عقود أو أصدقاء جدد تعارفوا حديثًا منذ بضع سنوات أو جلسات.
ويحاول المؤسسون من خلال ذلك المشروع ومشاريعهم الأخرى مس آذان وقلوب الجالية العربية في نيويورك. كانت المرة الأولى التي رأينا فيها بريان وماراندي في شهر مارس 2017 مع فرقة بالأفراح، التي سُميّت باسم ألبوم زياد الرحباني الصادر في سبعينيات القرن الماضي، في مكتبة باي ريدج العامة بصبحة وقيادة عازف الإيقاع اللبناني ميشيل مرهج بقلوق الذي اشترك مع زياد في التسجيل الأصلي. واختيار باي ريدج لم يكن مصادفة، كونها محل وجود جالية عربية كبيرة، ويعج بجادتها الخامسة متاجر ومقاه ومطاعم عربية وشرقية. (يعيش في مدينة نيويورك أكثر من 8 ملايين شخص، منهم نحو 300 ألف عربي أو منحدرين من أصول عربية بحسب تعداد المعهد العربي الأمريكي).
يتبادل المنظمون الأدوار في أثناء الحفلات فعندما لا تكون ماراندي على المسرح تعزف الكمان، تجمع التبرعات من الجمهور كلٍّ حسب مقدرته. وعندما لا يكون بريان على المسرح يعزف العود، يؤدي مهمة مهندس الصوت أو يجلس على البار لالتقاط أنفاسه وتناول مشروب. ولا إجماع بين ثلاثتهم على أفضل الجلسات، ولكنهم هناك شبه إجماع على أن حفل فرج أبيض في شهر أكتوبر كان أكثرها رقصًا.
في حفل شهر ديسمبر عزف ظافر الطويل فلسطيني الأصل على القانون والدُف مع موسيقيَين آخرين وهما إيرين إردوجان (كولا وناي/تركيا) وآدم جود (عود/الولايات المتحدة) اللذان لم يقابلهما ظافر سوى في يوم الحفل نفسه، وتدربا معًا لسويعات قبل اعتلائهم خشبة المسرح. لم يفوّت بريان الفرصة، مُطلًا من منصة هندسة الصوت الخلفية، لإخباري أنه لولا الطبيعة الخفيفة لتلك الجلسات لصعُب تنظيم حفل موسيقي بتلك السرعة.
بعد انتهاء الجزء الأول من الحفل، قال ظافر، والذي دومًا يضحك بملء فيه فتبرز أسنانه: “We had fun, I think we are done. Stay for the jam!” (استمتعنا بوقتنا على المسرح ولكن انتظروا الوصلات القادمة) مناديًا على ماراندي لتترك مهمتها في جمع العناوين الإلكترونية ومشاركتهم “الجام“. حان الآن موعد الارتجال، والذي سيعتمد بالأساس على ما يستطيع الموسيقيون تقديمه والمزاج العام لروّاد حانة سيسترز في تلك الليلة. وسيستمع فيه الحاضرون لمقطوعات من أغان عربية طربيّة مثل “ألف ليلة وليلة“، و“أهو ده اللي صار“، و“عصفور طلّ من الشباك“، و“لا انت حبيبي“، و“ابعتلي جواب“، وغيرها. ولكن الريبرتوار بلا سياسة؛ فالليلة خمرٌ وطرب.
وبينما كان يغادر شخصان قُرب نهاية الحفل، نظر أحدهما للخلف محدّثًا رفيقه بالإنجليزية قائلًا “كانت الليلة ممتعة كالعادة!”.
الصور: رولا خياط
رولا خيّاط مزيجٌ من مدن عدة، ولدت في جراتس النمساوية لأب لبناني صيداوي وأم سعوديّة سوريّة. وانتقلت لبيروت الحرب الأهلية في سنّ صغيرة ومكثت بها حتى شبابها. عاشت في فيينا وبرشلونة وبرلين، ودرسَت الرسم في فلورنسا والتصوير في نيويورك، ودرّست الفن في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتعيش الآن وتعمل في بروكلين وتدرّس التصوير في جامعة كولومبيا. عرضت أعمالها الفنية في معارض منفردة وجماعية في عدة دول، من بينها أرت اللوا، وتعمل حاليًا على أول فيلم وثائقي لها تحت عنوان “من بروكلين لبيروت” عن اليهود من أصول لبنانيّة في مدينة نيويورك. تابع رولا على إنستجرام هنا وتويتر هناك.