في شهر يوليو 1961 بدأ جمال عبد الناصر في تنفيذ القوانين الاشتراكية، التي أحدثت صدى واسعًا.. في ذاك الوقت كانت صحيفة الجمهورية كل تخصص يوم سبت بابًا في صفحتها الأخيرة بعنوان “أحاديث الأسبوع“؛ كل أسبوع يقدمه كاتب مختلف، والباب عبارة عن عدة حوارات مع عدة شخصيات يختارهم الكاتب، وفي الأسبوع الأخير من يوليو 1961 كان قراء باب “أحاديث الأسبوع” على موعد مع الدكتور يوسف إدريس،
الذي حاور بدوره ثلاث شخصيات؛ هم كوكب الشرق أم كلثوم، والنقابية عايدة فهمي، وسفير تونس في مصر الطيب السحباني..
في مقدمة حواره كتب يوسف إدريس “الأسئلة التي دارت في عقلي هذا الأسبوع لم يكن يملك الإجابة عنها إلا الرئيس جمال عبد الناصر، حتى فكرت في أن أكتبها وأبعث بها إليه، ولكن الأسبوع ما كاد ينتهي حتى كان جمال عبد الناصر قد أجاب على كل ما خطر لي وما لم يخطر لي منأسئلة في خطبه الرائعة المشحونة بالمعاني، وها أنذا أختار طريق عبد الناصر، طريق العمل والحب.. وأختار فنانة الشرق الأولى وقيثارة الحب، وجانب من الثورة في تونس ممثلة في الطيب السحباني مندوبها، ثم ألتقي بالطبقة العاملة في شخص النقابية عايدة فهمي“..
وسننشر هنا حواره مع أم كلثوم؛ الذي كان بعنوان “حديث خاطف مع أم كلثوم.. كوكب الشرق هى الوحيدة التي لم تر نفسها في التليفزيون“.. قيمة هذا الحوار، على الرغم من خفته ورشاقته، تكمن في أن طرفي الحوار هما أم كلثوم ويوسف إدريس، الذي لم ينس بدوره أن يغلِّف الحوار بأسلوبه المسرحي، فأصبح الحوار وأنت تقرأه وكأنه قصة قصيرة أو مسرحية ليوسف إدريس!
يكتب يوسف إدريس:
حين رأيتها تغني تذكرتُ قول شوقي في وصفها وهي تغني:
حمامة الأيك من بالشدو صارحها
ومن وراء الدجى في الروض ناداها
ألقت إلى الليل جيدًا نافرًا ورنت إليه أذنًا وحارت فيه عيناها.
واستعدت قول كامل الشناوي عقب حفلتها الأخيرة التي أذيعت بالتليفزيون: أنها لم تكن تغني، فالمغني هو الذي يؤدي اللحن كما أراده الملحن، لقد كانت منفعلة بالكلمات كأعظم ما يكون الانفعال، إن الملايين معها كانت تقشعر أجسادهم وتنتفض كلما قالت: ثوار.. ثوار ولآخر المدى ثوار.. لكنها كانت تعلن بقولها ثورة، أو لكأن ثورة كانت تعلن عن نفسها من خلالها.. كانت تقف ووراء تراثننا الموسيقي تحميه وتذود عنه. القصبجي بالعود وبسبعين عامًا، القصبجي الذي علَّم عبد الوهاب العود، وعبده صالح الذي يحبو إلى الستين على القانون، وإبراهيم عفيفي على الرق وقد ناهز السبعين هو الآخر، وكلهم يردون عليها بالعزف وانبثاقات الانفعال.. ثوار.. ثوار، فينقلبون إلى شباب في العشرين وحتى إلى فتوات.. ما هذا! إنه لشئ معجز.. أنه لإقطاع غنائي.. أنه الإقطاع الغنائي الوحيد الذي تحتم الاشتراكية أن تبقي عليه ونغنيه.. حتى الكاميرا خشعت ووقفت من بعيد كأنها مستمع..
وحين وجدت أننا جميعًا في حاجة إلى معرفة رأي أم كلثوم في القوانين الثورية الجديدة، رأي تلك المعجزة التي ولدت في السنبلاوين دقهلية، من الفلاحين وبين الفلاحين المعدمين.. رأيها وقد بدأت دولة الفلاحين وأصبح المحل الأول فيها للعاملين، في فنها، في أهداف الفن فيها، في إحساسها وقد خسرت بعض النقود وكسبت كل الأرواح.
حين فكرت في هذا كله قررت أن أتصل بها في راس البر، وتحمس الصديق مأمون للفكرة ورفع السماعة..
مأمون: ألو.. سنترال.. إديني راس البر.. مكالمة مستعجلة للسيدة أم كلثوم..
دقائق انتظار.. للحق لم تزد عن دقائق. لا بد وأن مصلحة التليفونات قد مسَّتها الثورة بشعلتها، ثم دق الجرس..
عاملة التليفونات: ألو.. راس البر.. كلِّم..
أمسكت بالسماعة، ومن الأذن المعدنية سمعت الصوت
أنا أم كلثوم..
كان الصوت مفاجأة، فقد كان لفتاة في العشرين، جميلاً، أنثويًّا، فيه كل شباب البحر وأحلام راس البر.
أنا: أريد أن أعرف رأي أم كلثوم في الثورة الجديدة.
أم كلثوم: وتريد أن تسمعه في التليفون؟ مش معقول.. اللي حصل ده أعمق وأخطر من أن يبدي الإنسان فيه رأيه بالتليفون.. أعظم تأييد وفرحة بهذه القرارات هو أن نفهمها بعمق، عشان نمشي على هداها بعمق.. مش معقول قرارات بتغير بناء المجتمع كله يصلح التليفون لمناقشتها..
“ملحوظة: أدركت فعلاً أن الأمر غير معقول..”
أم كلثوم: إن شاء الله أنا جاية مصر.. ولازم نقعد قعدة طويلة.. أقدر أعبر لك فيها عن مش عن اللي أنت عايزه وبس.. إنما كمان عن كل اللي عايزة أقوله.. أنا عندي كلام كثير لازم أوصله للناس.. أنا عايزة أشترك في تغيير بلدي.. مش بصوتي بس.. وإنما كل واحد أو واحدة فينا لازم يجند نفسه بكل ما يملك لإسعاد غيره.
أصوات تتدخل في الخط، وكأنما دخل فيه وابور حرث، عاملات التليفون يتخاطبن خلال الضجة.. كيف؟ لا أدري.. خط آخر دخل علينا كالزوبعة وخرج تاركًا زوبعته.. طنين هائل وكأن بركانًا تفجر في راس البر.. أيوه يا دمياط.. ألو.. مئة ألو قيلت.. بعضها مني وبعضها بأصوات غليظة.. وبعضها يشبه حفيف الثياب على الثياب.. وأنا ألعن هذا كله.. فقد أضاع مني أم كلثوم.. كالراديو حين يفسد فجأة وسط حفلتها، لذلك ما كان أسعدني حين قلت ألو مرة فسمعت من الطرف الآخر أجمل ألو..
الطرف الآخر: ألوه أيوه أنا كنت بتكلم مع مصر دلوقتي..
أنا: ألو.. احنا كنا بنتكلم مع راس البر.. السيدة أم كلثوم؟!
العاملة متدخلة: المدة انتهت.
أنا: ادينا مدة ثانية وثالثة ورابعة.. ادينا وصلة بحالها.
أنا: كنت أريد أن أسألك بشأن الحفلة.. هل رأيتها في التليفزيون؟
أم كلثوم: للأسف.. رجعت ثاني يوم الحفلة ولم أرها.
أنا: لقد كانت ناجحة جدًا، ولا بد أن تكرريها، ولا تحرمي جمهور التليفزيون الذي يعد بالملايين منك.
أم كلثوم: ألا يكفيهم الصوت؟
أنا: إن طريقة غناء أم كلثوم جزء لا يتجزأ من فن أم كلثوم.. وحرمانهم منها جزء لا يتجزأ من حرمانهم من صوتها، لماذا لم ترضي عن الأغاني التي عرضت عليك؟
أم كلثوم: لأن التصوير لم يكن كما يجب، لا بد أن تقف الكاميرا حيث يقف المستمع، أما في الأشرطة التي ألتقط فالمصور كان كأنه يريد أن يصور أفكاري.
أنا: إذا رأيت الحفلة الأخيرة وقطعًا سيسرك رؤيتها، هل توافقين على إذاعة الحفلات بعد هذا؟
أم كلثوم: بالتأكيد..
أنا: أزعجتك في مصيفك بالأسئلة؟
أم كلثوم– بطيبة شرقاوية دقهلاوية؛ فالسنبلاوين تقع على الحدود الفاصلة بين الشرقية والدقهلية: أبدًا.
العاملة– قبل أن نقول متشكرين: المدة انتهت.
أنا: متشكرين
أم كلثوم: إلى اللقاء في القاهرة حين أعود.. أعدك بجلسة طويلة إن شاء الله.
أصوات مذكرة ومؤنثة وإنسانية وآلية كثيرة.. مدافع وأزيز طائرات.. سكون.. طلقة أخيرة..
صوت العاملة: خلاص المكالمة يا جمهورية.
أنا؛ وكلي أسف: خلاص يا تليفونات!