الفتوة، مكان شاغر دائمًا، مع أن زمنه انتهى بقانون صدر سنة 1936 لينهي الاعتراف الرسمي لنظام الفتوة باعتباره مؤسسة الأمن التي مهمتها الحماية في شوارع مصر.
الفتوة فكرة غائبة، تتجاوز التعريفات اللغوية التي تصف فترة بين المراهقة والشباب؛ بما فيها من إيمان شبه بدائي بالقوة في الجسد ونبل الأفكار المجردة.. تتجاوز فكرة الفتوة أيضًا مسارها التاريخي لتعبر عن فقدان حالة خيالية من “الرجولة الحامية”؛ ليست تلك بالضبط التي انتصرت بها الدولة العثمانية، وسيدتها في البلاد الخاضعة لها نظامًا زمنيًّا يضمن الولاء لسيد الفتوات القابع في القصر، أو لقيم القوي العادل الذي يوسع الحماية ويطلب مقابلها أموالاً وخضوعًا.
الفتونة حنين خفي لعالم قديم؛ تتناسل الصور عنه بعد حذف السياقات التاريخية والاجتماعية ليبقى منها ما يجعله مثالاً ونموذجًا للعجزة والبائسين.. أو مانيفستو خفيًّا لكل من يعش هزائم يومية، ويعيش محشورًا وسط ضغوط الحياة المعاصرة بينما رأسه وعقله الباطن محشوان بالأمجاد الغابرة.. اليوتوبيا الضائعة.. وكل ما يجعل انتظار “الدكر” أو “الفتوة” حلم النرجسية الجريحة.
هذا العالم القديم يصحو عندما تتحول الحياة إلى فشل يومي في الاختيارات والاختبارات التي يفرضها واقع يغيب فيه العدل، ويخفت العالم القديم والفتوة في مركزه حين يعيش المجتمع فانتازيا المجتمع السعيد، الذي يمد يديه ليلمس أحلام انتصاراته الحديثة التي تبعد خطوات عن حشو الأمجاد البليدة، لهذا ينتظر البؤساء “الذكر المجنح” لينقذهم، وعندما يفشل لا يملون من انتظاره ليقوم مجددًا، كما يحدث في عقل جماعي لا يزال يرى في صدام حسين ذكرًا غائبًا، بل إن هناك من ينتظرون عودته من الغياب، كما يتغنى كل المطحونين في جحيم الديكتاتوريات بذكورهم المهزومة، انتظارًا لوعد الفانتازيا الذي ينسج خيالاً يساعدهم على تحمل الجحيم.
لهذا أيضًا بعد أن يصفع الفتوة الذكر حبيبته ذات ملامح الجمال البلدي تصرخ “برضو بحبك يا وحش”! كان فريد شوقي بطل هذا المشهد في ذاك الوقت فتوة جمهور الترسو، وبطلهم الذي حطموا شاشة السينما عندما عرضت فيلم “باب الحديد” ولم يسمح له فيه بخوض معارك تنتهي-كالعادة- بانتصاره على الأعداء. هذا الكسر في صورة فتوة السيما وشجيع الشاشات، الذي كان يسجل في عقود أفلامه شروطًا تلزم فريد شوقي بخوض 3 معارك على الأقل خلال زمن الفيلم!
المدهش هنا، والذي أتوقف عنده في رحلتي خلف الذكورة الجريحة، أنه في نفس تلك الفترة تقريبًا كانت هناك صورة أخرى تقدمها الصحافة الفنية لشجيع السيما فريد شوقي، وهذه إشارة جديدة بأن الواقع متخيَّل أساسًا، أو من صنع أفكار تعبيرية عن موازين القوى؛ يطمئن المستهلكين لها كلما اعتبروها قدرًا، أو من طبائع الأمور، أو يتطرفون ساعة الخطر ويرفعونها حزمة من “القيم الأصيلة” ودليل واقعي على وجود” ما يجعل الأرض تدور والمساء تقام دون أعمدة”..
كان فريد شوقي مقيمًا في منطقة عابرة؛ عالقًا بكل معنى الكلمة بين أزمان متقاطعة، وخيالات متصارعة، لم يكن نموذجًا للنمط التقليدي لهذه القوة المجنحة التي نحتاجها كضعفاء (الوحش /الفتوة؛ وهو بالطبيعة رجل..) لكنه استطاع أن يخلق شكلاً عصريًّا لمنطقة وسط تجعل الحبيبة تتغزل فيه بينما تتلوى من صفعته، ويبدو ذلك في نفس الوقت اختيار وليس قدر الجواري أو النساء في العصور الذكورية.
فريد شوقي فتوة؛ صنعه خيال مرحلة مرتبكة بين النرجسية الباكية على ذهاب زمن جميل، وبين رغبة في تقديم نسخة محلية من الأسرة كما قدمتها حداثة الخمسينيات و الستينيات. في الارتباك تخرج الصور عن مجال الأحلام الباطنية، وما تفرضه قلة الحيلة، ليعمل خيال الناس بحرية أكبر من دأب البروباجندا السياسية على تصوير جمال عبد الناصر في صورة الفتوة الذكر/الأب الحامي قاهر الاستعمار.
الزعامة كانت تحتاج التأكيد على تحقيقها للانتظار الدائم للبطل المنقذ؛ دكر الأمة الناهض من الرماد ليحقق الانتصار، وهي صورة تتوالد من لاوعي أنظمة الدولة التي بنيت على توافق خطر بين الشكل الحديث للدولة، وشرعيتها المعتمدة على سيادة الشعب، وبين الشعور بالحنين إلى دولة تعامل الحاكم على أنه الذكر المتغلب مبعوث العناية الإلهية.
وقد كانت السينما مجال التحرر النسبي من تناسخ هذه الصور، وهو ما قدم الصورة المركبة لفريد شوقي وحش الشاشة في الخمسينيات والستينيات.