ضحك وهو يحكي لي الحكاية، وغيَّر صوته ليقترب من النبرة الشهيرة ليوسف وهبي “تعال يا يوسف أفندي مثِّل معايا في فرقتي.. وسيبك من المحاماة”، فرد عليه يوسف درويش “أنا أُمثل كل يوم في المحكمة أمام القاضي”. ويبدو أن العلاقة انتهت عند هذا الحد، واقتصرت على حدود الذهاب في أيام الإجازات لمشاهدة مسرحيات يوسف وهبي في شارع عماد الدين. الشارع نفسه الذي شاهد فيه مسرحيات علي الكسَّار قبل أن يعرفه شخصيًّا عن طريق صديق في مقهى كان موجودًا في ممر كوداك بشارع عدلي.
“كانت حياة يوسف درويش ستتغير!” هتفت بسمة حفيدته وسط ضحكات الإعجاب بحكاية يوسف وهبي.. بسمة ممثلة الآن.. وترى أن جدها “وسيم.. وجان.. وله كاريزما.. كان يصلح فعلاً لكي يكون ممثلاً”. وتخيَّلت ماذا سيحدث لو استمع يوسف درويش إلى النصيحة، وأصبح نجم سينما أو مسرح.. هل كانت السياسة ستصبح تجربة عابرة في حياته كما كانت بالنسبة لتحية كاريوكا مثلاً؟!
تحية كاريوكا كانت عضوًا نشيطًا في تنظيم شيوعي.. التقت يوسف درويش في اجتماع خاص لإنشاء لجنة باندونج.. على أهداف اجتمعت عليها بلدان العالم الثالث وقتها لمقاومة فكرة الأحلاف التي لمعت بعد أفول الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. عبد الناصر رفض أيامها حلف السنتو (أو المعاهدة المركزية) الذي عرفناه باسم “حلف بغداد”، وكان يضم إلى جانب نظام نوري السعيد في العراق.. تركيا وإيران برعاية أمريكية؛ سُمي وقتها “مخلب الاستعمار” وكان كما قرأنا عنه محاولة لبناء قاعدة للوجود الأمريكي.. ورفض عبد الناصر هو الخطوة الأولى في بناء زعامة أوسع من فكرة القائد الخفي لحركة الجيش.. محمد نجيب أجبر على الانسحاب نهائيًّا، والديموقراطية لم تعد الخيار الأول لجنرالات الثورة.. ولم يعد هناك أمل في عودتهم إلى الثكنات.. تأجلت الديموقراطية.. وتأجل كل شيء من أجل المعركة الخارجية.. معركة مقاومة أطماع الاستعمار.. ومن بعدها إسرائيل (ولا الاستعمار رحل ولا إسرائيل انتهت.. وطبعًا كانت الديمقراطية ماتت من الاختناق تحت أناشيد والله زمان يا سلاحي).. والمفارقة أن زعامة عبد الناصر ولدت في هذه اللحظات.. وجاذبيته سحرت حتى خصومه والمختلفين معه.. باعتباره الأب أو الممثل للأحلام الكبري.
يوسف درويش يراه “عظيمًا.. تغيَّرت مصر على يديه.. كان أكثر من ٧٠٪ من شعب مصر حفاة… وأغلبهم لا يعرف البحر الأحمر.. ولا يفرقون بينه وبين البحر الأبيض.. أي مسطح مائي كانوا يقولون عليه بحرًا.. حتى النيل.. عبد الناصر أحدث تغييرًا حقيقيًّا.. لكن غياب الديموقراطية ضيَّع كل هذه الإنجازات”.
كدتُ أسأله: هل هو الاستمتاع بالتعذيب (المازوخية)؟! عبد الناصر جعل يوسف درويش ورفاقه من الماركسيين يقيمون إقامة شبه دائمة في معتقلات ذاقوا فيها حفلات تعذيب (أوصلتهم أحيانًا إلى العجز الجنسي كما حكى لي بنفسه)؟! هل هو الغرام بالكاريزما والزعماء الكبار، أو الضعف العاطفي تجاه الأب؟! أم أن المسألة أبسط جدًا، وهو أن ما حدث أيام السادات جعل حتى أعداء عبد الناصر يترحمون عليه (وهي مقولة يحب دراويش عبد الناصر ترديدها)؟!
يوسف درويش التقى السادات مرتين..
الأولى تقريبًا سنة ١٩٤.. كان السادات يرتدي الجلباب التقليدي لشيال (أو تبَّاع) سيارة نقل كبيرة، واللقاء كان في العتبة الخضراء، أو بداية شارع محمد على، أو الموسكي.. لا يتذكر يوسف بالضبط.. لكنه متأكد من أنه ذهب مع صديقه وزميله في التنظيم محمود العسكري؛ زعيم العمال في شبرا الخيمة، الذي قال له قبل اللقاء إن السادات هارب من البوليس السياسي، وكان وقتها مُتهمًا بالتخابر مع ألمانيا.
في المرة الثانية كان السادات قد أصبح نائبًا لرئيس الجمهورية تقريبًا سنة ١٩٧١.. حين عُقد في مصر مؤتمر عالمي لمساندة شعب لاوس.. يقول يوسف درويش “كنت ممثلاً لرابطة الحقوقيين الديموقراطيين الدولية.. وطبقًا للعادة المتبعة استقبل أنور السادات نيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر كل الوفود التي شاركت.. وبينها كان وفد ألمانيا الديموقراطية.. وللمصادفة استرعى نظري مشهد أنور السادات بطريقته المسرحية يعلن أنه يونب نفسه على الموقف المؤيد لهتلر.. ويومها قدم نقدًا ذاتيًّا عنيفًا”.. يصمت يوسف قليلاً ويكمل “بعد المقابلة الأولى، قلت لمحمود العسكري إن هذا الرجل (أنور السادات) له اتجاهات فاشية، وحتى بعد أن أعلن التوبة أمام الألمان.. لم تتغير فكرتي”.
وصمت مرة أخرى “هل تتذكر ماذا قال عن عبد الناصر بعد موته.. قال بطريقة مسرحية عبد الناصر الله يرحمه.. (كان في هذه اللحظة يحاول العثور على نبرة السادات الشهيرة).. وكان يقصد طبعًا”.. وظل يضحك.. ويضحك.. ولم يكمل ماذا كان يقصد السادات..
أرسل يوسف درويش برقية تأييد لعبد الناصر.. ودعا إلى اجتماع جماعة باندونج.. الذي حضرته تحية كاريوكا.. وآخرون، يذكر يوسف من بينهم الدكتور عصمت سيف الدولة صاحب التيار الخاص في الفكر القومي (أُشيع فترة أنه المؤلف الخفي للكتاب الأخضر للعقيد معمر القذافي.. تعديلات الشائعة رأت أنه هو الذي وضع الأفكار الأساسية.. أو أن القذافي استلهم أفكاره).
كانت هذه محاولات تكوين جبهة عالمية ضد الاستعمار في صورته الجديدة.. محاولة تكوين قوى خارج استقطاب القوتين الأعظم (أمريكا.. والاتحاد السوفيتي). وهذه واحدة من فترات شهر العسل بين عبد الناصر والشيوعيين.
يقول يوسف درويش “عبد الناصر كان يتعامل مع الشيوعيين على أنهم كلاب حراسة.. ينادي عليهم عندما يتكاثر عليه الأعداء.. ويحبسهم عندما تنتهي المهمة”..
ويحكي “سنة ١٩٥٦؛ بعد العدوان الثلاثي صدر قرار سري أعتقد أنه رقم ٣١ بالتعاون مع الاشتراكيين.. قبلها بفترة أفرج عن معتقلين من الشيوعيين.. وكنت أجلس في آخر صف في احتفال بنقابة المحامين.. ووجدت شخصًا يخبط على ظهري من الخلف.. وأنا كنت متعود على أن من يخبط على ظهري دا مباحث.. قلت للشخص: عايزين إيه؟ وفوجئت به يقول لي: عايزينك في هيئة التحرير (التنظيم السياسي السابق على الاتحاد الاشتراكي)؛ كان الشخص هو أمين طعيمة، وكان هناك شخص آخر نسيت اسمه الآن.. قلت له “هنتعاون أخيرًا، فرد عليَّ بسرعة شديدة: إلى حين”. وضحك طويلاً.
وهذا ما حدث، فقد أغلقوا مكتبي بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة، هذا طبعًا قبل مؤامرة علي ومصطفى أمين.

نولة وصادق …يوسف درويش