السيد توجو سيساعدنا اليوم..
نعم، نحن أسرى الصور الممزقة عن الذات، والتواريخ الناقصة، والروايات المبتورة عن حياتنا. مساعدة توجو ليست فسحة للحنين والنوستالجيا، ولا حفلة للآهات الحارقة على ماضينا الجميل. بل هي محاولة لرسم #الخط_الواصل بين الحاضر والماضي؛ لجمع شتات الصورة، دون فزاعات الهستيريا، أو أوهام النظر إلى الخلف بانبهار
سيساعدنا توجو وقصته على إعادة النظر وتفكيك الروايات المستقرة، وعلى نقد رحلتنا مع الحداثة والنهضة وبناء الدولة “القومية/الوطنية” في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستعمار.
كل هذا سيحدث بمزيد من تأمل قصة توجو مزراحي؛ مخرج السينما الذي شارك في بدايات السينما المصرية بمجموعة من أفلام تنتمي إلى الكوميديا الشعبية والميلودراما الخفيفة، فمن يكون هذا المخرج لتكون قصته مهمة في متاهة بحثنا عن الهوية؟
المشكلة دائمًا في هذه “النا”؛ على من تعود، ومن سيهتم؟ وكيف يكون التفكير خارج حظائر تربية القطيع، لندرك أننا منذ صدمة الحداثة (لنقل إنها بدأت مع مدافع نابليون، أو كانت قبل ذلك تمد خيوطها مع كتاب ومفكرين مثل حسن العطار). الصدمة صنعت فجوة في الوعي أربكت معاصريها، وكان الرد غالبًا هو “البحث عن الهوية” أي العودة إلى “مجد قديم” ليكون طريق اللحاق بالغرب/العالم. بمعنى آخر اختار الباحثون عن الهوية طمأنينة الإجابات بدلاً من قلق الأسئلة. حتى كاد صوتهم أن يغطي على كل الأصوات الفردية الأخرى التي اختارت طرقًا أخرى.
توجو لم يختر طريق الغرباء، بل أسهم بطريق أو آخر في تأسيس “صناعة السينما المصرية”؛ وهو إسهام في عمق ما يمكن أن نسميه: الهوية المعاصرة؛ أي حكاية الناس التي عاشت تلك الحقبة في مصر، وشكَّلوا معًا ملامح الحياة المصرية بطريقة معاصرة. وهذه طريقة تختلف كثيرًا عن هوية الكتالوجات الموحدة التي تتخيل الهوية كائنا صلبًا عابرًا للزمن. يتعمد المنتمون له بالدوران حوله، وشرب أنخاب ماء التبرك به، بينما الهويات المعاصرة غالبًا ابنة عجينة تتشكل بتفاعل الماضي والحاضر، ولا تبني نفسها على النقاء المحض، ولا تدعي أصالة مطلقة، بل هي هجين بين لحظات وأزمنة وعقول وثقافات لا تعتمد على الخميرة المتوارثة، بل تتفاعل مع العالم، وتنفتح على الحضارة الحديثة.
توجو ذهب إلى غموضه بسبب حرب الهوية، وبلعبة تخوضها الجماعات لتأكيد نفسها.. لعب تحذف جزءًا منها لتؤكد انسجام الجماعة، حدث ذلك حين تقاطعت وتصارعت طرق البحث عن الهوية (عربية وإسلامية) وطغت لعبة الاستبعاد تحت إلحاح الحرب مع العصابات الصهيونية.
هل تعرف توجو مزراحي؟
إذا بحثت ستجد نوعين من المادة: الأول يتحدث عن ريادة توجو في السينما؛ وأغلبها معلومات مكررة بطريقة الاستنساخ؛ تأتي في سياق “اكتشاف الماضي الجميل؛ حين كان اليهودي يعيش وينتج ويصنع فنًا في مصر”. في إشارة إلى “زهوة اللحظة الليبرالية”. والنوع الثاني من المادة أصبح أكثر خفوتًا يعيد الاتهامات القديمة التي ترى في توجو “قنبلة مفخخة” و”المندوب الثاني في المؤامرة الصهيونية على العقل المصري من خلال السينما”.
في 2005 لم تكن مواد الفخر بدور توجو مزراحي منتشرة في الصحف المصرية، بينما الاتهامات الموجهة له سكنت بين أضابير كتب الغواية بالمؤامرة.. وبينهما كتبت مقالاً نشر في صحيفة المستقبل اللبنانية، أحاول تحسس الطريق إلى توجو؛ خصوصًا وقد تقاطعت سيرته مع سيرة يوسف درويش التي كانت تشغلني في نفس الفترة الزمنية. فتابعت عن بُعد اهتمام الصحف والمواقع المصرية باستنساخ سيرة “الرائد اليهودي” للسينما المصرية، لم تكشف أغلبها جديدًا إلا فيما ندر. أخيرًا وفي بحثي عن موضوع كتاب أعمل عليه وجدت اسم توجو مزراحي حاضرًا بقوة في الصحافة قبل 1952، وفكرت في تطوير مقال 2005 وفق الإشارات التي ظهرت لي، وفي أثناء ذلك صدر سنة 2020 كتاباً بعنوان” توجو مزراحي وصناعة السينما في مصر” للباحثة والكاتبة الأمريكية ديبورا ستار.. وفيه محاولة ل”انتزاع توجو من الغموض.”
تطور الموضوع هنا من محاولة إثبات “انفتاح وتعدد المجتمع” إلى غطس مثير في العالم المفقود.. وهذا ما أدعوك إليه اليوم.