يمكنك أن تسخر من صورة الثقب الأسود ، وموجة السخرية هي جزء من الصدمة التي يقابلها رجال الدين وكهنته بطريقة أخرى يستخرجون فيها من الكتب المقدسة دلائل على “المعرفة السابقة” على اكتشاف يرجع إلى ظهور “نظرية النسبية العامة ” بعد المبادئ الأساسية التي وضعها ألبرت أينشتاين؛ العالم الذي ما يزال مارقًا في نظر الناجحين في تحويل عجزهم أمام أسئلة الوجود، وغموض الوجود على كوكب الأرض، هو الملعون الذي قدم لمخاوفنا من الضياع في فراغ الكون مزيدًا محرجًا من الأسئلة.
هكذا فإن الثقب الأسود الذي ظهر ضمن كشوف نظرية أينشتاين، ليس مجرد ترف علمي لكنه جزء عميق من سؤال كبير عن وجودنا، ولهذا فإنه لم تعد الحياة كما كانت قبل تصوير الثقب الأسود. نعم نسير كما نفعل في مدننا المتناثرة على كوكب يدور في الغامض، لكننا منذ يوم الأربعاء 9 أبريل 2019، وعلى اختلاف الوعي والعقائد والمفاهيم، أمام حقيقة جديدة من تلك التي يصعب على حواسنا معرفتها، أو إدراكها. ولهذا اخترنا هذا الكتاب الذي يقدم فيه كارلو روفيللي، الكاتب والفيزيائي الإيطالي المقيم بفرنسا، حيث يدرس الفيزياء في جامعة آيكس بمارسيليا.
كارلو روفيللي هو واحد من الذين يمكن أن نقول من أحلهم “علماء الفيزياء أجمل الشعراء“، وهو ليس واحدًا منهم فقط، لكنه عاشق لهذه النظرة الفنية إلي الخيال الذي تصنع الفيزياء منه نظرياتها، وكما يكتب الفنان عادل السيوي في مقدمة ترجمته للكتاب صغير الحجم الذي انتشر بلغات متعددة منذ صدوره في 2014.
دروس هذا الكتاب السبعة لا تزج بنا في التفاصيل، ولا تقدم مادة علمية مكتملة وإنما عودة للنظر الى العالم من أعين العلماء أيضًا، لنوسع إدراكنا لطبيعته وطبيعتنا أيضًا بصفتنا جزءًا منه، ولذا فقد اختار المؤلف أن يقدم لنا معادلة أينشتاين الأساسية التي أسست نظرية “النسبية العامة“، بصفتها عملًا فنيًّا لا ينتهي أثره بفك شفرته، فهو يعيد انتاج نفسه دائما مكتملًا وقويًّا، مثل الملك لير ولوحات مايكل انجلو ورباعيات موتسارت الخالدة، إنها أجمل نظرية. يقدم الكتاب أسئلة تمس الأبعاد الأساسية في وجودنا. أسئلة عن طبيعة المكان والزمان والمادة… ثم يأتي سؤال بالغ الأهمية في نهاية الكتاب: وماذا عنا؟ من نحن وسط هذا العالم؟ نحن بأجسادنا التي صُنعت من مادة الكون نفسها؟ إنها أبعاد مربكة. وقد تثير فينا مخاوف كبرى. ولكن العلم لا يسعى للتوافق مع معرفتنا الحسية بالعالم..
وسيكون مثلًا من الصعب على القارئ أن يتفهم “كيف يتقوس الزمان“. أو كيف يكون الإلكترون وجودًا وعدمًا في آن..
وسيصعب علينا بالتأكيد فهم الكوانتم أو حبيبات فراغ، ولكنها بداية التورط، فنحن نتقبل منطقيًّا أن يكون صديقنا في جنوب أفريقيا متدليًّا برأسه إلى أسفل وأن سماءه تقع أسفله، وقدمه الى أعلى لأننا ندرك أن الأرض كرة تدور في الفضاء وهذا يصعب على حواسنا ولكننا نقبله كحقيقة…
اخترنا في مدينة كتاب روفيللي إعجابًا بقدرته على التحريض الجمالي لفهم العالم، تحريض يدفع القراء إلى التخلي عن مواقع الحكمة المحافظة والمقولات الحديدية المطمئنة، إلى التخلي عن تصورنا الضيق للكون المبني على إدراكنا الحسي، ولكنه يدرك بلا جدال صعوبة التخلي عن فكرة الزمن لأنه طبعنا البشرى، الذي يراقب مرور الوقت وتقدم العمر، ويسمع دقات القلب، ويخشى الموت، إنه الزمن الذي لا يهزمه أحد، لأنه قدرنا، أو لأنه كما يرى روفيللى غير موجود في الكون أصلًا…
هل تحتمل الوجود إذا أدركت أن الزمن غير موجود، هذا مأزق تعمقه صور الثقب الأسود… وهذه هي الأقواس التي وضعناها في “أجمل نظرية“…
القوس الأول: في مديح الوقت الضائع
قضى ألبرت أينشتاين وهو شاب سنة كاملة في إيطاليا، في بلدة بيجي لوناري، وطوال تلك السنة لم يفعل الشاب شيئًا، كان يضيع الوقت.. ويبدو أننا إذا لم نضيع الوقت، فلن نجد شيئًا ذا قيمة، ولنذهب إلى أي مكان، وهذا
للأسف هو ما يتناساه الآباء دائمًا عندما ينظرون إلى أبنائهم وهم في بداية الشباب.
التحق ألبرت بالعائلة التي كانت قد انتقلت إلى بافيا، تاركا دراسته في المانيا لأنه لم يتحمل القيود الصارمة التي تفرضها عليه المدرسة، حدث هذا في بداية القرن، وكانت الثورة الصناعية قد انتقلت وقتها الى إيطاليا، وكان أبوه مهندسا، يقوم ببناء أول محطات كهربائية عملاقة في سهل بادانا في الشمال الإيطالي.
دروس كانط الفلسفية كانت تشغل عقل ألبرت الشاب آنذاك، ولكنه كان يتابع أيضًا على سبيل الفضول بعض المحاضرات في جامعة بافيا، دون أن يلتحق بالجامعة، ودون أن يكون مطالبا باجتياز أي اختبارات فيها، وهي طريقة في الدراسة يصبح العلماء عبرها علماء بما تعنيه الكلمة. ولكنه التحق بعد ذلك بجامعة زيورخ، حيث تفرغ بالكامل للفيزياء، وبعد سنوات قليلة، وتحديدًا سنة 1905أرسل ثلاث دراسات، الى أهم جريدة علمية في ذلك الوقت وهي “حولية الفيزياء“.
كانت كل دراسة أرسلها الشاب أينشتاين جديرة وحدها بالحصول على جائزة نوبل، الدراسة الأولى تثبت أن الذرة موجودة فعليًّا وليست مجرد افتراضات نظرية عن بنية المادة، أما الثانية فكانت تفتح الباب لميكانيكا الكوانتم والتي سوف أتناولها في الدرس التالي، أما المقالة الثالثة فكانت تقدم نظريته الأولى في النسبية، والتي نسميها في يومنا هذا “النسبية المحدودة” وهي النظرية التي كانت تكشف لأول مرة أن الزمن ليس متساويًا، الزمن ليس واحدًا، وأن عمر التوأم لن يعود متطابقًا إذا ما سافر أحدهم بسرعة أكبر من الآخر.
بعد نشر المقالات أصبح أينشتاين الشاب فجأة عالمًا مرموقًا، وانهالت عليه العروض للتدريس بالجامعات، ولكن هذا الاحتفاء العارم بنظريته، لم يخلصه من قلقه العميق حيال أفكاره، لأنها كانت تتعارض جذريًّا مع ما كان معروفا وقتها عن الجاذبية، وعن الكيفية التي تتساقط بها الأجسام. أدرك أينشتاين هذا التعارض من البداية وطرحه في أحد مقالاته عن نظرية النسبية، وفى هذا المقال كان يتساءل إذا ما كان الوقت قد حان لمراجعة تلك النظريات المتهالكة والبالية عن الجاذبية الكونية، ويقصد نظرية الأب العظيم نيوتن، كان أينشتاين يرى ضرورة مراجعة صحة هذه النظرية بالتحديد كي تتوافق مع تصورنا الجديد للنسبية، وتطلب حل هذا التعارض أن ينهمك لعشر سنوات في العمل بلا توقف. عشر سنوات من المحاولات، من الافتراضات المجنونة، من الأخطاء، من الارتباك، من المقالات المتناقضة، من السقطات الكبيرة، ومن الأفكار المضيئة والمدهشة أيضًا. بعد هذه السنوات العشر نشر أينشتاين تصوره للحل الكامل لهذه المعضلة، وذلك بصياغة نظرية جديدة للجاذبية، ومنحها اسما يخصها ” النظرية النسبية العامة ” وهذه هي تحفته الرائعة، عمله الفني الكبير، وأعلى ابداعاته كلها، وهي النظرية التي منحها الفيزيائي الروسي العظيم ليف لانداو، هذا اللقب الخاص بين النظريات العلمية عندما وصفها بأنها “أجمل
“، وهكذا ظهرت أجمل نظرية الى الوجود سنة 1915.
هناك روائع أبدعها البشر، تؤثر فينا بشكل خاص، إنها إبداعات مطلقة، وإلياذة هوميروس، وقداس موتسارت الجنائزي، جدارية مايكل انجلو عن القيامة في الفاتيكان، الملك لير لشكسبير، تتطلب منا هذه الروائع، جهدًا كبيرًا كي نلمس عمق أسرارها، ولندرك موطن تفردها وتألقها، ولكن بعيدًا عن الدراسة والفهم هناك ما هو أهم وأولى؛ إنه الجمال الصافي لهذه الا بداعات. ولا يتوقف الأمر عند هذا الجمال وحده، فهي أعمال تزود أعيننا بنظرة جديدة وتفتحها على افاق لم تطلها من قبل، لأنها تجدد نظرتنا، و“النسبية العامة” واحدة من تلك الروائع الإنسانية النادرة.
* من االدرس الأول
القوس الثاني: الفكرة الشجاعة
“نحن نشاهد الآن في السماء الثقوب السوداء التي تتخلف عن تصدع النجوم وانهيارها، وندرك أن مادة النجم الذي أفل تتهاوى نحو مركزه الداخلي مضغوطة بثقل وزنها، تقع بفعل ثقل وزنها وتختفي من أمام أعيننا ولكن أين تنتهي هذه المادة؟
وإذا كانت افتراضات نظرية جاذبية الكوانتم الحلقية صحيحة فإن هذه المادة لا يمكن أن تكون قد انهارت حقًا ونفدت وتجمعت داخل نقطة متناهية الصغر، فليس هناك نقاط متناهية الصغر وإنما فقط أقسام محددة “مناطق مكانية” وحدات رهيفة من المكان. وإذا تهاوت المادة تحت وطأة ثقلها الذاتي فلا بد إذن أن ترتفع كثافتها على نحو مطرد حتى تصل الى تلك النقطة التي وفقًا لميكانيكا الكوانتم لا تصبح فيها قادرة على التضاغط. أي لا تعود قادرة على معادلة ذلك الثقل.
هذه الحالة النهائية الافتراضية التي يدخل فيها النجم إبان أفوله، وهي طور من أطوار حياته، يكون فيه الضغط الناتج عن النموذج الكوانتمي لمركب الزمان/المكان قادرًا على التوازن لأنه يضاد ثقل المادة، وهذا هو ما نسميه “نجمة بلانك” Planck Star.
وإذا ما توجب على الشمس عندما تتوقف عن الاشتغال أن تولد ثقبًا أسود فسيكون قطر هذا الثقب كيلو متر ونصف تقريبًا. وستواصل عندئذ كل مادة الشمس في التساقط والتهاوي داخل هذا الثقوب تغوص فيه حتى تتحول إلى “نجمة بلانك“. وسيكون قطرها عندئذ أقرب إلى قطر ذرة واحدة، وستصبح كل مادة الشمس عندئذ مركزة في فراغ يتسع لذرة واحدة. هذه الحالة النهائية “المتطرفة” للمادة هي التي تكون نجمة بلانك. نجمة بلانك ليست جرمًا سماويًّا مستقرًا، فعندما تنضغط إلى أقصى حدودها ترتد على نحو انفجاري وتبدأ في التموج والاتساع مرة أخرى، وهذا هو ما يؤدي إلى انفجار الثقب الأسود.
*من الدرس الخامس
القوس الثالث: كأنه مصنوع من نفس مادة الأحلام
“تنبأ اينشتاين مبكرًا بأن الشمس تحرف مسار الضوء. وفي 1919 تمكن من قياس ذلك الانحراف الذي تحدثه الشمس وتم التثبت من صحته. ولكن التقوس والانحناء لا يتوقف فقط على المكان أو الفضاء وإنما الزمن أيضًا يتقوس. اكتشف أينشتاين قبل الجميع أن الزمن يسير بسرعة أكبر في الأعلى ويصبح أبطأ في الأسفل. أي عندما يقترب من الأرض. وأن هذا الفرق قابل للقياس. وهذه حقيقة مؤكدة. وإن كان الفرق ضئيلًا، ولكن واحدًا من التوأمين الذي عاش بالقرب من البحر، سيجد أن أخاه التوأم الذي عاش فوق الجبل قد أصبح أكبر منه في العمر قليلًا. كل هذه الاكتشافات لم تكن إلا بداية.
عندما يحرق نجم كبير كل المادة القابلة للاشتعال “الهيدروجين” فإنه ينطفئ في نهاية المطاف. ما تبقى من النجم لا يجد الحرارة الكافية ليبقى متماسكًا. وما تبقى من مادة هذا النجم لا يتماسك ولا يحتفظ ببنيته، نظرًا لغياب حرارة الاحتراق، ولذا يتهاوى منهارًا تحت ثقله الذاتي جاذبًا معه الفراغ بقوة، فيتقوس، وينحني الفراغ مدفوعًا بقوة الانهيار لينتهي داخل ثقب حقيقي، ويتولد بذلك ما اصطلح على تسميته بالثقب الأسود.
في سنوات دراستي الجامعية لم تكن الثقوب السوداء حقائق مقبولة، وإنما محض افتراضات يصعب تصديقها ولدتها نظرية غرائبية. أما الآن فالثقوب السوداء أصبحت مكشوفة بالمئات في السماء. ويعكف الباحثون على رصد كافة تفاصيلها، ولا يتوقف البحث عند هذا الحد. فالمكان بأكمله قابل للاتساع والانكماش. يتمدد ويضيق. محاولات أينشتاين تؤكد لنا أن الكون لا يمكن أن يبقى ساكنًا أبدا، فهو في حالة تمدد واتساع دائم.
وفي سنة 1930 تم بالتحقق المعملي التأكيد على تمدد الكون، وبدأت عمليات متابعة هذا الاتساع المتنامي. وتقترح المعادلة ذاتها أن هذا التمدد هو نتيجة بالضرورة لانفجار كون أصغر. هذا التمدد هو اتساع متواصل لكون كان صغيرًا وشديد الحرارة. إنه الانفجار العظيم مرة أخرى.
لم يصدق أحد نبوءات أينشتاين المذهلة ولكن الأدلة تلاحقت تباعًا. حتى تم التواصل إلى مشاهدة الاشعاعات الكونية العميقة في السماء. ذلك الألق الهائل الذي تولد وانتشر بعد وقوع الانفجار الأول. تأكد بذلك أن ما توصل أينشتاين إلى فهمه عبر معادلاته الثاقبة كان صائبًا.
نظرية أينشتاين كانت تؤكد بالإضافة إلى ما سبق على أن المكان، أي الكون، يتجعد ويتموج مثل سطح البحر. ويمكن مراقبة أثر هذه التموجات في الجاذبية، في السماء خاصة على النجوم التوأمية، وهي النجوم التي تتشابه وتحتفظ بنفس المواقع، وتتطابق نتائج الملاحظات بدرجات غير مسبوقة من الدقة مع نتائج المعادلات بنسب تصل إلى واحد على مائة مليار، وتواصل تقدمها. في المحصلة النهائية ترسم لنا نظرية أينشتاين عالمًا ملونًا ومدهشًا حيث تتفجر أكوان. ويغوص المكان داخل ثقوب سوداء لا يمكن الخروج منها. إنها صورة لزمن يتباطأ عندما يقترب من سطح كوكب ما. بينما يتموج الفضاء الشاسع الممتد ما بين النجوم كسطح البحر… كانت كل تلك الصور تخرج ببطء من الكتاب واحدة وراء الأخرى. ذلك الكتاب الذي قرضت الفئران حوافه. لم تكن حكاية خرافية يهذي بها مخبول ذهب عنه عقله وتركه لخياله. ولم تكن بمثل هذيان الشمس الحارقة على شاطئ البحر في كالابريا. أو تلك الضلالات التي تتراءى من انعكاسات الضوء على سطح البحر. كانت هي الواقع؛ أو بتعبير أفضل كانت نظرة للواقع تتجاوز الأستار والغلالات التي تحيط بها حياتنا اليومية صورة الواقع وتزيغ أعيننا. كان الواقع يتكشف لي، وكأنه مصنوع من نفس مادة الأحلام، ولكنه أكثر واقعية رغم كل شيء. أكثر واقعية من تلك الأحلام اليومية القائمة“.
*من الدرس الأول
القوس الرابع: عناقيد الحرارة
“ما الحرارة؟
كان علماء الفيزياء حتى منتصف القرن التاسع عشر يجتهدون لصياغة تصور للحرارة بوصفها طبيعة تخص سائل محدد، وهو السائل الحراري، أو لنقل أنهم اعتقدوا أن هناك سائلين؛ سائل حار بطبيعته وآخر بارد بطبيعته، ولكن هذا التصور لم يصمد كثيرًا، فقد أدرك بعدها كل من فاكسويل وبولتسمان إجابة مغايرة لنفس السؤال، وكان ما أدركاه بالغ العمق والجمال والغرابة. وقادنا هذا إلى أراض جديدة لم نكن قد اكتشفناها بعد.
اكتشف العالمان أن المادة لا تكون ساخنة لأنها تحتوي على هذا السائل الحار المفترض، المادة الساخنة هي مادة تتحرك ذراتها وجزيئاتها بدرجه أسرع، ولذا فإن السخونة ترجع إلى حركة عناقيد مترابطة من الذرات والجزيئات في حالة من الحركة الدائمة داخل المادة يركضون يهتزون ينفلتون ويرتدون.
الهواء البارد هو ذلك الهواء الذي تتحرك ذراته أو بالأحرى جزيئاته ببطء،
الهواء الساخن هو هواء تتحرك ذراته وجزيئاته بمعدل أسرع؛ اكتشاف بسيط وجميل ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد. فكما نعرف جميعًا تنتقل الحرارة دائمًا من الأجسام الساخنة الى الأجسام الباردة، فإذا وضُعت معلقة صغيرة باردة داخل قدح من الشاي الساخن ستصبح ساخنة هي أيضًا. وفي يوم شديد البرودة إذا لم نتدثر جيدًا بملابس ثقيلة فإننا سنفقد الحرارة ونبرد. ولكن لماذا تنتقل الحرارة من الأشياء الساخنة إلى تلك الباردة وليس العكس؟
نقف هنا أمام سؤال محوري لأنه يتعلق بطبيعة الزمن، ففي كل الحالات التي لا تتضمن تبادلًا للحرارة أو انتقالا للحرارة في الواقع، أو في تلك التي لا يتم خلالها تبادل للحرارة ذو قيمة لا بد من وضعها في الحسُبان. سنرى أن المستقبل يسلك سلوكًا مشابهًا للماضي تمامًا. فحركة الكواكب في مجموعتنا الشمسية على سبيل المثال لا تتضمن عمليات تبادل حراري مؤثرة. ولذا يمكن في الواقع، أن تغير هذه الكواكب مسار حركتها، بحيث تدور في الاتجاه المعاكس دون أن يتسبب ذلك في انتهاك أي من قوانين الفيزياء.
ولكن إذا دخل تبادل الحرارة في الحسبان، فإن المستقبل سيكون مختلفًا بلا جدال عن الماضي، فالحرارة تلعب دورًا حاسمًا فيما يتعلق بالزمان، وإذا اخذنا البندول مثالًا على ذلك سنجد أنه في غياب الاحتكاك يواصل البندول تأرجحه بلا نهاية. وإذا قمنا بتصوير حركة البندول ثم عرضنا ما صورناه معكوسًا، سنجد أن الحركة ممكنة تمامًا ومطابقة ولكن في الاتجاه المعاكس، ولكن هذا يظل افتراضًا نظريًّا، فالاحتكاك أمر يصعب تفاديه. الاحتكاك يولد حرارة، البندول ينقل هذه الحرارة إلى الخيط والدعامة الحاملة له. وهذا يعنى أنه يفقد طاقة ما، لذا يبطئ تدريجيًّا. وسنلاحظ في الحال أن المستقبل، ويعني هنا التباطؤ المتواصل في حركة تأرجح البندول، يختلف عن الماضي. ولذا لا يصبح ممكنًا عمليًّا أن نعكس اتجاه حركة البندول، ولم يحدث أن شاهدنا في الحقيقة بندولًا ينطلق متأرجحًا من وضع الثبات بفعل الطاقة التي امتصها من الخيط والدعامة الحاملة له.
الفرق ما بين الماضي والمستقبل يبرز فقط عندما يتعلق الأمر بالحرارة، والظاهرة الأساسية التي تميز المستقبل ليصبح مختلفًا عن الماضي؛ هي بالتحديد أن الحرارة تنتقل من الأشياء الأكثر سخونة إلى الأشياء الأكثر برودة. ولكن يبدو أننا مطالبون هنا بإعادة السؤال ثانية: لماذا تنتقل الحرارة من الأشياء الساخنة إلى الأشياء الباردة وليس العكس؟
الإجابة قدمها العالم الفيزيائي النمساوي لودفيج بولتسمان، والسبب الذي قدمه لنا كان بسيطًا بشكل يدعو للدهشة؛ أنها “المصادفة” وحدها، فكرة بولتسمان كانت رهيفة وثاقبة، ووضعت المفاهيم المتعلقة بالاحتمالات على المحك، فالحرارة كما فهمها بولتسمان لا تنتقل من الأجسام الساخنة إلى تلك الباردة جبريًّا. ولا وفقًا لحتمية قانون مطلق، ولكن الحرارة تنتقل فقط لأن احتمالية الحركة في هذا الاتجاه هي الأكبر. الدافع إذن يكمن في الاحتمال، فالاحتمال الأكبر هو أن تصطدم ذرات الجسم الساخن لأنها أسرع بذرات الجسم البارد، وهذا الارتطام يجعلها تفقد شيئًا من طاقتها، التي تنتقل للذرة الأقل حركة، وهذا الاحتمال هو الكبر إحصائيًّا وليس العكس. الطاقة تحتفظ بقيمتها حتى يحدث التصادم، ولكنها بعد الارتطام تميل للتوزيع على مقادير متساوية بشكل ما، وخاصة عندما تتضاعف معدلات الارتطام بعفوية. ولذا وفقًا لهذه الآلية تميل الحرارة للتوزيع بشكل متساو بين الأجسام المتلاصقة.
ولا يمكن أن يسخن جسم ما أو ترتفع حرارته أكثر عندما يوضع في تلاصق مع جسم أكثر برودة منه، لا نقول إن هذا احتمال نادر وإنما فقط هو احتمال غير وارد بتاتًا وقطعيًّا.
الزج بالاحتمالات كنظرية إلى القلب من الأسئلة الفيزيائية واستخدامها لشرح قواعد ديناميكا الحرارة لم يكن أمرًا مقبولًا، بل وتم التواصل معه بوصفه محاولة عبثية في بداية الأمر لم يأخذ أحد بولتسمان مأخذ الجد. وهذا سلوك متكرر في تاريخ العلوم. وفي الخامس من سبتمبر عام 1906 انتحر بولتسمان في دويتو بالقرب من تريستا الإيطالية؛ شنق الرجل نفسه قبل أن يشاهد بعينيه الاعتراف العالمي بصحة وعمق أفكاره“.
* من الدرس السادس