فيرونيك ليست الأولى في حياة شريف. هناك قصته مع “اليابانية“؛ هكذا أيضًا كان يشير إليها في حكاياته.. يقول إنه تعرف عليها في المركز الثقافي البريطاني “كنت وقتها أجهز لمشروع التخرج من الكلية.. وكنا نتردد عليه أنا وزملائي للاستفادة من المكتبة.. وهناك قابلنا مجموعة من شباب أمريكي يتحدث مع شباب ياباني.. لاحظت أنهم يتكلمون عن الدين.. الأمريكان يحاولون أن يقنعوا اليابانيين بالدين.. فأنت تعرف أنهم لا يؤمنون.. ويكتفون بأفكار شخص اسمه بوذا“.
قلت له: البوذية ديانة أيضًا لكنها ليست سماوية..
“المهم.. كنا نتكلم حول هذا الموضوع.. ومن بين المجموعة اليابانية أعجبتني فتاة.. اقتربنا من بعضنا.. وظللت أكلمها عن الإسلام.. هي كانت بوذية، وبعد الكلام اشترت مصحفًا مترجمًا إلى اليابانية، وكتابًا للتفسير…شعرت أنني أحبها.. وهي كذلك.. وتطورت العلاقة بيننا.. حتى تزوجنا عرفيًّا بحضور اثنين من زملائي شهودًا على العقد.. كانت تدرس اللغة العربية، وبعد أن أنهت دراستها أقامت في مصر.. وظلت علاقتنا بين حين وآخر لأنني كنت مشغولاً في امتحانات البكالوريوس.. وأقنعتها بفكرة العمل في مصر.. رفضت في البداية، لكنها اقتنعت، وعملت في المركز الياباني، ثم مرشدة للأفواج اليابانية في شيراتون“.
سألته: هل كنت تتعامل معها كزوج؟ أي كنت تصرف على البيت؟!
“كنت مشغولاً في الامتحانات كما قلت لك.. ولم أكن أذهب إليها في شقتها بأحمد عرابي إلا على فترات.. في كل مرة كنت أحمل معي بعض الاحتياجات.. كي لا أشعر بالحرج.. يعني مثلاً وجبات.. فاكهة.. أطباق حلوى“.
وكيف انتهت العلاقة؟
“كانت من أسرة غنية.. أبوها مهندس في شركة سيمنز في اليابان.. لكنها تصرف على نفسها هنا.. وقالت لي إنها ممكن تساعدني على السفر إلى اليابان، أو الحصول على منحة.. وأنا لم أكن أرغب.. لكن المشاكل بدأت بعد أن أخبرتني بأن أباها وأمها يرفضان العلاقة.. وأنها وحيدتهما.. فقررنا الانفصال.. وقطعنا ورقة الزواج العرفي.. لكن لم تنقطع علاقتنا.. أكلمها بين حين وآخر.. بل إنني في الخميس التالي لحادثة القتل اتصلت بها وقلت لها أنا عايز أتكلم معاكي شوية.. كنت أفكر في الاعتراف لها.. فأنا لم أكن قد حكيت لأحد.. وذهبت إليها فعلاً، وظللت معها حتى اليوم التالي، لكني لم أحكِ لها“.
“اليابانية” كانت تكبر شريف بعامين فقط. وربما كانت علاقتهما أكثر هدوءًا لأنه شعر بنوع من الإنجاز معها؛ أولاً حدَّثها عن الإسلام، وثانيًا تزوجها. لكنها كانت أيضًا علاقة ناقصة مثل علاقته بفيرونيك. كلاهما لم يكن على الصورة التي يحلم بها الآخر لشريكه أو حبيبه. لقد تصرَّف مثل بائع جسده للنساء الأكبر سنًّا (أو المعروف بالجوجولو). لم يرفض الطريقة التي سارت بها علاقته بفيرونيك.. قال إنها هي التي كانت تتصل به في أوقات فراغها لكي يذهب إليها.. كان هذا يحدث عادة يوم السبت.. وعندما يفكر هو في اللقاء يتصل بها فتقول له سأخبرك حينما يكون لديَّ وقت..
أسأله: هل هذا شكل مريح في العلاقة؟!
“عادة هي التي تعمل، ووقتها مزدحم.. أنا فاضي وأستطيع تدبير مواعيدي.. لم يكن لديَّ سوى تمارين الملاكمة أو كمال الأجسام“.
ولماذا تكون اللقاءات عادة في بيتها؟
“أنا ليس لديَّ بيت.. أقيم هنا في القاهرة عند زملاء لي في شقة بشارع عباس العقاد في مدينة نصر“.
هل حدثت لقاءات خارج البيت؟
“مرتين فقط في مطعم ماكدونالد“.
ماكدونالد!
“أيوه.. هي التي اختارت المكان.. كنت أُفضِّل أن نلتقي في إحدى العوامات الموجودة على النيل في الزمالك.. لكنها في المرتين فضَّلت ماكدونالد.. وأنا لم أعترض، لأنني كنت أفكر في كل مرة في الخروج من سيدفع الحساب؟!”.
وهل كانت تصرف عليك؟!
“لم يحدث هذا الا عندما كنا في ماكدونالد.. أعطتني لكي أحاسب“.
قال أيضًا انها لم تمنحه هدية إلا في عيد ميلاده.. وكانت دبدوب.. وهل يحتاج حساب ماكدونالد إلى معونتها؟! كان الحساب في كل مرة 23 جنيهًا.
كيف تصرف على نفسك يا شريف؟!
“أبي يعطيني مصروفًا 300 جنيهًا في الشهر.. وأمي تمنحني فلوس إضافية“.
أساله لا بد أن لديكم أرضًا لكي يستطيع والدك منحك مصروف يماثل مرتب موظف منذ عشر سنين، خصوصًا وأن لديه أربعة أخوة، بينهما اثنين ما يزالا في مراحل التعليم والصغرى تدرس في كلية طب المنصورة.. ولم تكن تستطيع من مصروفك أن تدفع 23 جنيها؟!
(يبتسم)..
ثم كيف عرفت الطريق إلى عوامات الزمالك؟
“نكون مجموعة من الأصدقاء في حفل راس السنة مثلاً.. وندفع الحد الأدنى“.
أسأله عن الأصدقاء.. وأعرف أنهم مجموعة عباس العقاد، وبالتأكيد من شريحة أعلى منه اجتماعيًّا، طيب.. ألم تفكر في العمل كي تصرف على نفسك بشكل أفضل.. أو كي تشعر بالندية في العلاقة؟
“بعد التخرج قدمت في كلية الضباط المتخصصين التابعة لأكاديمية الشرطة، لكنني رسبت في كشف الهيئة“.
ولماذا لم تعمل في مجال آخر.. أنت تقول إنك تجيد اللغات؟
“أحب اللغات كنوع من الهواية.. هي هوايتي إلى جانب الرياضة.. لكنني أريد أن أعمل في مجال تخصصي.. وعمومًا قبل الحادث فقط حصلت على وظيفة في إحدى مدارس القاهرة الجديدة.. وكنت سأبدأ التدريس في التيرم الثاني“.
شريف يحب عادة ارتداء البدل الكاملة (دون كرافتة) ويشتريها من محلات وسط البلد في القاهرة، أو من محلات شبيهة في المنصورة. وقد شعرت طول وقت الحوار يريد أن يعطيني صورة عن نفسه.. هو “أفندي” من أفنديات الطبقة الوسطى كما ربته عائلته. لكنه لا يمتلك الإمكانات إلا عبر مهارات تافهة. وهو في هذا يشبه شريحة من الشباب تسمى “الخِرْتية” يعيشون في العادة على هِبات السياح. ويقدمون خدمات مفتوحة (من الإرشاد السياحي وحتى الجنس والمخدرات). مفتاح العلاقة هنا هو إجادة اللغات والفهلوة وخفة الحركة وإجادة تقديم الخدمات. بدأت هذه الشريحة بمجموعات من الشباب العاطل الذين يحصلون على عمولة من أصحاب البازارات والمطاعم السياحية على اصطياد الزبائن لهم.. ومصدر سعادة الخِرْتية في العلاقة مع السياح إلى جانب المكافآت هو الشعور بالرضا المعنوي بالاقتراب من أشخاص خارج المجتمع الذي يسبب لهم الإحباط ويشعرهم بالعجز. تتسع شريحة الخِرْتية الآن لتشمل قطاعات من الطبقة الوسطى والمتعلمين الذين يحلون مشكلاتهم بالدخول في علاقة غير متكافئة مع الأجانب المقيمين في مصر. والملاحظ أن السنوات الأخيرة تشهد ازديادًا ملحوظًا في الأجانب الذين اختاروا مصر للإقامة؛ بداية من الباعة الجائلين الصينيين والأفارقة، مرورًا بالمغنيات والراقصات من روسيا، وحتى الفنانين من أوروبا وأمريكا. كانت فيرونيك من القطاع الأخير وأغلب علاقاتها كانت من الوسط الثقافي، وهو وسط أكثر انفتاحًا وتحررًا من المجتمع المحيط، ولهذا كان من الغريب أن يقع اختيار فيرونيك على شخص من دائرة أقرب إلى الخِرْتية بمفهومها الواسع الآن.. وتتعامل معه مثل بائع الجسد، فلم تكن تستطيع تقديمه لأصدقائها، كما أنها لم تصحبه ولا مرة إلى أماكن يمكن أن تلتقي فيها بأصدقاء قريبين من شكل حياتها.. لذا اختارت مكانًا عامًا يليق بشخص عادى. وهو لم يعترض.
سألته عن حدود معرفته بعالمها..
“لم تكن تتكلم كثيرًا.. أنا الذي كنت أحكي لها عن كل شيء.. لم أعرف عنها شيئًا سوى أنها كانت متزوجة من طبيب.. وانفصلا.. بعد ذلك عرفت أن السبب هو عدم الإنجاب.. لم أكن أعرف أنها مصابة بالسرطان.. عرفت من الناس بعد الحادثة“.
أليس غريبًا ألا تُدخلك إلى عالمها وتريد أنت أن تعرفها على عالمك؟
يجيب إجابات مبهمة “هي لم تكن تريد.. هي كانت تحبني وفقط.. كنت أذهب إليها وأجلس على الكمبيوتر.. وأستمع إلى الموسيقى“.
إلى مَن كنت تستمع معها؟
“روبي ويليامز.. وسيلين ديون“.
فقط! هذه أسماء يسمعها أي شخص يتابع فضائيات الأغاني.. ألم تعرفك على شيء خاص؟
“كانت تسمع موسيقى.. لكنى لا أعرفها“.
كانت تراه أداة للمتعة، وكان يعرف، لكن ولأنه ابن التركيبة العصرية التي تريد أن تفعل كل شيء وتغطي ذلك بمسحة من الشرعية الدينية، عرض عليها بعد لقائهما الجنسي الأول أن يتزوجا.. وردت عليه “لا أريد أن أُكرر غلطتي.. دعنا نعرف بعض أكثر.. كي لا يفشل الزواج مثل المرة الأولى“.
ويروي شريف أنه في الليلة السابقة على الحادثة اتصلت به فيرونيك وقالت “أنا فاضية بكرة.. ممكن أشوفك“. في الموعد ذهب شريف، ووجدها في انتظاره لكنها “كانت غريبة.. تتكلم بصعوبة.. وكانت تشرب خمرة (أخبرني أنه لم يشرب قط معها).. فاستغربت.. أنا أعرف إنها ممكن تكون عادية وهي تشرب.. بدأت تتكلم كلامًا غير مفهوم.. قلت لها لو تعبانة أمشي وأجيلك بكرة.. رفضت وقالت: أنا عايزة أعترف لك إنك مش الراجل الوحيد الذي أعرفه.. وأنني كنت أكذب عليك.. وأرجو أن تخرج من حياتي.. قلت لها لماذا تقولين هذا الكلام.. كان من الممكن أن تخفي عني.. أنا عرضت عليك الزواج.. قالت: أنت غبي.. فرددت عليها بأنها مومس (سألته كيف قالها بالإنجليزية فقال you are a bitch).. فحاولت صفعي على وجهي.. فصفعتها.. سقطت على الأرض.. حاولت ضربها بالكمبيوتر لأفقدها الوعي وأمشي.. اكتشفت أنها ما تزال واعية وتحاول ضربي بمفك الكمبيوتر.. فأمسكت بسلك الكمبيوتر وخنقتها به.. وبدأت أضربها بالمفك.. ولم أعد في وعيي نهائيًّا.. بحثت عن شيء آخر أضربها به.. فوجدت مقصًا ظللت أضربها به دون وعي.. واكتشفت أنني أضرب أيضًا في الأرض حتى انكسر المقص.. وهكذا حتى وصلت الطعنات إلى 58 طعنة“.
انتهت رواية شريف لليلة الأخيرة. لكن أسئلتي لم تنته؛ كيف كان شريف يتصوَّر الزواج وهو عاطل لا يعمل؟! في المرة الأولى (مع اليابانية) أخبر أمه وإخوته وأخفى عن الأب قصة الزواج العرفي “أمي قالت لي ما دمت تشعر بالراحة.. لا مشكلة“. ماذا كان سيفعل في المرة الثانية؟ لماذا تمرد على مشكلته الجنسية فقط، ولم يتمرد على البطالة وعدم تحقق الذات؟!
لم أسأله هذه الأسئلة طبعًا.. لكنني سألته “بماذا كنت تحلم يا شريف؟ ماذا كنت تتمنى أن تصبح في المستقبل؟! لم يحمل رده الأسى “أي شيء.. فقط أكون إنسانًا ناجحًا“، ولم أسأله عما يعنى النجاح بالنسبة له!