عاش حياته بالطول والعرض..
هكذا تري بسمة جدها “هو واحد شاف أحداث كثيرة من التي أقرأ عنها.. واتولد في أيام أحسن من اللي احنا فيها.. كانت حتى الظروف مريحة.. حكى لي أنه كان يلعب مع أخوته لعبة اسمها حرب المئة بيضة.. وكانوا يستخدمون بيضًا حقيقيًّا.. لم تكن هناك أزمات.. والأهم أنه اختار ما يريد أن يفعله، وليس ما يريده الآخرون.. عرف فكرة الإصرار.. ذهب إلى فرنسا ليدرس التجارة لكنه درس معها الحقوق؛ لأنه يحبها.. وأحب واحدة فرنسية.. وعاش حياته”.
“بما في ذلك الاختيارات السياسية” أضافت نولة لكلام بسمة مشيرة إلى أن يوسف درويش “عمل ما يريد أن يعمله.. وساعده كل من حوله”.
سألت بسمة: إذا مثَّلت فيلمًا عن يوسف درويش.. أي الأدوار تختارين؟!
فكرتْ قليلًا “لن أكون موضوعية.. سأختار دور جدتي”، وبعد لحظة أخرى “ربما سأحب دور البنت الفرنسية التي قابلها في أول حياته” ثم ابتسمت مع نظرة شاردة “تيته ست طيبة جدًا”..
حكت نولة “ماما وفَّرت له المناخ الذي يمكِّنه من أن يفعل ما يريد.. كانت بالنسبة له شبيك.. لبيك.. كل ما يقوله يطاع.. لا أحد في البيت له كلمة غير يوسف درويش”.
اكتشفت من هذه الحكاية أن هناك جانبًا آخر من يوسف درويش الذي رأيته.. جانب الرجل المهيب في البيت الذي لا تسمع رنة الإبرة في وجوده.. يتعامل معه الجميع باعتباره في مهمة كبرى.. لا يمكن أن يربك طقوسه اليومية (شرب القهوة مع الكرواسون في الصباح ونوم القيلولة)، حتى لو انقلبت الدنيا رأسًا على عقب.
لا تتذكر نولة متى بدأت تشعر بأنها من عائلة لها وضع مختلف.. في البداية دخلت مدرسة ليسيه باب اللوق التي كانت تابعة للبعثة العلمانية الفرنسية.. لم يكن في مناهجها تدريس الدين.. لكن بعد 6591.. فرضت مناهج الدين على كل المدارس.
ماذا حدث لابنة يوسف درويش؟!
تقول نولة “شعرت بالصدمة؛ أنا لم أكن أعرف أنا إيه.. وفي حصة الدين كان الفصل ينقسم.. المسلمون يظلون في نفس الفصل.. والمسيحيون يتجمعون مع آخرين في فصل واحد.. واليهود يلعبون في حوش المدرسة.. تكون عندهم فسحة.. أنا طبعًا اخترت الحوش والفسحة وخرجت مع اليهود…بابا طبعًا عرف الموضوع وانفجر وزعق.. وأنا كنت أشعر بالرعب منه.. قال لي أنتِ مسلمة ولازم تحضري حصة الدين”.
وحضرت نولة حصة الدين “لم أكن أفهم شيئًا.. كنت طفلة 7 أو 8 سنين تسمع حكايات من المدرسة عن مريم العذراء التي ولدت دون زواج، ولم أكن أفهم اين المشكلة.. كنت متلخبطة جدًا.. ورسبت في امتحان الدين.. وكانت ليلة ما أزال أتذكرها حتى الآن.. الدنيا برد جدًا.. والشتاء قارس.. وكان سريري وقتها في غرفة بابا وماما.. وعندما سمعت صوته.. عملت نفسي نايمة لأتجنب رد فعله عندما يعرف أني رسبت في الدين”. سارت الأمور بعد ذلك مع بعض الصعوبات “فاجئت أي قبل الامتحان بعدة أيام وقلت لها إنني لا أعرف شيئًا عن منهج الدين.. فأخذت إجازة 3 أيام من الشغل وذاكرت معي الدروس.. مع أنها كانت تتكلم العربية بلهجة مضحكة”.
يوسف درويش لم يكن متدينًا.. لكنه على ما يبدو كان يريد الاندماج الكامل.. أن يكون مصريًّا ليصنع تغيير مصر (الأعضاء الأجانب في تنظيم طليعة العمال.. صنفوهم كمراقبين وسموا موقعهم في الحزب: الممر.. واشترطوا لكي يصبحوا أعضاء عاملين أن يتعلموا اللغة العربية).

يوسف درويش في مصيف بلطيم يونيو 1964
اختار يوسف درويش فكرة التنظيم السياسي.. أكثر من العائلة بشكلها التقليدي.
التنظيم عائلة بديلة (ربما).
الرابطة فيها تبدأ مختلفة (أفكار، ومشروع واحد، وهدف كبير)، وتتحول إلى دائرة مغلقة (الأشخاص نفسهم.. التعصب نفسه والانحياز نفسه.. والحروب الداخلية القائمة على غريزة السيطرة نفسها).
هذا تعميم.. لكنني أحاول أن أرى من خلاله كيف سارت حياة يوسف درويش.فقد تمرد على فكرة العائلة (وهي فكرة لاحظت أنها مهمة بالنسبة لليهود)؛ هو الوحيد تقريبًا الذي غرَّد خارج السرب.. لكنه اختار سربًا آخر (أكبر.. وأكثر تنوعًا.. ويغني ألحانًا مختلفة.. لكنه سرب.. بمعنى ما). والاختيار هنا هو الذي يعطي معنى لفكرة التمرد على المصائر الجاهزة.. والدخول في مغامرة تضعك على حافة الخطر دائمًا.. إنه درس كبير في عائلة يوسف درويش الصغيرة.
وأعتقد أنه أيضًا درس كبير في حياة شخص مثله.. صنع من تمرده الأول على العائلة شيئًا عابرًا للزمن والانتماءات الضيقة.. ومن عائلته الأصغر قلعة يحتمي بها.. هكذا كان البيت امتدادًا للسياسة.
تتذكر نولة الطقس العائلي ليوم الجمعة: قراءة مقال هيكل بصوت عال ومناقشته.. هي ابنة الخامسة عشرة؛ مراهقة تعرف أن هناك خطًا يربط حياتها بمصير البلد.
بسمة أيضًا سمعت في المراهقة كلامًا كبيرًا لم تفهمه “كنت أسمع عن الحاجات دي.. ولا أعرف أنها سياسة.. وأثناء إقامتي مع جدي في الجزائر سمعت نقاشًا صاخبًا تتكرر فيه كلمة برجوازية كبيرة.. وبرجوازية صغيرة.. فقلت لهم أنا عايزة برجوازية صغيرة علشان ألعب معاها.. وحتى الآن كلما أسمع كلامًا كبيرًا لا أفهمه، تبقى دي السياسة”.
لم يحاول يوسف درويش أن يدفع نولة إلى عالم السياسة، لكنها اختارت الاقتراب من باب التمرد والغضب. كانت من أكبر زعماء الحركة الطلابية “وخرجت في جنازة عبد الناصر مع كل الناس” والتقطت من بعيد إحساس التوتر بعد حل الأحزاب الشيوعية (4691) “كانت هذه بالنسبة لي خيبة أمل كبيرة.. نهاية حلم رومانسي بثورة وتغيير.. وظللت سنوات لا أريد أن أسمع حاجة اسمها سياسة” تقول نولة التي ظلت قريبة من اختيارات يوسف درويش السياسية 19 سنة، أرادت بعدها اكتشاف نفسها في طريق مختلف.
ويوسف درويش لم يجبرها على شيء في السياسة.. كما لم يتدخل في اختيارات الحب والزواج “لكن بعد ما حدث من مشاكل في زواجي استخدم معي أسلوب التبكيت”.
“هو طفل كبير” علَّقت بسمة، فقالت لها نولة “حاسبي الكلام دا ها يتنشر”..