« وقبل أن أتصدى لفك هذا اللغز، أريد أن استعرض بعض المسلمات. وأولها: أن المكتبة أبدية» هكذا يكتب خورخي بورخيس متخيلا العالم «مكتبة لانهائية» والمكتبة نفسها «كوناً لامحدوداً». مكتبة بورخس نص مفتوح للتأويل.. مكتبة لا يوجد كتابان متطابقان، وإنما سجلات للعجائب.
هنا رحلة في مكتبات عدد من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب. فالمكتبة الشخصية ، ليست مجرد خزانة للكتب، وإنما ” كون” أو “حياة”. كل مكتبة هى نوع من السيرة الذاتية لصاحبها،( كما يقول ألبرتو مانغويل) كل كتاب يحتفظ باللحظة التى قرىء فيها أول مرة، ورقة منسية تؤشر على صفحة ما لسبب يبدو غامضا، الخربشات على الهوامش، ملاحظة بقلم رصاص، ربما رقم هاتف، أو تذكرة مترو أو أتوبيس، بطاقة بريدية، أو وردة من حبيبة، تواريخ قراءة الكتاب المتعددة..ربما أشياء أخري.
**
في عام 1958 بدأ أحمد بهاء الدين سلسلة زيارات لمكتبات المثقفين العرب، لنشرها في مجلة “صباح الخير” التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت. كتب بهاء أنه أندهش عندما اكتشف أن عددًا كبيرًا من الكتاب الشبان، وقتها، لا يقرأون، ولا يعرفون شيئًا عن التراث. فكر بهاء فى “الأساتذة الكبار” الذين تُعَدُّ سنوات جهدهم وإنتاجهم لا بالسنين، ولكن بعشرات السنين. يكتب “فكرت أن أزور مكتباتهم وأن أتجول فيها، فكرت أن أقدم لزملائي ولقرائي، ولنفسي، صورة من الجهد الذي صنعهم، والذي صنعنا من بعدهم“. اكتفى بهاء بزيارة أربعة مكتبات فقط: طه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض، وساطع الحصري.
كان طه حسين نفسه قد وصف “الكتاب الشبان” الذين التقاهم فى برنامج تليفزيونى شهير بأن عيبهم الأساسي هو قلة القراءة وعدم الصبر عليها…كان يقصد وقتها نجيب محفوظ ولويس عوض، ومحمود أمين العالم ويوسف السباعي عبد الرحمن الشرقاوي، وكامل زهيري وعبد الرحمن بدوي، وأمين يوسف غراب (الذين حضروا الحوار التلفزيونى الشهير معه).
**
لم يكن يعنيني، عندما بدأت التفكير فى الكتابة عن مكتبات الأدباء، أو غرفهم الخاصة شيئًا مما كان يقصده أحمد بهاء الدين، لم أسع إلى الآباء المؤسسين للثقافة العربية بقدر ما كنت أرغب فى الاطلاع على مكتبات “الجيل الجديد“، حسب تصور طه حسين، الذي جاء بعد هؤلاء، الجيل المتهم بعدم القراءة من الأساس، أو نقص المعرفة، لم أكن أسعى إلى المكتبة بهدف الإرشاد… وإنما بحثًا عن “الأثر“.
ما كنت أبحث عنه خلال تلك الرحلة هو مظروف الخطاب الذي تركه العقاد من قارئ فى مجلد مجلة الرسالة، التي استقرت في مكتبة جمال الغيطاني، ترك العقاد ملاحظاته على ما يقرأ من مقالات، أو الإهداءات التي كتبها نجيب محفوظ لصلاح جاهين “النجم الثاقب“، “المتعدد المواهب“. ويصف صلاح جاهين محفوظ في إهداء أعماله الكاملة “إلى مرآة عصرنا“… بينما يكتب محفوظ لتوفيق الحكيم “تحية الجدول إلى المحيط“. كنت أبحث عن ذلك الخطاب الذي تركه محمد حسنين هيكل للطفي الخولي فى أحد كتبه يطلب منه ألا يقرأ الكتاب حفاظًا على صحته، لاختلافهما السياسي فيما يتعلق بمفهوم التطبيع… وتلك الاستقالة التي كتبها خالد محي الدين عام 1953 لمجلس قيادة الثورة ولم يقدمها… بسبب دفاعه عن حقوق العمال… ولكنها أعادها مرة أخرى بعد عام واحد في مارس 1954 دفاعًا عن الديمقراطية.
**
كنا صغارًا؛ مكتبة أبي متاحة لنا؛ كتب الفقه والتفسير والسيرة، وقصص الأنبياء ومعاجم اللغة. نقرأ ما نشاء وقتما نشاء، المهم أن نقرأ. تكونت لدينا حصيلة لا بأس بها من المعلومات، التي كنا نتباهى بها على أصدقاء الطفولة. كنا نتفاخر بأننا نعرف اسم البئر التي أُلقي فيها يوسف الصديق، أو اسم كلب أهل الكهف، أو اسم فيل أبرهة الحبشي؟
ونستطيع أن نجيب على الأسئلة التي لا يعرف إجابتها كثيرون: هل فرعون موسى هو رمسيس الثاني أم الوليد… الأرض التي نزل إليها آدم… واسم الحية التي تسببت في طردها ولونها… اسم الكبش الذي افتدى إسماعيل؟ ومئات غيرها مما تمتلئ به كتب التراث… وتكشف عن عقلية مولعة بالعجائبي والساحر. كانت معلومات لا فائدة منها سوى الاستعراض، تصلح لحل الكلمات المتقاطعة أكثر من كونها تشكِّل منهجًا أو طريقة فى التفكير.
ولأن مساحة المكتبة كانت أصغر من أن تستوعب كل الكتب، وضع أبي الكثير منها فى صناديق ودفع بها أسفل سرير نومه، كانت الكتب “الممنوعة” أو بالأحرى المخبأة أكثر إثارة بالنسبة لنا من الكتب المتاحة، لذا كنا نتسلل – شقيقي وأنا – لنمزق جزءًا من هذه الكراتين لمحاولة معرفة سر هذه الكتب. شاهدنا ذات مرة، فقرر أن يقوم هو بإخراج وفرزها… وناولني، ولم أكن تجاوزت العاشرة، كتب “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم، و“شجرة البؤس” و“دعاء الكروان” لطه حسين، و“خان الخليلى” لنجيب محفوظ، و“نداء المجهول” لمحمود تيمور، وروايات مترجمة نزعت أغلفتها فلم نعرف عناوينها… قرأنا هذه الكتب بشغف، ثمة متعة أخرى في هذا العالم، طرق أخرى للتفكير والكتابة والمساءلة… تحررنا من ثقافة الكلمات المتقاطعة والشغف بها. انفتحت لي طاقات أخرى مختلفة أبعد من قراءات الطفولة.
**
عن تلك الصناديق المغلقة كنت أبحث، عن صندوق نجيب محفوظ المخبأ فى الصندرة، بما يحتويه من أعمال وقصص ويوميات وقصاصات من أعمال غير مكتملة.صندوق مشابه فى بيت إدوار الخراط، كان يضم الرسائل التي تبادلها مع زوجته، وكتبها بالفرنسية في فترة الخطوبة… لم يكن صندوق الخراط فى غرفة المكتب…لأنه البيت كله كان مكتبة…بل بجوار سرير نومهما… أما المكتبة فعلى العكس من محفوظ، احتفظ الخراط بكل الكتب؛ الغث والسمين، وترك أرشيفًا هائلاً للثقافة العربية؛ رسائل وأوراق ونصوص.
صناديق عديدة تركها لطفي الخولي سيناريوهات غير مكتملة لأعمال فنية اتفق مع يوسف شاهين على تنفيذها… وروايات وقصص ناقصة… وأوراق سياسية “سرية للغاية“… كانت جميعها مرسلة إليه من منظمة التحرير الفلسطينية، وتقارير يومية عن الانتفاضة الأولى، ورسائل متبادلة بين قادة المنظمة وزعماء عرب… وتقارير حول الوضع العربي… طبعًا هذه التقارير السرية تخص فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
***
ولكن هل للمثقفين العرب قراءات سرية؟
لم يكن يوسف إدريس يطيق صبرًا على القراءة، ما أكدته زوجته رجاء الرفاعي. كان يرى الإبداع وحيًا، وموهبة متفجرة، وإلهامًا. لذا كان معظم الكتب التي تحتويها مكتبته إهداءات من الآخرين، كان الاستثناء الوحيد هو الكتب العلمية، ليس بحكم دراسته الطبية، ولكن المكتبة تحلق فى فضاءات أخرى مثل علوم الفضاء، والكون…كان حلمه أن يكتب قصة ما يحدث داخل جزيئات المادة، التي تبدو هادئة على السطح ولكنها تمور فى الداخل بصراع الذرات. كان إدريس هو الوحيد الذي لا يمتلك غرفة تخصه للكتابة أو للمكتبة، كانت مكتبته ومكتبه فى صالة البيت أمام الجميع.
ولع إدوار الخراط بالجسد الإنساني، واضح سواء فى رواياته، أو حتى محاولاته التشكيلية، احتفظ الخراط خارج رفوف مكتبته بأعمال الماركيز دو ساد، وكتب الباءة والجنس العربية الشهيرة، استبعدها خارج رفوف المكتبة، خبأها في أدراج المكتب.
هل أخفاها كي لا تقع تحت أيدي “لصوص الكتب” من زواره… أم أن قراءة هذا النوع من الكتب لا يزال سرًّا؟!
أما نجيب محفوظ فقد كان عاشقًا مولعًا بأجاثا كريستي، مع أنه كان يتوقف في شهور الصيف عن الكتابة بسبب حساسية العين، فإنه لم يكن يتوقف عن القراءة، لكن في موضوعات مختلفة عما يقرأه في بقية الشهور. كان يعود إلى قراءات الطفولة، وتحديدًا الروايات البوليسية، وخصوصًا أجاثا كريستي وألفريد هيتشكوك.
ذات يوم التقاه أحد أصدقائه حاملاً روايات كريستي، فسأله ساخرًا «هل تقرأ هذا النوع من الروايات؟»، أجابه محفوظ «لا، لقد أحضرتها لابنتي». كان محفوظ صادقًا، فقد كان يشارك ابنتيه في قراءة هذه الرواية البوليسية التي كان مولعًا بها منذ الطفولة، بل هي التي قادته إلى عوالم الكتابة، أو ما أسماه «أبواب السحر ومدائن الغرائب».
يقول محفوظ لجمال الغيطاني في كتاب «المجالس المحفوظية»: أعطاني صديق رواية بوليسية، وكانت خارج المقرر الدراسي. منذ هذا اليوم لم أتوقف عن القراءة. منذ صغري كنت أقرأ ما يكتبه حافظ نجيب، وكان (حرامي مثقف) وعربيدًا دَوَّخ الحكومة، وأصبح أشهر مؤلف قصص بوليسية، ومن أشهر مؤلفاته «جونسون» و«ميلتون ويب». هذه السلاسل كانت بديلاً عن كتب الأطفال، ثم توصلت بعد ذلك إلى سلاسل أخرى. وعن طريق كتب الأهرام المترجمة بدأت دائرة قراءتي تتسع، فكنت أتابع إعلانات هذه الكتب بالجريدة، وأسارع إلى شرائها، ولم أعد بحاجة لاستعارة الكتب من صديقي العزيز يحيى صقر (زميل محفوظ في المدرسة، وزميله في فريق كرة القدم أيضًا).
غرام محفوظ بالقصص البوليسية هو الذي قاده أيضًا إلى السينما كاتبًا للسيناريو. وكان أول أفلامه «المنتقم» 1947 عن قصة خُط الصعيد، والثاني «ريا وسكينة» عن قصة السفاحتين الشهيرتين، ثم «جعلونى مجرمًا»، و«الوحش»، والمذنبون، وغيرها من أفلامه التي يبدو فيها ولعه بمقاربة حكايات الجريمة.
فضلاً عن أعماله السينمائية يبدو الخط البوليسى واضحًا فى الكثير منها تحديدًا «اللص والكلاب». ولكنها لا تخلو من طابع محفوظي حيث تحتوي على أبعاد فلسفية واجتماعية وسياسية وأخلاقية. وفى “ميرامار“
في المسودة الأولى؛ كانت رواية محفوظ تبدأ بجريمة قتل فى ليلة رأس السنة، لكن محفوظ غيَّر الحبكة، فى النص النهائي، سنجد أننا أيضًا أمام جريمة قتل بلا قاتل ثم يثبت أنها انتحار… في الرواية عناصر الرواية البوليسية التي تقوم على الغموض والتشويق والمجهول… ويلهث القارئ محاولةً للوصول على إجابة عن السؤال: وماذا بعد؟
سنجد تأثرًا محفوظيًّا خاصًا، وخصوصًا بناء الشخصيات وملامحهم استوحاه محفوظ من رواية أجاثا كريستى الشهيرة And Then There Were None (لم يبق أحد).
تدور رواية كريستى حول عشرة أشخاص ينزلون إلى فندق فى جزيرة، يموتون جميعًا بعدها واحدًا إثر الآخر، وشيئًا فشيئًا يُدركون أن القاتل بينهم. وفي النهاية تصبح القصة لغز غرفة مغلقة، حيث تموت كل الشخصيات، وتبقى الشرطة مع عشر جرائم غير محلولة، ويعجز البوليس عن حل اللغز مع موت الجميع، وفى النهاية يجد بحار رسالة فى زجاجة يكشف فيه المرسل أنه قتل تسعة على الجزيرة، ثم انتحاره. أحد المقتولين شخص عابث يعشق النساء والخمر، وقيادة السيارات بسرعة جنونية، هل هو حسني علام فى ميرامار محفوظ؟ وهل كان الجنرال المتقاعد الذي نكتشف أنه القاتل في النهاية… هو عامر وجدي فيما بعد فى ميرامار محفوظ؟!
***
أما المثَّال المصري الشهير محمود مختار، فقد ترك تراثًا ضخمًا، ومشروعات عديدة لم تكتمل، وأوراقًا وصورًا تشكِّل أرشيفًا لحياته الفنية والخاصة، يضم عشرات الصور الفوتوغرافية لأعماله الفنية التي لم يعرف مصير بعضها، فضلاً عن صوره الشخصية وصوره مع أصدقائه في مناسبات متعددة، وبعض صور لأصدقائه وللشخصيات التي نحت لها تماثيل، وبعض الخطابات الشخصية، والأوراق الخاصة، كذلك يحوي أوراقًا تتعلق بالعمل في تمثال نهضة مصر، وبعض أوراق “جماعة الخيال” التي شارك مختار في تأسيسها في العشرينيات من القرن الماضي، وكانت تضم مجموعة من الفنانيين والأدباء المصريين والأجانب المقيمين في مصر.
وقد تجمع هذا الأرشيف من ثلاثة مصادر رئيسية، أولها ما آل إلى الأسرة وحافظ عليه ابن شقيقته بدر الدين أبو غازي، بل أضاف إليه مما جمعه من أوراق وصور كانت لدى أصدقاء مختار، وما تجمع لدى أحد تلامذته المهتمين بإحياء تراثه الفنان الراحل علي كامل الديب الذي كان سكرتيرًا عامًا لجمعية أصدقاء مختار في مراحلها الأخيرة، ثم ما احتفظت به صديقته الفرنسية مارسيل دوبري. آل هذا التراث إلى حفيده عماد أبو غازي وزير الثقافة الأسبق… أما المكتبة فقد تبق منها ما يقرب من700 كتاب تكشف عن تأثيرات الفن الغربي عليه، واهتمامه الأكبر بالمثال رودان…لكن الاهتمام الأكبر لدى مختار كان بألف ليلة وليلة… طبعاتها المختلفة… وترجماتها الفرنسية… هل استلهما في أعماله؟
***
فى كل المكتبات السياسيين والفنانين التشكيليين، الأدباء (شعراء وروائيين)، اختلفت الكتب من مكتبة إلى أخرى… وحدها “ألف ليلة وليلة” الكتاب المشترك الوحيد… وكأنه الكتاب المقدس للمثقفين العرب!
***
فى المكتبات العامة لا ديمقراطية، يراها البعض مراكز لممارسة السيطرة، تحدد السلطة ما يجوز أن تقرأ، ما يجوز لك استعارته، وتحدد لجان بيروقراطية عناوين الكتب التي يمكن إمداد هذه المكتبات بها. لهذا هي ليست المكتبة المثالية. فالمكتبة المثالية «تحمل على الأقل سطرًا واحدًا كأنه كتب حصريًّا لك»! كما يقول ألبرتو مانجويل… وفى كل مكتبة من المكتبات الخاصة كان هناك سطور مشاغبة تنمو بلا نهاية… وطاقة تحرر، لكل مكتبة شخصية حكاية ينبغي أن تحكي. إنها، كما يقول دانييل ميناجيه، مكان الأحلام والأسرار!