يمكن، في العموم، تقسيم تاريخ التصوير الفوتوغرافي للمدينة إلى توجهين. من جهة يتم تصوير المدن في إطار طوبوغرافي يعطي تفضيلاً للرؤية عن بعد وللمنظر البانورامي. ومن جهة أخرى، يتضمن التصوير الفوتوغرافي المديني تقليدًا يفضل تصوير حياة المدن على مستوى الشارع.
في الصور التي تنتمي للتوجه الأول يكون كل التركيز على المباني وعلاقاتها بما يحيط بها من عمران أو طبيعة. وتبعًا لهذا التقليد الذي كان يعد النموذج السائد لفوتوغرافيا المدينة في القرن التاسع عشر، لا نرصد في هذه الصور أي بشر، أو بالأحرى قد نرى قلة منهم. كان ذلك بلا شك في البداية نتيجة للقيود التقنية. على الرغم من ذلك فقد بدأت البواعث الجمالية الفنية مبكرًا في إفراز كم هائل من النتاج الفني الذي يعكس تصورًا فارغًا ومهجورًا للمدينة.
بعض هذه الصور حاول مضاهاة الوضوح في الرسوم المعمارية، وبعضها لفت الانتباه إلى العلاقة التجريدية بين الضوء والمجسمات، فيما أيقظت صور أخرى أحاسيس الرعب المهيب، أو الخوف أو العزلة المرتبطة بالمجتمع الحديث. من جانب آخر تشتمل فوتوغرافيا المدينة على تقليد يفضل تصوير حياة المدينة على مستوى الشارع. ووجد هذا التوجه ذروة التعبير عنه في فوتوغرافيا الشارع التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، مع انتشار آلة التصوير “كوداك“، وتطور جماليات اللقطة الفوتوغرافية. خلال القرن العشرين، كانت فوتوغرافيا الشارع مرتبطة بشكل وثيق مع تقنية الكاميرا ذات الحجم الصغير 35 مم والتي أتاحت مواجهة فيزيقية مباشرة بين المصور وسكان المدينة. أصبحت الكاميرا امتدادًا لجسد المصور والطريقة كانت تتسم غالبًا بالمواجهة.
احتفت فوتوغرافيا الشارع بالتلقائية؛ تلقائية المصور الذي كان يلتقط أحداث الشارع، وتلقائية الأشخاص هدف الصورة وهم يكونون عادة على غير وعي بحضور المصور. وعلاوة على ذلك كان ينظر إلى الصورة باعتبارها نتاجًا لمصادفة فريدة وعين المصور المحترفة القادرة على الالتقاط، وهذا ما يسميه هنري كارتييه بريسون بـ“اللحظة الحاسمة“.
في منتصف القرن العشرين، وفي أجواء ثقافية هيمنت عليها الفلسفة الوجودية وموسيقى الجاز والفن الحركي action painting وسينما الواقعية الجديدة والموجة الجديدة، تمخض عن فوتوغرافيا الشارع أسلوب دينامي وحاد، يتميز بعدم التوازن في التركيب الفني للصور ووضعها في أطر غير مألوفة، وكثيرًا ما كانت الصورة تتسم بعدم الوضوح في الحركة أو تشوش الرؤية. كانت بؤرة فوتوغرافيا الشارع مسلطة على البشر أهدافًا للصورة. واحتفت بحياة الشارع بإيمان شديد بطابعها الإنساني، أو أبرزت المجتمع المديني القاسي الذي تسيطر عليه الجريمة وضغط وإجهاد العمل والعزلة. اختصارًا، فإن هذا النوع الفني تكيف تكيفًا تامًا مع المدينة المعاصرة، التي تم تعريفها على أنها مملكة المصادفات (بودلير)، أو مكان للاستثارة المفرطة للحواس (زيمل)، أو لتحويل الخبرات المفزعة إلى خبرات داخلية ذاتية (بنيامين)، أو مملكة لثقافة الازدحام (كولهاس). ولجمعه بين الحركة والرؤية، بين القرب والحياد، تكرر تعريف مصور الشارع على أنه المعادل للمتسكع flaneuer، النموذج الذي قدمه فالتر بنيامين على أنه المديني الأصلي.
ومنذ الثلاثينيات على وجه الخصوص؛ بعد انتشار آلة التصوير ماركة “لايكاLeica “، وحتى الستينيات كانت فوتوغرافيا الشارع هي النموذج الفني الرائد في فوتوغرافيا المدينة على جانبي الأطلسي. وخلال هذه العقود تمت عمليًّا إزاحة المنحى الطوبوغرافي في تصوير المدن الذي كان مهيمنا في القرن التاسع عشر، ليستخدم في أغراض ومجالات بعينها، كالدوريات المعمارية مثلاً. مع ذلك فقدت فوتوغرافيا الشارع في أواخر القرن العشرين بهائها، وأصبح لدى رواد فوتوغرافيا المدينة ميل أكثر نحو المنحى الطوبوغرافي. في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات استبدل كل من الفنانين المفاهميين (دان غراهام وإدوارد روش وجون بالديساري) ومن يدعون بالطوبوغرافيين الجدد (روبرت آدامز ولويس بالتز وستيفان شور، وآخرين) رد الفعل التلقائي على المصادفة المدينية وكثافة مناطق أواسط المدن بالانسحاب المحايد نحو أطراف المدينة.
ومما لا شك فيه أن ذلك كان نتيجة لتغير حاد في طبيعة المدينة. بداية لم يعد هناك وجود للمدن الكبيرة الحديثة التي اعتاد فوتوغرافيو الشارع على تصويرها لعقود. نشأ عمران الضواحي ما بعد الحرب في بيئة ما بعد المدينة التي تلاشت فيها إلى حد كبير الفروق بين وسط المدينة والضاحية ومناطق الأطراف والريف. الازدحام المتنوع لأواسط المدن، كما يحتفى به في صور فوتوغرافي الشارع مثل ويجي Weegee أو ليزيت مودل Lisette Model أو روربرت فرانك أو ويليام كلاين، تم استبداله بالكثافة المنخفضة للامتداد العمراني. وتبعا لذلك بدأت تقاليد فوتوغرافيا المدينة وتقاليد فوتوغرافيا الطبيعة تؤثر على بعضها البعض بشكل متزايد. والآن تكفي نظرة سريعة على هذه الصور، لإيضاح أن المشاهد الطبيعية التي تتناولها، لا تتشابه إلا بقدر ضئيل للغاية مع فوتوغرافيا الطبيعة التقليدية ذات الطابع السامي النقي. فبدلاً عن الهروب من المدينة في الأزمات والبحث عن الخلاص في الطبيعة العذراء، كان هؤلاء الفنانون والمصورون الفوتوغرافيون مبهورين بالحدود المائعة وغير المنتظمة بين المدينة والريف. تتسق المناظر التي يصورونها مع التوسع الأفقي غير المركزي الجيد للمشهد المديني، والذي يسميه منظرو العمران، عمران ما بعد الضواحي Postsuburbia. إذاً، إلى حد ما يسير تاريخ فوتوغرافيا المدينة بالتوازي مع تاريخ التخطيط المديني، الذي تحول عن نموذج الحاضرة المركزية المتمثلة في نيويورك إلى نموذج التوسع العمراني الأفقي على غرار لوس أنجلوس وهيوستن، وأتلانتا أو لاس فيجاس. تحولت نظرة كبار الفنانين المفاهميين والطوبوغرافيين الجدد جغرافيًّا مع استبدال قلب المدينة بمشهد عمراني يمثل نموذجًا لحالة المدينة في أواخر القرن العشرين: لوس أنجلوس نموذجًا لمتروبول الضواحي، وسلسلة من البيوت المتشابهة البناء بحيث لا يمكن التمييز بينها، ضواح عمومية، وأراض مقفرة كئيبة، ومجمعات للمكاتب تتسم ببهاء المنظر، وأماكن غير قابلة للوصف في مناطق الأطراف، واللا أمكنة في المدينة العالمية.
هذه التغيرات في فضاءات المدينة تجسدت في الأسلوب المهيمن على فوتوغرافيا الحضر. في تصويرهم وتفسيراتهم للأطراف المدينية الجديدة، تحول الأسلوب الحاد لفوتوغرافيا الشارع، إلى المنحى الطوبوغرافي، الذي كثيرًا ما يذكر بتصوير الحضر والمشاهد الطبيعية في القرن التاسع عشر. عندما أفسحت مناطق وسط المدينة المجال لمناطق الأطراف، واستُبدلت حياة الشارع ذات الحركة المحمومة والكثافة بالفراغ والانفتاح: حلت الكاميرات ذات الحجم الكبير محل تلك ذات الحجم الصغير، واستبدل القرب المكاني بالمسافة والحياد، وحل التأطير المحسوب للصورة محل تلقائية التقاطها، وحل البطء محل السرعة، والجماليات الباردة محل تلك الساخنة، وحل التكرار والقابلية للتغيير داخل ذات المشهد، محل اللحظة الحاسمة والمصادفة الفريدة.
يضاف إلى ذلك أن عدة تغييرات اجتماعية في مراكز المدن كانت أيضًا وراء انحسار فوتوغرافيا الشارع. فقد أدت عملية نشأة الضواحيSuburbanization أو (هجر المدينة disurbanization) إلى محو الفضاء العام في مراكز المدن، وهي أماكن الالتقاط المثُلى لفوتوغرافيّ الشارع. حل الطريق السريع المفتوح محل الشارع، وتحول المتسكع إلى سائق. علاوة على ذلك فإن المتروبول من خلال الجيتوهات والأحياء المخصصة فقط للعمل المكتبي والمناطق السكنية التي تسكنها الطبقات العليا فقط ومراكز التسوق والملاهي والمعالم السياحية، وتحول الشوارع إلى مجرد ممرات مرورية، لم تعد في نهاية القرن العشرين قادرة على استيعاب أي نوع من التمركز المديني civitas.
سواء في احتفالها بحياة الجيرة أو تقديرها للإيقاع المحموم لقلب المدينة، كانت فوتوغرافيا الشارع مرتبطة ارتباطًا وثيقا بفكرة مجتمع المدينة الكبيرة، وعلى وجه الخصوص في تلك المرحلة الفنية التي سميت بالمرحلة الإنسانية قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها. وعلى الرغم من أن المدينة الحديثة كانت هي مفرخة التشظي الاجتماعي وعملية الفردنة، فإن المثقفين والفنانين قدموا المدينة على أنها الفضاء الخاص الذي يعكس التفاعل المتنوع والوحدة بين مكوناته. انجذبت فوتوغرافيا الشارع إلى مفهوم المدينة باعتبارها فضاءً ديمقراطيًّا. لكن خلال العقود الأخيرة جرت بشكل متزايد خصخصة للفضاءات العامة و/أو تحولت إلى ملاه ترفيهية. إضافة إلى ذلك تساءل منظرون كبروس روبنز Bruce Robbins
ورزالين دويتشه Rosalyn Deutsche عن الوجود لتاريخي للفضاء العام وعن مفهوم الفضاء العام في حد ذاته. ثم إن تنامي تنوع سكان المدينة الكبيرة وظهور ما يعرف بالمجتمع المتعدد الثقافات وتطور سياسة الهوية وتنامي أهمية ما يعرف بالثقافات الفرعية والجماعات المتكافئة قلل من أهمية التعريف التقليدي للجماعة المدنية، وللفضاء العام. لم يعد آخر ممثلي التقليد العظيم لفوتوغرافيا الشارع (وينوغراند وأرباس ودافيدسون، وكلارك وغولدين)، لم يعودوا يتعاملون مع المدينة باعتبارها “مدينة ذات مركز Polis” بل باعتبارها أرضًا لاقتناص تفاصيل ملونة. خلال عرضه لصورة نيويورك في فوتوغرافيا القرن العشرين أكد ماكس كوزلوف Max Kozloff أنه في السبعينيات” تم استبدال الصورة الأيقونية السابقة عن حي مانهاتن المليء بالمحلات، بصور أكثر محلية عن ذي قبل، أو صور ذات طابع شخصي لم تعد تمثل أي تفكير في المدينة ككل. لم يعد هناك مركز مدينة Polis، أصبح ينظر إلى المدينة باعتبارها أرضًا لاقتناص حوادث صغيرة يمكن في أي لحظة أن تعبر عن القسوة أو السفه أو الحمق المرتجل للحياة.
وقد تصادف أيضًا حدوث التحول النموذجي في فوتوغرافيا المدينة؛ من فوتوغرافيا الشارع إلى الاهتمام من جديد بالمنحى الطوبوغرافي مع التغيرات الحاسمة في الفوتوغرافيا نفسها والتحولات الشديدة في سياقها الاجتماعي والثقافي. من جانب آخر، فإن الستينات شهدت انحسار فوتوغرافيا الصحافة مع مجيء التلفزيون ليحل محل الصحافة المصورة، كأهم وسيلة لنشر المعلومات. من ناحية أخرى نجحت الفوتوغرافيا دون التخلي عن تطلعاتها التوثيقية لصالح تجارب شكلية أو استكشافات ذاتية، في المنافسة على التواجد في المعارض والمتاحف. ثم إنه مع نهاية الستينيات شهدت قدرة المواطن العادي على إنتاج الصورة طفرة كمية، مع ظهور مجموعة من الابتكارات التقنية مثل الأفلام الجديدة ذات السرعة الأعلى، وأفلام بولارايد الملونة التي جعلت عملية التقاط الصورة وإنتاجها تتم في خطوة واحدة، وإمكانية طباعة الصور لدى مستودعات العقاقير، وأنواع آلات التصوير الجديدة. وقد تكثف ذلك بالطبع مع ظهور كاميرات الفيديو ومنذ بداية الثمانينيات فصاعدًا ظهور آلات التصوير الرقمية وتطوير تقنيات المعالجة التقنية للصورة. ولم تفرز عملية “الرقمنة” مجموعة من التغيرات المعقدة والمتناقضة أحيانًا في إنتاج وتوزيع واستقبال الصور الفوتوغرافية فحسب، بل أفرزت أيضًا فهمًا مغايرًا للصور الثابتة في حد ذاتها. تحدث النقاد في التسعينيات عن عصر ما بعد الفوتوغرافيا، الذي تغيرت فيه العلاقة بين الصورة وموضوعها تغيرًا تامًا. وإضافة إلى ذلك كثر الحديث عن الفوتوغرافيا وانتشار الصور الفوتوغرافية ضمن نقاشات تعتبر جوهرية بالنسبة لوضعية ما بعد الحداثة: تكوين الهوية من خلال الصور، ورأسمالية المستهلك، واعتمادها على الصورة وخلق الجماليات، وتقديس الصور الزائفة، وعولمة وسائل الإعلام.. إلخ.
وجدت هذه النقاشات ما يعبر عنها في فوتوغرافيا نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. من ناحية لم يعد المصورون الفوتوغرافيون يؤمنون بالمواجهة المباشرة والتلقائية مع العالم المديني، التي كان فوتوغرافيو الشارع يحتفون بها ويبرزونها، ومن ناحية أخرى فإن المصورين الفوتوغرافيين المعاصرين لا يكتفون فقط بالتعليق بصورهم على التغيرات في المشهد المديني، بل يعلقون على الفوتوغرافيا ذاتها، وكذلك على قيمها التوثيقية والتعبيرية. التوجه الخالي من التعبير والميل إلى الرتابة والتكرار في صور الفنانين المفاهميين والطوبوغرافيين الجدد، بيرنت وهيلا بيشر Bernd & Hilla Becher والأعمال الأولى لتوماس ستراث Thomas Struth وتوماس راف Thomas Ruff هي الإجابة المتقنة على تحلل المشهد ما بعد المديني. لكن صورهم أنتجت في المقام الأول شيئا يشبه تصورًا غير واضح المعالم عن الاستنساخ الآلي، الذي يقلص في حد ذاته العرض المحاكي ليجعله مفهوما تأمليًّا. الطابع غير المحدد والعشوائي للمشهد المديني بشكل عام في صور هؤلاء الفنانين يسير جنبًا إلى جنب مع الأسلوب والخطوات الفوتوغرافية التي يحاولون تطويرها وتحديدها بشكل يتميز بقدر عال من التأمل الذاتي.
تنتمي الصور الفوتوغرافية التي يشتمل عليها معرض “المدينة المثيرة Spectacular City” إلى الموضة الطوبوغرافية التي نشأت في أعمال الطوبوغرافيين الجدد وتلاميذ بيشر في السبعينيات. معظم الصور تظهر المشاهد المعاصرة لفترة ما بعد المدينة، التي تغزو فيها الأشكال والوظائف المتروبوليتانية مناطق الأطراف التي لم تتحدد معالمها بعد. وبدلاً عن التركيز على مراكز المدن بطابعها المحموم، وعلى الآثار الشهيرة والأحياء التاريخية، يفضل مصورو المدن المعاصرين عادة الفضاءات العمومية التي يمكن أن تشهد تغيرًا داخليًّا في أطراف المدينة. ويتضمن موضوع هذه الصور في المقام الأول، أبراج المكاتب المعتادة وبيوت الضواحي وأماكن صف السيارات ومواقع الإنشاء ومرافق طرق مجهولة، وكلها تشكل المشهد العمراني في عصرنا.
وعلى الرغم من أن هذه المباني والأماكن تبدو مملة وغير مثيرة، فإنها غالبًا ما تُقدم بأساليب مثيرة ولافتة بدرجة كبيرة– على الأقل أكثر إثارة من الصور المعقدة والباردة الخالية من التعبير لأبراج بيشر أو تجمعات الضواحي السكنية التي صورها أدامز أو شوارع المدينة الصغيرة التي صورها شورShore أو مجمعات المكاتب لبالتز Baltz في السبعينيات. ويبدو أن الصور البانورامية المطبوعة بمقاس كبير لكل من بالتزار بوركهارد وأندرياس غورسكي وأغلايا كونراد وأبولونيا مولر وناوايا هاتاكاياما، توقظ إحساسًا بالسمو ما بعد المديني الذي يجسد الحالة المتروبوليتانية في عصر العولمة. وحتى عندما يعيد الفنانون بتركيزهم على الأنماط الهندسية والأشكال المعمارية المتكررة إلى الأذهان الأسلوب المتقشف لسابقيهم في السبعينيات، فإن أعمال ستيفان كورتورييه وأندرياس غيفلر وألغايا كونراد وتاجي ماتسويه وباس برينسن وهايدي شبيكر من بين آخرين، تقدم في أغلب الأحيان الحالة المدينية المعاصرة بوصفها عالمًا مثيرًا مليئًا بالأشكال والهياكل المعمارية والبنى التحتية والعلامات. إن تركيزهم على الأنماط الشكلية يؤكد القواعد المنطقية لما أسماه كولهاس المدينة العمومية generic city، انتشار واسع على مستوى العالم للحالة المدينية نفسها التي تصبح عناصرها قابلة للتغيير فيما بينها.
مع ذلك، ففي الوقت ذاته، تبين صور هؤلاء الفنانين أن هذه العناصر يمكن أن تفضي إلى توليفات جميلة ومرحة ومفاجئة وربما مبهرة، تعرض للمدينة المعاصرة بوصفها مكانا مشوقا ومحفوفا بالمخاطر. توقظ كثير من الصور في معرض المدينة المثيرة الإحساس بالفوضى الجذابة للمتناقضات والكسور التي تميز المباني والحياة في المدن لعدة قرون. الصور الأخيرة لتوماس ستراث وفرانشيسكو جودايس على وجه الخصوص تظهر المدينة كمملكة من المتناقضات الملونة بين الصغير والكبير بين القديم والجديد، بين المباني والبنى التحتية، بين الطبيعة والثقافة.
الطابع الاستعراضي لبيئتنا المعمارية المعاصرة كثيرا ما يعبر عنه ويتم التشديد عليه من خلال ما يسمى بالرؤى أو الأشكال أو البُنى أو الخطوات ما بعد الفوتوغرافية. يؤكد العديد من مصوري المدينة على أنه لم يعد ممكنا وجود علاقة محاكاة مباشرة وقاطعة مع الواقع المديني وجها لوجه. واللافت للانتباه أن الكثير من الفنانين يتماشون مع الطابع المصطنع لبيئة ما بعد المدينة، من خلال إبرازهم للجانب المصطنع في صورهم. وهم بذلك يردون بإيجابية على دعوة مارثا روزلر إلى “صور يظهر فيها أثر التلاعب، ليس شكلاً من أشكال التأمل الفني، ولكن من أجل وضع نقطة أكبر فيما يخص القيمة الحقيقية للصور والعناصر الوهمية لسطح (وحتى لتعريف) الواقع“.
هذه الصور المصطنعة يمكن أن تكون نتيجة لمعالجة إلكترونية مرهفة أو واضحة بصورة لافتة، مثلما في أعمال فينشينزو كاستيلا أو أندرياس غيفلر أو جول سبيناتش. وعلى النقيض هناك فنانون يركزون على الاصطناع في صورهم وفي موضوعات صورهم بالاستعانة أكثر بوسائل فوتوغرافية، مثل استخدام ظروف إضاءة ملحوظة (فرانك فان دير سَلم، وتوماس راف وتود هيدو)، أو التصوير خلال فترات زمنية متتالية (مايكل ويسلي)، أو استخدام نظام لتعديل المنظور بشكل غير معتاد (أوليفو باربيري). ولا يزال هناك فنانون يصورون مشاهدهم المدينية بالاستعانة بنماذج طائرات صغيرة (توماس ديماند، وإدوين تسواكمان). مع تخيل المدينة المثيرة تُعرض الفضاءات والهياكل المصطنعة بوصفها حقيقية في حين تفسر الفضاءات الحقيقية على أنها نتيجة لعمليات تجهيز المشهد واستراتيجيات التستر والإخفاء.
لقد تحول المشهد المديني المعاصر إلى عالم مكشوف يتألف من النماذج المصغرة والأسطح اللامعة وتقنيات الضوء التي تشير إلى الحالة البصرية لكل من التسلية والمراقبة، التي تحكم البيئة المدينية بشكل غير مرئي. ولا شك أن هذا “التفكيك” للغة البصرية للمدينة وفوتوغرافيتها يمكن أن يفسر باعتباره وقفة تأمل ذاتي، غالبًا ما تكون نتيجة لرغبة أملتها الحداثة من أجل اختبار الوسيلة الفوتوغرافية، ولتجارب ما بعد حداثية تخلط وسائل مختلفة. على الرغم ذلك فإن ما يثير الميل إلى ما هو مصطنع هو بالتأكيد تزايد انتشار الصور وممارسات الظهور والاستعراض لدى صانعي السياسات في المدينة. في عصر تسويق المدينة الذي يعتمد بشكل كبير على الصور المدينية ذات الطابع التجاري، يُرغَم مصورو المدينة المعاصرون على اتخاذ موقف واع بالذات وجهًا لوجه مع وسيلتهم والوظيفة التي تؤديها. إن امتناع هؤلاء المصورين عن تصوير المدينة بوسائل التصوير المحض “straight photography“ متأثر بلا شك بتعقد المشهد المديني المعاصر، وهذا المشهد هو بلا شك يزداد اصطناعًا ويحاكي أو يتحول إلى صور من خلال عمليات رقي الأحياء وزيادة قيمتها العقارية وانتشار المراكز التجارية ومن خلال السياحة.
*هذا المقال نشر للمرة الأولى في كتالوغ معرض:
The spectacular City: Photographing the future
NAI Publishers, Rotterdam
** الترجمة نشرت في مجلة “فكر و فن” الألمانية