“قابلت تحية كاريوكا“..
فكرتُ، وبينما كان يوسف درويش يحكي هذه الحكاية أننا في زمن غير الزمن.. كان من الممكن الكلام عن راقصة تشارك في تنظيمات سياسية من أجل تغيير مصر، وعن فكرة تغيير مصر.. عن بلد كانت الناس تشعر فيه بمواطنة من نوع ما دون جنسية.. أو عضوية في تنظيم السلطة السياسي الموحد.. كان مفهوم الوطن أكبر.. أكبر من شركة يديرها نظام سياسي يتصور الناس عمال تراحيل لتنفيذ مشاريعه الفكرية.. ثم يسرق الشركة شطار كل العصور، وأخيرًا.. تتحوَّل إلى شركة عائلية كل أملنا استعادتها وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل ٢٠٠ سنة.. لم يكن مهمًا في أول سنوات يوسف درويش أن ينتمي كل الناس إلى دين واحد.. وعقيدة سياسية واحدة أو فكرة واحدة عن الوطن.. كان اليهودي يرى أن مصر بلده.. واليساري مطارد من البوليس السياسي لكنه لا يشعر أبدًا أنه غريب.. وكان من الممكن الكلام عن اليسار والشيوعية بشكل عادي؛ السلطة تكرههم، والملك لا يحبهم، والإخوان المسلمون يريدون الانفراد بالمجتمع، يريدون قبيلة كاملة الأوصاف لا أحد فيها خارج الصف، ولهذا حرقوا حارة اليهود سنة ١٩٤٧. وهي الحادثة التي حكاها يوسف درويش.. ولم أسمعها من قبل ولم يتناولها في حدود علمي مؤرخ من المهتمين بتلك الفترة الساخنة التي غيَّرت بأحداثها الكبيرة والصغيرة وجه الحياة في المنطقة.
طبقات اليهود
سألت يوسف درويش عن مشاعره وقت هجوم الإخوان على حارة اليهود (وقتها لم يكن يهوديًّا بالمعنى الحرفي.. كان بكامل وعيه ومشاعره في مطبخ التنظيمات الماركسية).
قال “طبعًا تضايقت.. حرقوا البيوت والحارة كلها.. واتجهوا إلى شيكوريل يريدون تكسيره.. حاجة تضايق”، وأخذ يشرح “هجوم الإخوان عمل رد فعل طبيعي.. استغلته الحركة الصهيونية التي كانت في عزها.. من الذي سافر إلى إسرائيل.. لا بد وأن تعرف أولا أن اليهود كانوا ثلاث طبقات.. طبقة عليا.. منها أصحاب المصالح الكبيرة المتحكمون في الصناعة… ثم طبقة وسطى.. بينها شريحة عليا وشريحة دنيا.. ثم أخيرًا الطبقة الفقيرة.. لم يسافر أحد من الطبقة العليا إلى إسرائيل.. سافروا إلى فرنسا وإيطاليا وأمريكا.. هؤلاء كانت لديهم ثروة يمكن أن يعملوا بها هناك.. ومثلهم كانت الشريحة العليا من الطبقة الوسطى.. الذين سافروا إلى إسرائيل هم الطبقة الفقيرة جدًا والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى.. لأنه لم يكن لديهم لا مال ولا مهارات.. لا بد أن نفهم لكي نتعلم”. التعلم الذي يقصده يوسف درويش خاص بالتعامل مع الأقلية؛ مع الاختلاف “أعرف أن الأقلية يمكن أن تغلط.. لكن الأغلبية هي المسؤولة.. لا أتكلم هنا عن اليهود فقط.. بل عن الأقباط.. ستسمع منهم تعبيرات مثل الأمة القبطية.. بالضبط كما انتشر تعبير الأمة اليهودية بين اليهود.. لماذا تنتشر هذه التعبيرات.. لأنهم يشعرون بالظلم.. كذلك بدو سيناء الآن يشعرون بالظلم.. بل ويقولون نريد الذهاب إلى إسرائيل.. ويتحسرون على أيام احتلال اليهود.. والحق علينا نحن المصريين.. لا بد أن نعترف.. نعترف بخطأ عدم استيعاب الأقليات”.
عرفت وعرفنا من حكاية يوسف درويش، أن الإخوان أول من شرخ العلاقة بين اليهود ومصر.. اهتزت حالة الأمان.. وطُرح سؤال: لماذا تنفجر حياتي لمجرد أن ديانتي مختلفة؟! أسئلة تبدو قسوتها في شعور بأنك غريب في بيتك. هذا الشعور الساذج يجعل يوسف درويش حكاية كبيرة.
كيف لم يشعر بالغربة وكل عائلته سافرت أمريكا واليهودية أصبحت تهمة في حد ذاتها؟ كيف استمر مؤمنًا بالماركسية مع أنها أصبحت من المحرمات ليس سياسيًّا فقط بل اجتماعيًّا؟! حكاية يوسف درويش.. من حكايات كثيرة منسية. حكايات تقاوم إحساس بأننا غرباء.. وحيدون في مجتمع تسيطر عليه هيستيريا المهووسين باللون الواحد.
كيف نرى الحكاية في مصر التي لم تعد تتحمل اختلافًا.. أو خروجًا عن القطيع.. فما بالك بيهودي اختار أن يكون شيوعيًّا.. ويحمل أوراق إشهار الإسلام؟! حكاية ليست سهلة.
علقة الفاشية
يوسف درويش قابل تحية كاريوكا سنة ١٩٥٤ في مكتب الأستاذ الهواري المحامي؛ لم تكن أول نجمة من عالم الفن يلتقي بها عن قرب. يوسف وهبي؛ فتى الثلاثينيات، كان زبون مكتب الأستاذ جبرائيل أصفر؛ المحامي بالاستئناف في عمارة الإيموبيليا أمام البنك المركزي. ويوسف درويش كان محاميًا تحت التمرين في نفس المكتب.. المسؤول عن قضيته الشهيرة وقتها؛ في سنة ١٩٣٥ حين فشل مشروعه في إقامة مدينة ملاهٍ بضواحي القاهرة وأقيمت ضده دعوى إفلاس أمام الدائرة التجارية في المحاكم المختلطة.. وهي محاكم مختصة بنظر القضايا التي يكون أحد أطرافها من الأجانب المقيمين في مصر. واحدة من أدوات نظام الامتيازات الأجنبية.
“تعرف إنني ضُربت علقة ساخنة بسبب الامتيازات الأجنبية.. وبسبب الفاشية”. حكى يوسف درويش “كنت في إجازة من الدراسة في فرنسا.. سنة ١٩٤٣(عز صعود نجم هتلر النازي في ألمانيا وموسوليني الفاشي في إيطاليا).. كنت أعيش مع أسرتي التي انتقلت من العباسية إلى شارع رشيد في مصر الجديدة.. واقترحت على شقيقتي نيللي أن نخرج مع شلتها من الصديقات والأصدقاء ونذهب إلى النادي الإيطالي القريب من بيتنا.. وهناك رقصنا وسمعنا أغنيات إيطالية.. لكن في نهاية الحفل الراقص فوجئنا بأن الفرقة الموسيقية تعزف نشيدًا خاصًا بالشباب الفاشي.. لم أكن أعرف وقتها أن هذا النادي فاشي.. المهم وقف الجميع تحية للنشيد، وأنا رفضت على الرغم من إلحاح إخوتي خوفًا من استفزاز أعضاء النادي.. وعند نهاية النشيد فوجئت بعملاقين إيطاليين يوجهان لكمة قوية إلى وجهي.. ويجراني على الأرض.. حتى خارج النادي.. ولم يتوقفا إلا عندما ظهر واحد من رجال البوليس.. قمت ووقفت بصعوبة وتوجهت إلى قسم مصر الجديدة وحررت شكوى… وعدت إلى البيت.. وبعد أن كدت أنسى الموضوع وصلتني من القسم إفادة بأن الشكوى حُوِّلت إلى القنصلية الإيطالية.. هذه هي مآسي الامتيازات الأجنبية”. يعلِّق يوسف درويش على الحكاية التي لم تكن موجهة ضده كيهودي؛ بل كشخص ضد الفاشية.. تلك الأفكار التي ترى بعين واحدة.. ويتصور أصحابها أنهم فوق البشر.. ويختارون من يستحق البقاء والسيطرة.. هذه الأفكار كانت ساحرة لأوروبا في الثلاثينيات؛ وكانت الذروة مع وصول الأحزاب المهووسة بالنقاء العنصري إلى الحكم.
على الهامش:معضلة توجو
المفارقة أنني سمعت حكاية النادي الإيطالي من يوسف درويش، في الأسبوع نفسه الذي وصلني على البريد الإلكتروني برنامج مكتبة الإسكندرية للاحتفال بتوجو مزراحي؛ أشهر مخرج يهودي في تاريخ السينما المصرية.
سمير فريد؛ المشرف على البرنامج، أشار في المقدمة إلى أنه ربما “لم يتمكن مخرج يهودي قبل وفي أثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) من التعبير عن ثقافته كيهودي، كما تمكَّن توجو مزراحي (١٩٠١-١٩٨٦) في وقت صعود الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا ووصول العنصرية ضد اليهود إلى ذروة جديدة في العالم، وخصوصًا في أوروبا”.
توجو مزراحي بالنسبة لي شهير بأفلام على الكسار.. والأفلام الأولى لأم كلثوم (هو الذي جعلها ترتل القرآن في فيلم “سلَّامة”)، لكنني عرفت للمرة الأولى أنه من أصل إيطالي؛ مولود في الإسكندرية، لكنه درس السياسة والاقتصاد في فرنسا.. وضد رغبة العائلة درس السينما كمغامر بين روما وباريس وبرلين.. لكن أول أفلامه في القاهرة كان سنة ١٩٣٠؛ فيلم صامت اسمه “الكوكايين”. أحبت الحكومة المصرية فيلم توجو مزراحي، لأنه يساند حملتها ضد المخدر المميت. وكانت هذه علامة أولى تشير إلى استمراره في الإخراج بعد أن كانت بدايته في التمثيل باسم “أحمد مشرقي” (وهي الترجمة العربية لاسمه). وفي السنة التي شهدت واقعة يوسف درويش في النادي الإيطالي كان توجو مزراحي يضع التفاصيل الأخيرة لفيلمه” شالوم المندوبان” الأول في سلسلة بطلها شخصية يهودية؛ بطل على طريقة إسماعيل ياسين في مجموعة الأفلام التي حملت اسمه.
توجو مزراحي لم يكن مخرجًا فقط؛ بل كان صانع سينما بالمعنى الشامل (مونتير وسيناريست ومنتج وصاحب استوديوهات).. وفي ١٩٣٧ استأجر من يوسف وهبي استوديو رمسيس، أي بعد سنوات قليلة من المقابلة التي كانت يمكن أن تغيِّر حياة يوسف درويش.
عرض يوسف وهبي
ضحك وهو يحكي لي الحكاية، وغيَّر صوته ليقترب من النبرة الشهيرة ليوسف وهبي “تعال يا يوسف أفندي مثِّل معايا في فرقتي.. وسيبك من المحاماة”، فرد عليه يوسف درويش “أنا أُمثل كل يوم في المحكمة أمام القاضي”. ويبدو أن العلاقة انتهت عند هذا الحد، واقتصرت على حدود الذهاب في أيام الإجازات لمشاهدة مسرحيات يوسف وهبي في شارع عماد الدين. الشارع نفسه الذي شاهد فيه مسرحيات علي الكسَّار قبل أن يعرفه شخصيًّا عن طريق صديق في مقهى كان موجودًا في ممر كوداك بشارع عدلي.
“كانت حياة يوسف درويش ستتغير!” هتفت بسمة حفيدته وسط ضحكات الإعجاب بحكاية يوسف وهبي.. بسمة ممثلة الآن.. وترى أن جدها “وسيم.. وجان.. وله كاريزما.. كان يصلح فعلاً لكي يكون ممثلاً”. وتخيَّلت ماذا سيحدث لو استمع يوسف درويش إلى النصيحة، وأصبح نجم سينما أو مسرح.. هل كانت السياسة ستصبح تجربة عابرة في حياته كما كانت بالنسبة لتحية كاريوكا مثلاً؟!
تحية كاريوكا كانت عضوًا نشيطًا في تنظيم شيوعي.. التقت يوسف درويش في اجتماع خاص لإنشاء لجنة باندونج.. على أهداف اجتمعت عليها بلدان العالم الثالث وقتها لمقاومة فكرة الأحلاف التي لمعت بعد أفول الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. عبد الناصر رفض أيامها حلف السنتو (أو المعاهدة المركزية) الذي عرفناه باسم “حلف بغداد”، وكان يضم إلى جانب نظام نوري السعيد في العراق.. تركيا وإيران برعاية أمريكية؛ سُمي وقتها “مخلب الاستعمار” وكان كما قرأنا عنه محاولة لبناء قاعدة للوجود الأمريكي.. ورفض عبد الناصر هو الخطوة الأولى في بناء زعامة أوسع من فكرة القائد الخفي لحركة الجيش.. محمد نجيب أجبر على الانسحاب نهائيًّا، والديموقراطية لم تعد الخيار الأول لجنرالات الثورة.. ولم يعد هناك أمل في عودتهم إلى الثكنات.. تأجلت الديموقراطية.. وتأجل كل شيء من أجل المعركة الخارجية.. معركة مقاومة أطماع الاستعمار.. ومن بعدها إسرائيل (ولا الاستعمار رحل ولا إسرائيل انتهت.. وطبعًا كانت الديمقراطية ماتت من الاختناق تحت أناشيد والله زمان يا سلاحي).. والمفارقة أن زعامة عبد الناصر ولدت في هذه اللحظات.. وجاذبيته سحرت حتى خصومه والمختلفين معه.. باعتباره الأب أو الممثل للأحلام الكبري.
يوسف درويش يراه “عظيمًا.. تغيَّرت مصر على يديه.. كان أكثر من ٧٠٪ من شعب مصر حفاة… وأغلبهم لا يعرف البحر الأحمر.. ولا يفرقون بينه وبين البحر الأبيض.. أي مسطح مائي كانوا يقولون عليه بحرًا.. حتى النيل.. عبد الناصر أحدث تغييرًا حقيقيًّا.. لكن غياب الديموقراطية ضيَّع كل هذه الإنجازات”.
كدتُ أسأله: هل هو الاستمتاع بالتعذيب (المازوخية)؟! عبد الناصر جعل يوسف درويش ورفاقه من الماركسيين يقيمون إقامة شبه دائمة في معتقلات ذاقوا فيها حفلات تعذيب (أوصلتهم أحيانًا إلى العجز الجنسي كما حكى لي بنفسه)؟! هل هو الغرام بالكاريزما والزعماء الكبار، أو الضعف العاطفي تجاه الأب؟! أم أن المسألة أبسط جدًا، وهو أن ما حدث أيام السادات جعل حتى أعداء عبد الناصر يترحمون عليه (وهي مقولة يحب دراويش عبد الناصر ترديدها)؟!
يوسف درويش التقى السادات مرتين..
الأولى تقريبًا سنة ١٩٤.. كان السادات يرتدي الجلباب التقليدي لشيال (أو تبَّاع) سيارة نقل كبيرة، واللقاء كان في العتبة الخضراء، أو بداية شارع محمد على، أو الموسكي.. لا يتذكر يوسف بالضبط.. لكنه متأكد من أنه ذهب مع صديقه وزميله في التنظيم محمود العسكري؛ زعيم العمال في شبرا الخيمة، الذي قال له قبل اللقاء إن السادات هارب من البوليس السياسي، وكان وقتها مُتهمًا بالتخابر مع ألمانيا.
في المرة الثانية كان السادات قد أصبح نائبًا لرئيس الجمهورية تقريبًا سنة ١٩٧١.. حين عُقد في مصر مؤتمر عالمي لمساندة شعب لاوس.. يقول يوسف درويش “كنت ممثلاً لرابطة الحقوقيين الديموقراطيين الدولية.. وطبقًا للعادة المتبعة استقبل أنور السادات نيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر كل الوفود التي شاركت.. وبينها كان وفد ألمانيا الديموقراطية.. وللمصادفة استرعى نظري مشهد أنور السادات بطريقته المسرحية يعلن أنه يونب نفسه على الموقف المؤيد لهتلر.. ويومها قدم نقدًا ذاتيًّا عنيفًا”.. يصمت يوسف قليلاً ويكمل “بعد المقابلة الأولى، قلت لمحمود العسكري إن هذا الرجل (أنور السادات) له اتجاهات فاشية، وحتى بعد أن أعلن التوبة أمام الألمان.. لم تتغير فكرتي”.
وصمت مرة أخرى “هل تتذكر ماذا قال عن عبد الناصر بعد موته.. قال بطريقة مسرحية عبد الناصر الله يرحمه.. (كان في هذه اللحظة يحاول العثور على نبرة السادات الشهيرة).. وكان يقصد طبعًا”.. وظل يضحك.. ويضحك.. ولم يكمل ماذا كان يقصد السادات..
أرسل يوسف درويش برقية تأييد لعبد الناصر.. ودعا إلى اجتماع جماعة باندونج.. الذي حضرته تحية كاريوكا.. وآخرون، يذكر يوسف من بينهم الدكتور عصمت سيف الدولة صاحب التيار الخاص في الفكر القومي (أُشيع فترة أنه المؤلف الخفي للكتاب الأخضر للعقيد معمر القذافي.. تعديلات الشائعة رأت أنه هو الذي وضع الأفكار الأساسية.. أو أن القذافي استلهم أفكاره).
كانت هذه محاولات تكوين جبهة عالمية ضد الاستعمار في صورته الجديدة.. محاولة تكوين قوى خارج استقطاب القوتين الأعظم (أمريكا.. والاتحاد السوفيتي). وهذه واحدة من فترات شهر العسل بين عبد الناصر والشيوعيين.
يقول يوسف درويش “عبد الناصر كان يتعامل مع الشيوعيين على أنهم كلاب حراسة.. ينادي عليهم عندما يتكاثر عليه الأعداء.. ويحبسهم عندما تنتهي المهمة”..
ويحكي “سنة ١٩٥٦؛ بعد العدوان الثلاثي صدر قرار سري أعتقد أنه رقم ٣١ بالتعاون مع الاشتراكيين.. قبلها بفترة أفرج عن معتقلين من الشيوعيين.. وكنت أجلس في آخر صف في احتفال بنقابة المحامين.. ووجدت شخصًا يخبط على ظهري من الخلف.. وأنا كنت متعود على أن من يخبط على ظهري دا مباحث.. قلت للشخص: عايزين إيه؟ وفوجئت به يقول لي: عايزينك في هيئة التحرير (التنظيم السياسي السابق على الاتحاد الاشتراكي)؛ كان الشخص هو أمين طعيمة، وكان هناك شخص آخر نسيت اسمه الآن.. قلت له “هنتعاون أخيرًا، فرد عليَّ بسرعة شديدة: إلى حين”. وضحك طويلاً.
وهذا ما حدث، فقد أغلقوا مكتبي بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة، هذا طبعًا قبل مؤامرة علي ومصطفى أمين.
مؤامرة علي ومصطفى أمين
يصر يوسف درويش أنها كانت مؤامرة “كان عندنا في البيت شغّالة، وكانت نولة ابنتي في مدرسة ليسيه باب اللوق، ولها اتنين أصحاب من المدرسة أبوهما يعمل صحفيًّا في أخبار اليوم؛ البنتان وعائلتهما زارونا أكثر من مرة، ويبدو أنهم اشتروا الشغالة وجعلوها تتجسس على تحركاتي.. وفي مرة سمعتني وأنا أقول في التليفون لأحد أصدقائي: ولا يهمك، تعال أنتَ وكله جاهز.. نقلت الكلام وركزت على “كله جاهز”، وكنت في الحقيقة أقولها لصديق نجهز لعيد ميلاده، لكن الجاسوسة نقلت الكلام لعلي ومصطفى أمين”.
وهما نقلا الكلام إلى مباحث أمن الدولة “ألقيَ القبض عليَّ، وأنا في طريقي إلى محطة السكة الحديد لأقود استقبال العمال لعبد الناصر، وهو عائد من يوجوسلافيا سنة ١٩٥٧، كنت وقتها أعمل مع عمال شبرا الخيمة، وجهزنا مظاهرة من ١٠ آلاف عامل في محطة السكة الحديد، لتهتف في أثناء مروره: فليحيا عبد الناصر.. تحيا الديموقراطية.. تحيا الثورة العراقية”. لكن قبل أن أنزل من بيتي فوجئت بضابط من المباحث اسمه حجازي؛ متخصص في الشيوعيين، يخبط على الباب ويدخل بطريقة منزعجة جدًا، وجد غرفًا مغلقة، فظن أنها اجتماعات للتنظيم، وبعدما فتحها بالقوة اكتشف أن وراء الباب لا يوجد سوى مجاهد ابني وبقية عائلتي. في غرفة المكتب وجد صورة لينين (أشار إلى نفس الصورة التي لا يزال يحتفظ بها) وسألني لماذا لا تضع صورة عبد الناصر؟ قلت له: لا سأضع صورة لينين.. أخذني على الداخلية، وهناك قابلت مصيلحي، الذي كان متخصصًا في الشيوعية هو الآخر، استقبلني بترحاب، وعزمني على قهوة وشاي، وفتح معي حوارًا طويلاً، عرفت من خلاله معلومات مهمة عن الحركة الشيوعية في مصر والشرق الأوسط.. امتد الحديث حتى وصل ضابط آخر متخصص في الجنايات، فتح التحقيق معي.. وقال لي: أنت متهم بمحاولة اغتيال عبد الناصر. وقبل أن أرد سبقني الضابط مصيلحي وقال له: أنا سأرد: أولاً يوسف درويش مش بتاع سلاح، وثانيًا الشيوعيين لا يستخدمون السلاح إلا في حالة الثورة الشعبية، وثالثًا العلاقة بينهم وبين عبد الناصر كويسة جدًا هذه الأيام”.
ضابط الجنايات أغلق المحضر، لكن يوسف درويش لم يرجع إلى بيته إلا الساعة الثالثة صباحًا، عندما نام عبد الناصر على سريره.
– لماذا تجسس عليك مصطفى وعلي أمين؟
لأنهما عملاء أمريكا؛ أعداء عبد الناصر وأعداء الشيوعية، وأمريكا كانت تريد إفساد علاقتنا بعبد الناصر.
كان سعيدًا بوقع الحكاية عليَّ، فقررت أن أعيد عليه السؤال؛ هل تتخيل أنها كانت مجرد وشاية من جاسوسة علي ومصطفى أمين في بيتك؟
نظرَ بعيدًا تُجاه غرفته “مفيش غيرهم كان صاحب مصلحة”.. وعادت إليه سعادته الضائعة.
من هنري كوهين
في ملف رسائله الخاصة، وجد رسالة موقعة من هنري كوهين، فرنسا، ٥ ديسمبر ١٩٩١؛ وفيها “لقد تركت البلد من ٢٩ سنة، وما زلت غير قادر على زيارتها. لقد وجهت رسالة إلى الوزارة في مصر ليسمحوا لي بزيارة مسقط رأسي، ولكنني لم أتلقَ ردًا.. كما كلفتُ العديد من الأصدقاء بالبحث عن حل لمشكلتي، بينهم أحمد طه (عضو مجلس الشعب حينها) ورفعت السعيد، اللذان أعطياني وعودًا رسمية.. ولم أتلقَ ردًا حتى الآن.. لقد نصحني بعضهم بتوكيل محام في مصر فما رأيك؟ (الترجمة عن الفرنسية للصديقة سلمى الطرزي)”.
سألته: ومن هو هنري كوهين؟
فقال “ابن خالي”..
وهذه واحدة من حكايات أخرى عن الهجرة من مصر..