بكى يوسف درويش ثلاث مرات…
الأخيرة عندما ماتت زوجته إقبال حاسين (أكَّد أكثر من مرة على الطريقة الصحيحة لكتابة ونطق اسمها)؛ فهي من عائلة ذات أصل مغربي تعيش في الإسكندرية؛ يهودية، وزميلته في التنظيم، تزوجها بعد قصته مع الزوجة الأولى “أونيه”؛ وهي قصة درامية من وجهة نظره “كان عمري 31 سنة.. أبويا مات.. وكنت أبحث عن استقرار بشكل ما”.
سألته “تقصد عن حب؟!”.
“لا..”، وكانت إجابته جازمة، فسألته “هل تشعر بالخجل عندما تتحدث عن الحب.. ألم تعرف فتيات في سنوات المراهقة؟!”
ابتسم، وصمت طويلاً ليوحي بأنه يغير الموضوع.. وانتقل إلى حكاية أخرى تمامًا “تعرف إنه كانت هناك بيوت دعارة رسمية.. في كلوت بك.. كان الشباب يذهبون إلى ها لتفريغ رغبات أجسامهم.. وهي حاجات طبيعية.. للرجل والمرأة.. لا افهم لماذا تُكبَّل عندنا بهذه الطريقة.. نتيجة هذا التضييق.. الآن الزواج العرفي هو الحل.. زمان كانت بيوت الدعارة تحت إشراف الحكومة.. وبرخصة.. وكشف طبي.. أنا أكلمك عن أواخر الثلاثينيات أوائل الأربعينيات”.
-هل زرتها؟! خفتُ أن اسأله، لكنه أجاب دون سؤال “أنا نفسي زرت هذه الأماكن.. ربما قبل سفري للدراسة في فرنسا”.
التنظيم والزواج
سافر يوسف درويش إلى فرنسا بعد أن أقنع والده أن الدراسة هناك أرخص، لكن الأب طلب أن يدرس التجارة.. فوافق وهناك درس إلى جانبها الحقوق “لأنها كانت مهنة السياسيين الكبار.. كما أنها مهنة أخوالي) في مدرسة الحقوق في إكس أون بروفانس؛ عرف فتاة لطيفة اسمها أندريه، وهي التي قادته إلى عالم الماركسية والتنظيمات الشيوعية وقدمته إلى المؤمنين بها.. وحضر للمرة الأولى كمستمع في اجتماع التنظيم.
لم تكن هذه هي الأولي في فرنسا “في مدينة تولوز (حيث مدرسة التجارة العليا) عرفتُ فرنسية كانت معي في المدرسة، ثم فتاة بولندية، لكن أندريه هي التي لن أنساها أبدًا.. كانت من شمال فرنسا.. واتجاهها تروتسكي (تيار في الماركسية يسير على مبادئ تروتسكي الذي تمرد على الثورة البلشفية عندما تحولت إلى دولة على يد ستالين؛ تروتسكي كان يؤمن بأن الثورة دائمة).. تعرف أني رأيتُ تروتسكي يجلس على مقهى مثل مقهى الحرية في باب اللوق.. رأيته ولم أكلمه.. كنت عَيِّل صغير.. ولم أكن أعرف وقتها أنه كان هاربًا من ستالين وأنه مطارد من الاتحاد السوفييتي”. ثم عاد وأكمل كأن حكاية الفاتنة الفرنسية لم تنقطع “أحببتها جدًّا جدًّا.. وكان من المفروض أن نتزوج.. وتأتي لتعيش معي في مصر.. وتعمل مدرسة للغة الفرنسية.. لكن لم تكن عندي إمكانات مالية وقتها”.
– وفي مصر بعد العودة؟!
ضحك هذه المرة “عرفت واحدة يونانية كان اسمها صوفي.. حلوة جدًّا.. بعد ذلك كانت لي مغامرات مع بنات من سوريا أو لبنان.. لا أتذكر”.
-لا مصريات أبدًا؟! فقال بشكل تقريري تمامًا “كان هناك مصريات.. لكن قليل” هذا قبل أن يعرف أونيه.. قابلها في ندوة وأعجبته؛ وكانت مناسبة له تمامًا (يهودية قرائية) وليست بعيدة عن الماركسية، لكن التنظيم لم يوافق على زواجهما إلا بعد 6 أشهر. قالها وكان يريد أن يكمل باعتبار أن ما قاله شيء طبيعي، فاستوقفته “هل يتدخل التنظيم في مسائل شخصية إلى هذا الحد؟!”. فأجاب “طبعًا.. قلت لك إنه تنظيم حنبلي جدًّا.. لقد اعترضوا حتى على أن يكون لي نصيب في ميراث أبي.. لأن جزءًا منه كان نتيجة نشاط في رهونات الصاغة.. فبعت نصيبي لإخوتي”.
-وما وجه الاعتراض على زوجتك الأولى؟!
“الفارق الفكري بيني وبينها.. وأيضًا الفارق في النضال والعطاء.. لكنهم وافقوا في النهاية، وتزوجتها.. ويبدو أنهم كانوا محقين في وجهة نظرهم.. تزوجنا في أثناء أزمة سكن في مصر.. سنة 1941، وعثرت على شقة بالصدفة في الدور الثالث في العمارة البلجيكية ببولاق الدكرور.. يمين بعد نادي الترسانة”.
في هذا البيت خصَّصَ يوسف درويش غرفة كبيرة لتكون أحد فروع مدرسة لمحو الأمية “كان يحضر في العادة نحو 30 طالبًا.. ولم تكن هذه هي الفصول الوحيدة.. كانت لنا فصول في ميت عقبة والسبتية وطنطا، وكنتُ ألقي دروسًا في اللغة العربية والحساب والمواد الاجتماعية، أذهبُ 3 مرات أسبوعيًّا إلى ميت عقبة إلى جانب المرات التي كانت تتم في بيتي.. وفي إحدى المحاضرات سرَّبتُ أفكارًا ماركسية بشكل هادئ تمامًا”..
هل هذا ما أفسد الحياة بين يوسف وأونيه؟! هل كان النشاط السياسي يتجاوز حدود البيت؟!
يسرد يوسف درويش نهاية العلاقة على طريقته “كانت بيننا خلافات تنفجر من وقت إلى آخر.. وفجأة اكتشفتُ أننا لا بد أن ننفصل.. حدث الاكتشاف بعد 6 سنوات.. وبطريقة غريبة، فقد كانت مشيتي متوازنة جدًّا.. ولم يكن من السهل أن أفقد التوازن وأسقط حتى لو دفعني أحد ما.. وفي يوم، كنت أمشي من بيتي في بولاق إلى مكتبي في شارع زكي.. ووجدتني أسقط في الشارع دون مقدمات.. فقلت لنفسي.. لا.. لا بد أن أغيِّر مسيرة حياتي”.
دبلة إقبال
لم يلبس يوسف درويش دبلة إقبال حاسين إلا في عيد زواجه الخمسين.. حكت بسمة لي هذه الحكاية بفرح طفولي “الروايات كثيرة عن اختفاء الدبلة.. منها أنها سُرِقت في السجن.. أو أنها ضاقت على أصبعه.. أو ضاعت في حمام سباحة.. المهم أنه لم يلبسها إلا بعد مرور كل هذه السنوات، وحتى الآن.. رغم أنها ماتت منذ سنوات”.
حدث الزواج سنة 1947(وقت تصوير صورة غلاف الحلقة)؛ كانا زميلين في تنظيم واحد.. لكنها بعد فترة يبدو أنها اكتفت بالجبهة الداخلية (البيت) وتركت له الجبهات الخارجية، واستمرت في عملها بشركة فيليبس، واهتمت بصنع استقرار عائلة يقيم رجلها إقامة طويلة في السجون. صحيح أنها لم تغادر السياسة نهائيًّا “اكتفت ربما ببعض نشاط خفيف في الاتحاد الاشتراكي”، أو كما حكت لي ابنتها نولة “مرة عندما اعتقلت جميلة بوحريد خرجت تظاهرة نسائية.. اشتركت فيها أسماء مثل إنجي أفلاطون وإنجي رشدي.. وتظاهرنا أمام العمارة التي يوجد بها الآن مقر مؤسسة فورد في جاردن سيتي.. أنا كنت صغيرة جدًّا.. ويومها البوليس حبسنا في العمارة وأغلق علينا البوابة وتركنا نهتف”.. هذه من المرات النادرة التي رأيت ماما تشترك في عمل نسائي “أعتقد أنه في فترة من الفترات كان لها نشاط مع مجموعة نساء مثل طنط فاطمة زكي زوجة الأستاذ نبيل الهلالي.. لا أتذكر جيدًا.. آه، مرة أخرى عندما وقعت حرب 1967 قالت لي: لازم تتعلمي تمريض، ويبدو أنه كان جزءًا من تكليفات الاتحاد الاشتراكي.. وفعلاً ذهبت لكن لا اتعلمت ولا حاجة”.
مهمة إقبال الكبرى كانت تبدأ في غياب يوسف.. في السجن تقلب الدنيا وتتصل بكل المنظمات (في مرة كان الواسطة مصطفى المحامي شقيق حمزة البسيوني.. صاحب الماركة المسجلة باسمه في تاريخ التعذيب). وفي المرة التي خرج فيها من المعتقل بعد حل الحزب الشيوعي.. كان يوسف درويش مثل أسد جريح في غرفة ضيقة.. يدور في أنحاء الشقة ويخبط رأسه في الحائط ويصرخ.. وساعتها وقفت إقبال وقالت له “طيب كفاية سجون.. ونرتاح شوية”..
ويومها، بكيت للمرة الثانية.
اليهود الخمسة
بجوار صورة لينين المحفورة على سطح معدني على طاولة بجوار المكتبة.. لمحته؛ رجل ملامحه من النوع الذي تراه في أحياء مصر الشعبية، يضعُ على رأسه الطاقية الشبيكة المشهورة في مواسم الحج. فسألته “من صاحب الصورة؟”.
فقال بنبرة فخورة “إنه سعد عثمان.. مات من فترة قريبة”.
هو واحد من 3 زعماء عماليين اقتربوا بقوة من يوسف درويش “عندما عرفتهُ أول مرة، كان في كشافة الإخوان المسلمين.. نشيط جدًّا.. لكنه تغيَّر تمامًا بعد أن عرفته.. لماذا؟! لأنني لا أبدأ الكلام مع العمَّال عن الماركسية.. أخدمهم أولاً.. وأنا خدمتهم فعلاً بصدق وأمانة.. وكانت هذه هي قضيتي.. تعبتُ في الدفاع عن حقوق العمَّال.. وكافحت معهم لاسترداد هذه الحقوق.. وبدأوا يثقون بي.. فربطت لهم اهتمامي واخلاصي بالفكر الماركسي؛ فقبلوا الكلام.. والمسألة ليست بسيطة.. لكن مفتاحها أن تدخل للناس من بابهم، وليس من بابك أنت”..
العلاقة بالعمَّال كانت المرحلة الثالثة في مسيرة يوسف درويش السياسية بعد عودته من باريس..
“نصحني الشيوعيون هناك بثلاث مهام:
١ ـ الاهتمام بحزب الوفد، باعتباره الحزب الشعبي الحقيقي والوحيد آنذاك (وكانوا يرون أن الوقت لم يأت بعد لإعلان تنظيم ماركسي.. وكانت المرحلة بالنسبة لهم تعتمد على التنسيق مع أحزاب لها شعبية ووقع الاختيار على الوفد. وبالتحديد على الكتلة الوفدية بطابعها اليساري إلى حد ما).
٢ ـ الاتصال بحركة العمَّال (وقد أسهم يوسف درويش على وجه خاص في انتزاع النقابات من الأحزاب التقليدية.. ونقلها إلى مستوى آخر من العمل قبل أن تقتنصها تنظيمات ثورة يوليو).
٣ ـ العمل في مجال حركة أنصار السلام.
وحركة أنصار السلام هذه، وكما جاء في أوراق الدكتور رول ماير المنشورة عن المعهد الهولندي للتاريخ الاجتماعي “كان لها فرعان في القاهرة والإسكندرية.. تأسست عام 1935 لمقاومة الاحتلال الإيطالي لإثيوبيا، وقد ضمَّت العديد من الأجانب والأقليات التي تعيش في مصر. كان التنظيم يستخدم اللغتين العربية والفرنسية في أعماله واجتماعاته، وقد اقتصر اهتمام حركة أنصار السلام في البداية على الحرب الأهلية الإسبانية، لكنها بدأت بالاهتمام بالشؤون المصرية أيضًا ابتداءً من عام 6391؛ حيث عملت على دعم النضال التحرري المصري ودعت مصر إلى الانضمام لعصبة الأمم في لاهاي ودعت إلى الغاء الامتيازات الاجنبية في مؤتمر مونتروفي عام 1937
يوسف درويش عثر أولاً على مقر اتحاد نقابات العمَّال سنة 1934 في عمارة متاتيا بالعتبة الخضراء.. هناك عرف أول زعيم عمال “محمد يوسف المدرك”.. وهو بطل واقعة ستحدث بعد اللقاء الأول بينه وبين يوسف درويش بنحو عشر سنوات، حين جمع توقيع 01 آلاف عامل ليسافر ممثلاً للحركة العمَّالية في مؤتمر لاتحاد نقابات العمَّال العالمي.. هؤلاء العمَّال هم الذين دفعوا ثمن تذكرة السفر وتكاليف الإقامة.. وهي حكاية فريدة في تاريخ نقابات العمَّال.
“عندما تعرفت على المدرك.. كنت وقتها مهتمًا بتاريخ العمَّال في مصر.. كنت أذهب إلى المكتبة الخديوية 3 مرات في الأسبوع وأبحثُ في الصحف، خصوصًا التي صدرت في ٩١٩١. وأدوِّن وأجمع معلومات عن النقابات والحركة العمَّالية وزعماء العمَّال”، وكان هذا بناءً على توزيع أدوار بين المؤسسين الثلاثة:
يوسف درويش(العمَّال)
أحمد صادق سعد (المثقفين)
ريمون دويك (الأوساط الوفدية).
ثلاثة من اليهود التقوا مصادفة.. حين كان يوسف درويش يمر في شارع المغربي، ولمحَ لافتة على عمارة أنطونيادس مكتوب عليها “عصبة أنصار السلام”.
هؤلاء الثلاثة هم المؤسسون الأوائل لتنظيم يتميز عن غيره بأنه “حديدي”؛ أي من الصعب اختراق أسراره.. ويتميز أعضاؤه بأنهم مثقفون جدًّا “احتجنا أن نقرأ كل تاريخ مصر لكي نفهم.. ونستطيع أن نقدم رؤية حقيقية”.
في 1936 بدأت عصبة أنصار السلام الاهتمام بالشؤون المصرية (استقلال مصر، وإنهاء الامتيازات الأجنبية.. وعضوية مصر في عصبة الأمم في لاهاي).
ويحكي يوسف درويش “ربما أكون قد تعلمت أو وعيت برفض الصهيونية في عصبة أنصار السلام.. وفي فندق الكونتننتال التقيت بالحاج أمين الحسيني؛ قائد الثورة الفلسطينية وقتها.. كان ذلك تقريبًا سنة 6391.. وكان معه موسي الخالدي.. وكنت أنا وريمون دويك”..
ريمون دويك الوحيد من الثلاثة الذي لم يشهر إسلامه.
أحمد صادق سعد.. كان يهوديًّا ربانيًّا وغيَّر اسمه.. (وخفض صوته وهو يحكي عن زوجة صادق سعد، وكانت ربانية هي الأخرى، وابنة حاخام لكنها أصبحت غريبة.. ويبدو أنها تطرفت.. فقد رفضت مؤخرًا أن تصافحني!).
شعرتُ بالخجل وأنا أبتسمُ من الحكاية.. وهو كان يشعر بأنها مأساة.. بل إنها ذكَّرته بالمرة الثالثة التي بكي فيها.
سألته عن تفسير ظاهرة القادة اليهود (بل والمؤسسين) في تنظيمات اليسار (والماركسية بشكل واضح)؟! فقال “لأن اليهود كانوا مرتبطين أكثر بالثقافة الغربية.. وكانوا يميلون إلى تعليم أفضل”.. وربما أيضًا لأن هذه التنظيمات تمنحهم فرصة الإعلان عن مصريتهم.
سمعت من يوسف درويش اسم مارسيل إسرائيل. ولم تكن المرة الأولى، قرأت اسمه أكثر من مرة في تاريخ النضال ضد الإنجليز.. (هو مؤسس المنظمة الشيوعية الأولى في مصر)، وعرفتُ من أوراقه التي نُشرت أخيرًا أنه وُلد بعد يوسف درويش بثلاث سنوات في شارع تورسينا (في الضاهر). أبوه إيطالي عاش في ميت غمر (من كبار مُلَّاك الأراضي الاقطاعيين).. وأمه من أصل إيراني (أمها كانت تتكلم العربية وترتدي حتى أيامها الأخيرة الملاءة أو الحَبَرة). كان من الممكن أن يصبح مارسيل واحدًا من أثرياء البورصة، لكنه اختار أن يكون في صفوف الوطنية المصرية.. وبالتحديد في التنظيمات الماركسية (مهمته المميزة كانت تربية كوادر التنظيمات السرية).
وعندما أُلقي القبض عليه سنة 1949 كان ممدوح سالم (وزير الداخلية في 1977 ومن بعدها رئيس الحكومة) ضمن ضباط في البوليس السياسي الذين طلبوا منه إفشاء أسرار التنظيم (كان ينتمي إلى تنظيم حدتو). وبعد الرفض حُكم عليه بخمس سنوات، انتهت بقرار من جمال عبد الناصر عندما كان وزيرًا للداخلية سنة 1954 بإبعاده إلى إيطاليا.
حكى لي صديقه الفنان التشكيلي عادل السيوي أنه كان ممنوعًا من دخول مصر.. ومن فرط المحبة كان يسافر في رحلة عبر موانئ البحر المتوسط.. ليحظى بنظرة عن بُعد إلى الإسكندرية.. رومانتيكية من نوع خاص وفريد! بل إنه كان ضد إسرائيل، وأسَّس “الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية” وكان أول ما فعله حين وصل إلى إيطاليا تقديم طلب إلى رئيس الجمهورية بالعودة إلى اسم عائلته “شيريزي” ليتخلص من اسم إسرائيل، ولا تلتصق أي رابطة بينه وبين الدولة العنصرية.
يوسف درويش كان مختلفًا حتى عن شحاتة هارون؛ الذي كان واحدًا من 120 يهوديًّا لم يغادروا مصر قط.. ظل يهوديًّا وتمسك بمصريته حتى ضد رغبة حكوماتها وأنظمتها السياسية المختلفة.
ماتت ابنته الأولى (منى) لأنها أصيبت بمرض يحتاج إلى العلاج في الخارج.. ورفض لأن هذا يعني أنه لن يعود إلى مصر.
ابنته الثانية؛ ماجدة، تزوجت من طبيب كاثوليكي إيطالي الأصل.
والثالثة؛ نادية، تزوجت من مصري مسلم.. وكان الأصدقاء يطلقون على بيتهم “محطة مصر”.. ظلَّ شحاتة هارون يهوديًّا ضد خرافة إسرائيل (اشترك مع مارسيل في الرابطة ضد الصهيونية).. واعتُقل لأنه ضد كامب ديفيد.. وفي نعيه كُتبت عبارة تلخص فلسفته “لكل إنسان أكثر من هوية.. وأنا إنسان مصري حين يُضطهد المصريون.. أسود حين يُضطهد السود.. يهودي حين يُضطهد اليهود.. فلسطيني حين يُضطهد الفلسطينيون”.
الأقل رومانتيكية
يوسف درويش كانت رومانتيكيته أقل؛ أنهى الإجراءات بشكل أسرع. وأكَّد جنسيته المصرية (بعقد بيع أرض عثر عليه بين أوراق عمه) يرجع إلى القرن التاسع عشر. وأشهرَ إسلامه.. وكان بعيدًا عن مِزاج القلق في عائلته الكبيرة.. كان مشغولاً بالسياسة.. ويعيش كرجل صاحب مهمة.. لا حياة له بعيدًا عن عالم اختاره بحسم كبير.. ولم يتأثر كثيرًا بسفر عائلته كلها إلى أمريكا عام 1962.
عائلة زوجته إقبال سافرت قبلها إلى فرنسا عام 1956، وذات مرة حاربوه في الاتحاد الاشتراكي وقالوا له إن شقيق زوجته غادر بورسعيد على بارجة فرنسية في العدوان الثلاثي.. وعندما وجد البوليس ذات مرة يخبط على بيته، عرف أنهم يبحثون عن أخيه الأكبر؛ زكي (كان مُتهمًا مثل بقية اليهود بتهريب الذهب)..
أما هو فقد كان في مكان آخر.. في تكوين “التنظيم”.
هكذا كان اسمه في الأيام الأولى (بلا اسم كنوع من الاحتياط) ثم أصبح طليعة العمَّال.. وهو الاسم الأشهر لهذه المنظمة التي اتخذت أسماء عديدة خلال تاريخها القصير، فقد أسماه بـ”التنظيم” أعضاؤه المؤسسون في أوائل الأربعينيات..
وفي سبتمبر عام 1964 تبني التنظيم لفترة مؤقتة اسم “الطليعة الشعبية للتحرر” وكان أعضاؤه في تلك الفترة لا يتجاوزون خمسة وثلاثين شخصًا. وخلال أعوام1945-1946عادة ما كان يُشار إلى هذا التنظيم باسم إحدى صحفه الواسعة الانتشار “الفجر الجديد”؛ إذ كانت تُسمى مجموعة الفجر الجديد، وعندما اندمجت مع منظمة شيوعية أخرى عام 1949 اتخذت اسم “الطليعة الديموقراطية” وبدَّلت اسمها إلى حزب العمَّال والفلاحين الشيوعي المصري في عام7591، قبل أن تنضم إلى الحزب الشيوعي المصري في نوفمبر 1958 ” (أوراق رول ماير)..
في هذا الانضمام حدثت الواقعة التي يندمُ عليها يوسف درويش.. فقد كان من المُفترض أن يكون في اللجنة المركزية (وكانت هذه هي الوحدة بين تنظيمه وتنظيم حدتو.. وتنظيم آخر اسمه راية، كان من قادته فؤاد مرسي وزير التموين فيما بعد).. لكن تنظيم راية اعترض وقال “إن أصولي اليهودية يمكن أن تُربك الناس تجاه التنظيم”..
ويومها بكيت للمرة الأولى! لكنني وافقت كي لا أكون السبب في “فركشة” الوحدة. وأنا اليوم أرى أنني كنتُ مخطئًا.. لأنه كان لا بد أن أدافع عن قيمة كبيرة؛ وهي أن الماركسية لا تُفرِّق بين الأديان.. وليست عنصرية.. ولم يكن مهمًا أن تفشل الوحدة.. لأنها كانت فاشلة من الأساس.. وهذا ما ثبت بعد أشهر قليلة فقط”.
ظلَّت فكرة اليهودي تطارد يوسف درويش (على الرغم من حرص الإجراءات.. وأنه على الورق لم يعد يهوديًّا). ذات مرة حضر اجتماعات منظمة التحرير بالجزائر كمُراقب “كنتُ مع لطفي الخولي صديقي، ووجدته يهمس في أذن ياسر عرفات: على فكرة؛ يوسف درويش يهودي أصلاً.. فابتسم عرفات وقال لي: والله؟ ما تيجي تشتغل معانا.. فشكرته وقلتُ له: أنا من المؤمنين بأنه يجب أن أحلَّ مشكلة بلدي أولاً.. ومصر ما تزال تحتاج الكثير.. وبدا على ملامح ياسر عرفات أنه لم يفهمني”.