خروج النساء كان من عجائب ثورة 1919، والتحولات الكبيرة يتبعها تحولات لا يمكن ملاحظتها بالعين العجولة، ولهذا فالثورات لا تعرف بالإجراءت و الإجتماعات والتغيرات في بنية السلطة، ولكن بشيء صغير جداً
كأن يكتب شيخ وفقيه عن مظاهرة للنساء، وهذا ماحدث في الأيام الحمراء،الكتاب الذي أدرك مؤلفه أن التورط في المتابعة قد يعوق حتى الكتَّاب المحترفين عن تدوين ما يحدث بدقة في حدث كبير مثل الثورة، الشيخ عبد الوهاب النجار، مؤرخ وفقيه؛ ولد في 1862- وعاش حتى 1941؛ متخرج في دار العلوم، كتابه صدر قبل فترة قصيرة عن دار الكتب والوثائق المصرية تحت عنوان الأيام الحمراء: مذكرات الشيخ عبد الوهاب
النجار عن ثورة 1919″؛ إشراف و دراسة الدكتور أحمد زكريا شلق، الشيخ النجار كان يدوِّن كل ما كان يحدث، خوفًا من أن تضيع الحقائق، خصوصًا وأنه كان يرى أن الصحف المصرية آنذاك لا تذكر الحقائق كما وقعت، وأنها “لا تصْدُق قراءها“، ومع ذلك كانت الصحف مرجعًا رئيسيًّا في الكتاب، بالإضافة إلى ما وصل إلى علمه فتأكد منه عبر أكثر من مصدر ونسبه إلى صاحبه؛ وبلغ به تحري الصدق أن كتب– محدثًا نفسه– “ويجدر بي ألا أثبت شيئًا من فظائع الإنجليز وعسفهم في معاملة أهل الكتاب إلا بعد التثبت منه“.
كان عبد الوهاب النجار متنوع الإنتاج، فنشر في كل صحف ومجلات عصره، اللواء والجهاد والأهرام والرسالة وغيرها، كما كان له العديد من الكتب الأدبية والتاريخية والدينية؛ ككتاب تاريخ الإسلام الذي صدر في ستة أجزاء. حتى إنه وضع كتابًا مدرسيًّا وهو “زهرة التاريخ” الذي سجل فيه رحلته إلى الهند. وقد بدأ الشيخ النجار في كتابة هذه اليوميات بدءًا بيوم 10 مارس، أملًا في نشرها فيما بعد؛ وانتظر بالفعل 14 عامًا، حتى نشرها مسلسلة في صحيفة “البلاغ” عام 1933، بالعنوان نفسه، وهو اسم “صادق مسماه ولفظ وافق معناه” في إشارة إلى دماء الطلبة في تظاهرات سلمية تمامًا…
مظاهرة السيدات
أما المظاهرات فإنها اليوم- 16 مارس 1919- عامة شاملة في كل مكان، وقد امتازت بأنها سلمية منتظمة لم يشبها عنف.
ومما امتازت به مظاهرات القاهرة في هذا اليوم أن السيدات من كرام العقائل خرجن في حشمة ووقار ليعربن عن مشاركتهن للرجال في إبداء العاطفة الوطنية نحو بلادهن، وقد ألَّفن موكبًا فخمًا يتقدمه أربعة من طلبة الأزهر أمسك كل واحد منهم بطرف العلم المصري منبسطًا كما يفعل المسيحيون في بساط الرحمة عند تشييع موتاهم. ووضع الصليب داخل الهلال موضع النجوم في هذا العلم، ولم يسبق لي ولا لأحد أن رأى مثل ذلك قبل هذا اليوم، وكان خلف الأربعة الأزهريين أزهريان أيضًا يحملان علمًا آخر رسم في أعلاه هلال معانق لصليب. وكتبت على العلم الجملة الآتية: “الحرية من آيات الله… الحرية غناؤنا والاستقلال حياتنا” وسارت السيدات في صفين على جانبي الطريق تتوسطن واحدة منهن حاملة علمًا أبيض علامة للسلام، وفيه الهلال بلون أحمر.
وبلغ عدد السيدات المنتظمات في صفين 320 سيدة، وجاء خلف الصفين سبع سيدات. سرن صفًا واحدًا بعرض الطريق، وفي أيديهن عرائض كتبت فيها مطالب المصريين وفي مقدمتها استقلال البلاد.
وطافت السيدات في موكبهن أهم شوارع القاهرة، وقصدن إلى دور الوكالات السياسية للدول، كما قصدنا إلى ميدان سراي عابدين، وكانت حاملة العلم بينهن تهتف لاستقلال مصر وحريتها وبسقوط الحماية الإنجليزية والظلم، فتردد المتظاهرات هذا الهتاف في حماسة، وجميعهن رافعات أيمانهن بأعلام مصرية صغيرة مصنوعة من الورق أو القماش.
وقد خرج أكثر أهل القاهرة رجالًا ونساءً وأطفالًا لشهود هذا الموكب، وكانوا يرددون الهتاف على جانبي الطريق مع الهتافات، فوقع لذلك دوي شديد جدًا، وصادف مرورهن من ميدان الأوبرا بين الجنود الإنجليزية المحتشدة بسلاحها وعتادها الحربي، فلما حاذين فندق الكونتننتال تعرض الجنود الإنجليز للموكب فوقفن، وقد كثر عدد الأجانب للمشاهدين لهذا الموقف، وبعد عشرين دقيقة فسح لهن الجنود الطريق فسرن حتى وصلن منزل سعد زغلول، فحال الجنود الإنجليز بينهن وبين الوصول إليه ودخوله، وصوبوا البنادق إلى صدورهن، فتقدمت حاملة العلم إلى الضابط الإنجليزي القابضة يده على المسدس، وقالت وهي تكشف صدرها بيدها اليسرى (هذا صدري فهات ما عندك، نحن لا نهاب الموت ولتكن في مصر مس كافل أخرى- ممرضة إنجليزية مشهورة في الحرب العالمية الأولى واتهموها بالجاسوسية وأعدموها رميًا بالرصاص، وكان لهذا الحدث ضجة كبيرة في العالم) وظلت واقفة في مكانها والضابط أمامها برهة رهيبة أنثني بعدها خجلًا خافضًا سلاحه هاتفًا بعساكره “افسحوا الطريق”.
ولبث المتظاهرات ساعتين في شارع سعد زغلول وما حوله من الشوارع في حال حصار بالبنادق والسونكيات. وترك الجنود الإنجليز لهن طريق الرجوع، وسدوا عليهن طريق الوصول إلى منزل سعد زغلول باشا فأبين الرجوع وكان لهن ما أردن.
جاء إلى القاهرة اليوم مدير الفيوم، ويمم وزارة الداخلية فقضى فيها برهة ثم عاد إلى حاضرته، وكثر المتقولون والخراصون، فمن الأخبار التي لم أعرها اهتمامًا لاستبعادي وقوعها أن أهل مديرية الفيوم أعلنوا استقلالهم عن القطر المصري حتى تهدأ الأحوال وينتظم أمر الحكومة، وهذا كلام بعيد على العقل أن يتصوره، بل هو عريق في الوهم، لأن طريق البر من الجهة الشمالية للفيوم معبدة تسير فيها السيارات، وهناك قوة إنجليزية كافية.
وقد ذاعت أخبار لها شواهد تؤيدها، وهي أن الإنجليز كانوا في الأيام الماضية قد بثُّوا في أرجاء القاهرة وعلى أفواه طرقها وبعض الأقسام فيها جندًا استراليًّا وأفهموا أولئك الجند أن المصريين إنما قاموا بهذه المظاهرات كراهة للجنود الاسترالية.
ولكن الطلبة أذاعوا نشرة مطبوعة بالإنجليزية أعلنوا فيها أنهم يحترمون الجيش الإنجليزي، وأن ليس في قلوبهم ضغينة عليه ولا سخيمة، وأنهم إنما يقومون بالمظاهرة في سبيل حريتهم واستقلال بلادهم التي تريد حزب الاستعمار الإنجليزي التهامها، وقد استحلفوهم بالشرف العسكري أن لا يهاجموا قوما عزلًا من السلاح وأن لا يكونوا آلات في أيدي المستعمرين… الى آخر ما كتبوه.
والظاهر أن هذا المنشور أثَّر في عدد كبير من الجند، وإذ فشت مقالته بينهم فبدا من كثير منهم العطف على المصريين ومطالبهم، ويقول الناس إن الشقاق دبَّ بسبب ذلك بين الجند الإنجليزي والجند الاسترالي، فوقعت بين الفريقين مناقشة في جهات الهرم، واضطرت السلطات العسكرية الرئيسية إلى سحب الجند الاسترالي الذي كان يحرس الطرق والأقسام، واستبدلت هذه القوة بجند إنجليزي، وقد سمعت ذلك من كثيرين وتحقيقها على الوجه الأكمل غير ميسور، ويغلب على ظني أن شيئًا من ذلك قد كان.
كتبت أمس عن إضراب المحامين الشرعيين والأهليين، وقد علمت اليوم أن المستر إيموس المستشار القضائي بالحقانية كان قد كتب خطابًا إلى عبد العزيز بك فهمي نقيب المحامين، ينصح المحامين فيه بالعدول عن الإضراب، ويلفتهم إلى التبعة الملقاة على عاتقهم للأمة وموكليهم، ثم اقترح عليهم بصورة نصيحة العدول عن الإضراب وإلا اتخذت الحكومة الإجراءات اللازمة بشأنهم.
وكذلك أصدرت وزارة الحقانية منشورًا قالت فيه إنه يحسن إعلان الخصوم شخصيًّا بالطريق الإداري بتواريخ جلساتهم ليستعدوا للحضور بـأنفسهم في قضاياهم، ويقفوا على الأحكام التي تصدر فيها.
فمن أجل هذا كله اجتمع المحامون في الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم للإجابة على ما علموا، وكانوا نحو مائتي محام (حددهم عبد الرحمن الرافعي بـ 130 محاميًا، عبد الرحمن الرافعي، ثورة 1919، ط 4، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص 205). فلم يشعروا إلا بالجند الإنجليزي ومعهم المستر كارتييه رئيس فرقة الجواسيس المعروفة بالبوليس السري في محافظة مصر، ثم مأمور قسم عابدين ومعاونه، فأحاطت العساكر الإنجليزية بالعمارة التي فيها محل النقابة، وهو مكان الاجتماع، ثم صعد إلى المحامين كارتيية والمأمور والمعاون وبعض العساكر الذين أخذوا بباب المكان ونوافذه وسألوا جميع المحامين عن سبب الاجتماع في هذا المكان، فأجابهم وهيب أفندي دوس المحامي القبطي وإسماعيل زهدي أفندي المحامي المسلم بأنهم اجتمعوا في هذا المكان لأنهم محامون أضربوا عن العمل، وقد كتب مستشار الحقانية ينصحهم بالعودة. فهم الآن يهيئون الاجابة على نصيحته.
فأسرع المستر كارتيبه إلى التليفون، وتكلم مع جهة رسمية لا أعرفها، ثم عاد إلى المحامين وقال لهم ما يأتي “قد جاءنا بلاغ بأنكم تجتمعون اجتماعا خطيرًا، وبغير إذن، وأنه يوجد في هذا المكان أسلحة” فقال له المحامون: “هذا المكان أمامك ففتش كل حجراته، وابحث عن السلاح الذي تدعيه في أي مكان شئت” فأطرق كارتييه وبعد قليل رجاهم في أن يجعلوا هذا الحادث كأنه لم يكن وانصرف.
وفي هذا اليوم استُدعي الجنرال واطسن القائم بأعمال القائد العام للجيوش الإنجليزية بالقطر المصري جميع اعضاء المقيمين في القهرة وجعل موعد لقائهم الساعة الخامسة والدقيقة ال 30 بعد الظهر، فذهبوا إلية جميعًا ومكثوا إلى الساعة ال 7 والدقيقة ال 45، ثم خرجوا إلى منزل سعد زغلول باشا.
وكل ما استطعت أن أصل إليه من أخبار هذا المقابلة هو أن القائد قال لهم إنه يحملهم تبعه هذه الأعمال المنتشرة بالقطر المصري، فأجابه عبد العزيز بك فهمي من أعضاء الوفد، وهو نقيب المحامين الأصليين والعضو المنتخب في الجمعية التشريعية عن مديرية المنوفية، قائلًا إننا لا نحمل تبعه شيء مما حصل، لأننا لم نأمر به، وكل إنسان في مصر إنما يلبي صوت ضميره ويعمل بما عنده من الحالة النفسية التي استولت على مجموع الأمة.. فأجابه القائد أنا لست محاميًا ولكني رجل عسكري، وانا أمهلكم أربعًا وعشرين ساعة فإما أن تكتبوا كلمة للأمة تتبرأون فيها من أعمالهم ثم تنصحونهم بالعدول عن هذه الاعمال وإلا فإنكم تحاكمون أمام محكمة عسكرية.
وكان يترجم بينهم وبينه المستر إيموس المستشار القضائي بوزارة الحقانية، وقد أخبرني حضرة البكباشي علي زيتون أفندي أن القطار الذي كان مسافرًا إلى الصعيد وعاد من (الرقة) لتعطل الخط قد نهب الثائرون من خمسه آلاف وستمائة جنية كانت مرسلة به حوالات بوسته وغيرها. وأن هذا هو السر في إصدار مصلحة البريد الأمر لمكاتبها بعدم قبول النقود المصورة ولا الخطابات المؤمن عليها.
وصل إلى سمعي من بعض الشبان أن الطلبة يستعدون لمظاهرة هائلة جدًا، وسيحملون أمامهم فيها علما مكتوبًا عليه فليحيا (الاستقلال – الجلاء – الجلاء) وعلمت أن الطلبة قرروا صنع أعلام الدولة جميعًا ليرفعوها في أثناء هذه المظاهرة، وقد استثنوا منها علم دولة بريطانيا العظمي.
ووقعت بين يدي نشرة قصيرة العبارة فيها دعوة السيدات المصريات إلى مشاركة الرجال في إظهار الشعور الوطني بمظاهرة حافلة، والظاهر أن هذه النشرة كانت السبب في موكب السيدات الذي تكلمت عنه.