في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
اللحظة التي نعيشها مختلفة.. تفجرت كل البراكين الخامدة بعد ثورة يناير؛ الأيام الأولى انشغلت بتغيير الرئيس وإزاحة نظامه، لكن الخروج الكبير دفع كل البراكين للانفجار، وكشف غطاء الانسجام، وتطايرت شظايا الأسئلة المكبوتة.. كل شيء أصبح قابلاً للنقاش والجدل والاستقطاب.. حالة من الفوران تهدم فيها كل التوازنات القديمة، بكل ما في الهدم من عنف وقسوة ونقاشات تبدو أحيانًا تنطلق من “الصفر”؛ أين ستذهب حالة الفوران والهدم؟
هذا السؤال لا يهمنا، فموضوعنا لا تنطبق عليه ثنائية الذكورة والأنوثة، بل هو صراع لتفكيك النظام الأبوي، الذي تهيمن حكايته على حياتنا وتفسدها، ويقدم نفسه باعتباره “النظام الطبيعي”، أو “الفطرة الإلهية”.
عبر الزمن والتجارب؛ لا يمكن أن تواجه الذكورة المفترسة/المتوحشة/المجرمة التي يمثلها النظام الأبوي بإيقاظ الوجه الناعم/اللطيف/الودود المتعاطف مع حرية المرأة ومسيرتها نحو المطالبة بالمساواة والعدالة.. ولا في تاريخ طويل من محاولات إزالة العداء للأنوثة أو الحدود الموضوعة لمكان النساء في الحياة، وهي جميعًا تضع المرأة من يوم مولدها في حيز الأقليات الضعيفة والمقموعة التي تتحمل كل أزمات البشرية.. القصة هذه المرة أكبر؛ لن تتم على طريقة مناوشات صحفية أو تليفزيونية “نصير المرأة” و”عدو المرأة”، أو الغطس لإثبات أن “النصوص المقدسة” تحترم المرأة سعيًا لإظهار الفارق بين النص والواقع، أو محاولة التدليل على محبة الناس بالثناء المفرط لأدوار الأم والأخت والزوجة والابنة، وهي كلها تنتمي إلى دور المرأة في العلاقة مع الرجل، وتمثل أحد الكليشيهات البليدة لاختزال إنسانية المرأة في الدور الذي تلعبه لصالح الرجل. وطبعًا ليست محاولة لإثبات أن المرأة بـ”ألف رجل”، وهو شكل المديح المبتذل للمرأة باعتبار الرجولة وحدة قياس، والتفوق الرجالي سقف الكون.
أهذه محاولة لتطهير الذات؟ قال صديقي بعد قراءة الحلقة الأولى من “الذكورة الجريحة “قبل أن يتوقف عند العلاقة بين جرائم أحمد بسام زكي وبين حكاياتي الذاتية، التي أتأمل فيها محطات في تربية “الذكر” المصري السني المسلم؛ حسب الكتالوجات العمومية، والتي تتباين من مرحلة إلى مرحلة. وأحيانًا تتناقض، لكنها جميعًا تسعى إلى صنع “مجرم محتمل”.. احتار صديقي في الربط بين التأملات الذاتية وبين سياقات العنف ضد المرأة، ومنها جرائم أحمد بسام زكي، وسألني أهي إدانة للذات قبل تقديمها.. وهل الإدانة لأنك كنت “مجرمًا محتملاً” أم لأنك فشلت في أن تكون هذا المجرم؟ أجبت بلا تفكير “بالضبط، أريد الكتابة بإحساس التورط في الجريمة.. الكتابة من داخل ذات مجرم محتمل”.
وربما يحرِّك التورط رغبة القطيعة مع “بيئة الجريمة” وهي قطيعة تحتاج إلى قسوة لنتابع مسار الخروج من نظام التربية كله، بما في ذلك الجانب الحنون من الذكورة، الذي يعامل النساء باللطف المناسب للكائن الأضعف، أو حتى التعاطف مع المرأة بسبب الظلم التاريخي الذي تعرضت له، دون تفكيك الرواية التي جعلت النظام الأبوي يبدو كما لو كان “طبيعة الأمور”، مع أنه مجرد نظام يهيمن على المجتمع وتاريخه، ويرسم صورة للذكورة والأنوثة منذ لحظة الولادة.
في هذا النظام تدفع المرأة مثلما يدفع كل الضعفاء والمهمشين أثمانًا باهظة في الأزمات الاجتماعية، أو حتى في استعراضات البطولة والانتصار. والذكورة الحنونة جزء من الذكورة الإجرامية، ومكمل لها، وربما ساعدت على منح المرأة بعض الحقوق والمساحات والحريات، لكنها بقيت عناصر ضغط ضمن النظام الأبوي الذي خلق بيئة “إجرام” غير مجرمة ضد النساء. النظام الأبوي/البطريركي؛ مثل الحرب استطاع أن يبني حكاية تهيمن على تفكيرنا ورؤيتنا للعالم، ليس باعتباره حكاية لها بداية وذروة ونهاية؛ بل باعتبارها الحكاية التي لا مهرب منها. توزع الأنصبة في الحياة كأنها يد القدر، أو اليد الإلهية وليست نظامًا له سياق تاريخي. النظام الأبوي عزل الذكورة عن التفاعل، ووضعها في مرتبة السيادة والقيادة، ماحيًا فصول من التاريخ الإنساني وتفاصيل من العلاقات الاجتماعية، لتبقى حكايته هي الحكاية، وعلى الجميع ذكورًا وإناثًا الاندماج فيها، ولو بالمقاومة والاعتراض.. الاندماج والمعارضة وجهان لتصديق الحكاية. واعتماد “الاختلاف البيولوجي” باعتباره أساسًا لترتيب الحياة. وهكذا نحن في لحظة لا يستوعبها التعاطف، هي لحظة أقرب إلى هدم حكاية متغلغلة، أكبر من احتجاج أجيال الستينيات على استمرار جيل الحرب الذي أدى إلى كارثة الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها 80 مليون إنسان وتدمرت بسببها المدن وتشرد اللاجئين.. لحظة إدراك زحزحت الحرب عن مكانها المقدس.