تحل هذه الأيام ذكرى مرور مئة عام على مولد الكاتبة والشاعرة أندريه شديد، الفرنسية المولودة في القاهرة في 20 مارس 1920، وأندريه شديد أيضًا هي مؤلفة رواية “اليوم السادس” التي تدور أحداثها في مصر، ومثَّل وباء الكوليرا عمودًا أساسيًّا لأحداثها.. صدرت “اليوم السادس” في نسحتها الفرنسية في عام 1960، وصدرت ترجمتها العربية في عام 2002، عن المشروع القومي للترجمة، بترجمة حمادة إبراهيم.
….
الأقواس من اختيار أسماء يس
القوس الأول
“أنا أغني للقمر
والقمر يغني للعصفور
والعصفور يغني للسماء
والسماء للماء
والماء يغني للشراع
والشراع بصوتي يغني للقمر
وهكذا دواليك..
في الأرض وفي الماء
ستضيع أغنيتي
وحيث يرتفع السواد
ستنمحي أغنيتي
القمر يسمعني
وعن طريق القمر
العصفور يسمعني
والسماء تسمعني
وعن طريق السماء
الماء يسمعني
والشراع يسمعني
وعن طريق الشراع
صوتي، صوتي يسمعني
وأنا أسمع صوتي“.
“كان الفجر يصبغ القرية بلونه الرمادي، وكانت سحابات من البعوض تتداخل فوق الحوض المغطى بطبقة أسفنجية تميل إلى الصفار، وبعض الغربان تحلق على ارتفاع منخفض، كأن المرء يسمع حفيف أجنحتها.
– لقد غادرت القاهرة في المساء، واستغرقت رحلتي طوال الليل.
– إن الكوليرا لا تهم أهل المدن في شيء، إنها تهمنا نحن فقط.
– كنت أريد أن آتي منذ مدة طويلة.
– منذ سنوات، وأنت لم تعودي هنا.
– شطر من قلبي بقي معكم.
لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في “حسن” وهي تتطلع إلى ابن أختها، كان “صالح” يلبس طاقية من اللباد الكستنائي فوق شعره الأملس، لقد رأت وجنتيه البارزتين، وخديه المتآكلين من الداخل، أما أسفل سترته الزرقاء فكان متسخًا، وكان الوحل يغطى ساقيه، وكانت قدماه حافيتين، أما حفيدها فهو دائمًا يرتدي جلبابًا نظيفًا، وينتعل الحذاء، وفي سن (صالح) سيصبح على قدر من التعليم وصاحب مهنة في المدينة.
– أنت بعيدة جدًا، ولا تعلمين عنا شيئًا.
– أنا لا أعلم شيئًا، يا (صالح)؟!
– لقد مات أحد عشر شخصًا من أسرتنا، وأما عن القرية، فلم أعد أدري عدد موتاها، ولكن أسوأ ما في الأمر هو المستشفى.. فقد كانت سيارة الإسعاف تصل، ويدخل الممرضون المنازل بالقوة، فيخرجون أمتعتنا ويحرقونها، ويحملون مرضانا ويذهبون.
– إلى أين؟
– لا يخبروننا بذلك مطلقًا.
– لقد علمت أخيرًا أين حبسوا والدي وأخي: تحت الخيام، وسط الصحراء، لقد ذهبت إلى هناك، ولقد طاردونا في بادئ الأمر بالهراوات، أمي وأنا، ولكننا كنا نعود إليهم ونحن نصيح بأسماء ذوينا حتى يعلموا أننا لم نتخل عنهم، وأننا هنا بالقرب منهم.. ولقد انتهى بي الأمر إلى التسلل داخل إحدى هذه الخيام، كان شيئًا مريعًا.. وجه واحد يتكرر في كل مكان: وجه أزرق، هزيل، يتدلى منه اللسان.. إن المرضى ينام بعضهم بجوار البعض الآخر فوق الرمال، يقيئون، اثنان منهم كانا قد فارقا الحياة، فتركوهما في مكانهما.. وناديت مرة أخرى، فإذا بهم ينظرون إلي في بلادة وبله.. ودخل أحد الممرضين ينتعل حذاء ضخمًا ويرتدي قناعًا، فدفعني إلى الخارج.. قبل أن أعثر على أهلي، إن الذين لم يعيشوا كل هذا، لا يعرفون شيئًا.. لن أنسى ذلك ما حييت، ومنذ ذلك الحين ونحن نخفي مرضانا، بل وحتى أمواتنا..
– أنا أفهمك، يا بني.
– والآن انتهي كل شيء، إن عربة الإسعاف تأتي، وتقوم بجولتها ثم تعود بدون أحد، لقد مرضت أمنا منذ عدة أيام.. ثم أضاف (صالح) بصوت كدر:
– وماتت الليلة.
– ثم تراجع، وانصرف دون أن ينبس بكلمة.
– فصاحت قائلة:
– سآتي معك.
– عودي من حيث أتيت.
– كلا، هيا بنا معًا.
– ولم يستمر في عناده إلى النهاية.
– فقال وهو يهز كتفيه:
– إذن، تعالي، ليس عليك إلا أن تتبعيني“.
القوس الثاني
“لم يكن في تلك الحجرة أي شيء، اللهم إلا جرة من تلك الجرار التي تستخدم في حفظ الغذاء كانت مسنودة بشقفة في أحد الأركان، ومن السقف كانت تتدلى حزمة من البصل الأحمر الكبير.
وتقدمت المرأة في بطء باحثة عن جثة أختها، وابتعد أبناء أختها جميعًا مرة واحدة فإذا بها فجأة وجهًا لوجه أمام الميتة، وكاد طرف حذائها أن يمس باطن القدمين العاريتين.
كانت (سلمى) – وهي ملفوفة في ثيابها السوداء وراقدة فوق الأرض، تبدو طويلة بطريقة خارقة، وكان وجهها الضيق المدبوغ يذكر (صديقه) بتلك المومياء التي لمحتها خلف واجهة زجاجية معفرة عند زيارتها للمتحف بصحبة (حسن) والمعلم الشاب، لم يكن هناك أي وجه للشبه بين هذا القناع وبين وجه شقيقتها الصغرى المتفتح المنبسط، إن الناظر إليها ليظن أن هناك خيوطًا خشنة جافة تتلاحم تحت الجلد لتبقى على أجزاء الوجه في مكانها.
وفي مدى لحظة، استحضرت أم حسن صورة سلمى كما كانت في ماضي عهدها: مولدة القرية، ويداها على ردفيها الضخمين، وهي تضحك بأعلى صوتها، وتأملت من جديد الشكل المتمدد أمامها، كانت الصورتان تتقابلان بطريقة تذهب بالعقل، فأغمضت العجوز عينيها.
– اجلسي يا خالتي.
ووجدت نفسها جالسة، بصحبة المرأة الشابة، وكان وجه هذه الأخيرة قريبًا جدًا من وجهها، لدرجة أن (صديقة) استطاعت أن تميز حلقة الخيط في ثقب أنفها، ذلك الخيط الذي يستبدل به يومًا حلقة من الذهب، وقال صالح:
– لقد تلقت آخر خطاباتك لها، كنت تقولين إنك تعملين غسالة، وتكبين قوتك في يسر، ولديك عملاء كثيرون، وأن عليها أن تأتي لتضم شملها إلى شملك.
ولكنها لم تكن لتتركنا مطلقًا.
وأطلق ضحكة عالية ذكرتهم بضحكة الميتة.
كان الرجال في تلك اللحظة مشغولين حول الجثة، بينما كانت العجوز تحصى على أصابعها الباردة عدد الغائبين، وقام (عمر) بقطع الخيط الأحمر الذي يحيط برقبة أمه ليخرج منه مفتاح خزانة الزواج، وكانت ألوانها الصارخة تبدو إهانة أو سبة في مثل ذلك اليوم، وتحتم عليهم بعد ذلك أن يستعملوا المجراف لتحطيم قفل آخر وراحوا معًا يخرجون محتويات الخزانة، وافترشت الأرض أشياء مختلفة متباينة، قدر وخرق، وأعشاب جافة، وفلفل، وعلبة كحل، وإبر، وخمس أساور من الذهب وعدد من البيض.
وفجأة سمعت ثلاث دقات، ودخلت نفيسة مهرولة وهي تقضم أظافرها وتجذب بيدها الأخرى طرف ضفيرتها الشقراء.
فقال صالح:
– يجب أن نسرع.
وإذا بأربعتهم يحملون الميتة إلى الخزانة، ثم يحاولون تكويمها بالداخل، كانت الجثة صلبة كالحجر، ومسرفة في الطول إلى حد كبير، ولقد كرروا محاولتهم عدة مرات قبل أن يضعوها على الأرض من جديد.
فهمهمت الطفلة قائلة:
– أسرعوا، إنهم يزورون المنازل.
فاقترح أحدهم قائلًا:
– فلننشر ساقيها.
فأطلقت (أم حسن) صرخة وأخفت وجهها بين يديها فعاد الصوت يقول:
– فيم تفيدها الساقان مستقبلًا؟
وإذا (بصالح) وقد توهج وجهه، يضرب أخاه بكل قوته بقبضة يده، فيمس هذا الأخير الجدار المقابل.
كانت الشمس التي تنسل من خلال الأغصان تضاعف من حرارة الجو، ومرة أخرى حمل الرجال الجثة، ولكنهم مهما حاولوا وضعها، ورفعها، وخفضها – وهم في كل مرة يصدمونها بالجدران الداخلية للخزانة – لم يجد ذلك فتيلًا“.
القوس الثالث
“وعلى مسافة، كان على العجوز أن تفض تجمعًا، كان الصغير “برسوم” وهو يرتدي منامة (بيجامة) مخططة، ويتسلق صندوقًا من الخشب، يقلد آثار الكوليرا، فكان يلصق مثلثات من الورق الأخضر على جبهته، وأهدابه ووجنتيه، وكان فمه مفتوحًا على سعته، ويداه على بطنه وعيناه مقلوبتين تقريبًا، وعلى حالته تلك راح يقلد آلام المريض واحتضاره، كان يصيح مهللًا.
– أنا مصاب بالكوليرا! مصاب بالكوليرا!
سألها (علي) البدوي، وهو أمام كوخه المقام من السعف والخرق، وخروفه لا يزال إلى جواره:
– من أين جئت؟
– لا تعطلني، إنني لم أر حفيدي منذ يومين.
كان وجهه المصطبغ بلون التوابل، ونظرته الثاقبة، وفكاه الضيقان، ورسغاه الدقيقان، كان هذا كله يميزه عن الآخرين.
فقال:
– لا تذهبي هكذا، إنني أريد أن أودعك، لأنني سأرحل غدًا.
– إلى أين؟
– لم أستطع أن أتكيف مع هذه الحياة، فحيثما كثر الناس فسد الهواء.
إن المرء هنا يتنفس بمشقة، إنني سأعود إلى صحرائي“.
القوس الرابع
“– انتهت الدراسة اليوم، فانهضوا، أيها الأولاد.
واختفى حسن وراء الأطفال، ولم تستطع أم حسن أن تلمحه حتى عندما أشرأبت برقبتها.
– وختامًا، سنكرر درس الصحة.. هل تحفظونه عن ظهر قلب؟
– نعم..
– إذن، قولوا معًا.. لماذالكأنف؟
فأجاب التلاميذ:
– لكي أتنفس.
كانت العجوز تعرف جميع الإجابات، فراحت تخلط صوتها بأصواتهم.
– لكي أتنفس..
– ولماذا يجب أن تتنفس؟
– لكي أعيش.
– وإذا سدوا لك أنفك؟
– أموت.
– هل الهواء شيء جميل؟
– نعم.
– هل لديك نوافذ في داركم؟
فصاحت غالبية التلاميذ:
– نعم.
– إذن، إذا كان الهواء شيئًا جميلًا، وإذا كانت توجد نوافذ في داركم، فماذا يجب عليك أن تفعل؟
– أن أفتحها.
فكررت أم حسن قائلة:
– أن أفتحها.
– عظيم، أيها الأولاد! عظيم، تستطيعون الانصراف.
فتواثبوا ناحية باب الخروج، وتراجعت العجوز حتى أسفل درجات السلم لكي يتسنى لهم المرور.
كان (حسن) آخر من ظهر من الأطفال، فارتمى بين ذراعيها“.
القوس الخامس
“كانت (صديقة) تحلم بأن تعود إلى حجرات الغسيل التي كانت تعمل فيها (الواقعة فوق أسطح بعض المنازل العالية) وأن تصطحب إليها (حسن)، كما كانت تفعل في الماضي، كانت تجلس إلى طست كبير من التنك ويداها غارقتان حتى مرفقيها في الماء والصابون، وعلى هذه الحال، كانت تنظف الغسيل بينما الطفل يلهو من حولها وفي الأحياء الغنية كان الطفل يميل من فوق الحواجز ويراقب العالم أسفل منه، وكان النيل يتلألأ، وكانت المنازل الواسعة المبنية من الحجارة – والتي تزينها شرفات ذات أعمدة وسلالم من الرخام الأبيض – ترجع إلى زمن بعيد، وكانت أعشاب الحدائق – بزهورها – تشبه بسط حفل بهي.
وكانا في المساء، أشبه باثنين من الحجاج، يغادران عالما ويذهبان إلى عالم آخر، ويعودان، ويد كل منهما في يد صاحبه، إلى طريق معفر بالتراب، وديار بائدة، ثم إلى عالم خال من الأزهار.
كان (سعيد) وحده يشكو في بعض الأحيان، وكان يتنهد قائلًا: في الريف، كل شيء يدعو للرثاء، يوجد ظل لكل شجرة، وكل شجرة هي دارك تقريبًا، وكان كابوس واحد يسيطر على أفكاره: متمددًا، ملتصقًا بالطريق الحجري، وشمس محرقة تخترق صدره.
ومنذ عودتها من (بروات) لم تعد (أم حسن) كما كانت، فقد كان يلوح لها أن السماء لن تلبث أن تتصدع فجأة، وعلى الرغم من بشرة حسن الفضية وعينيه السوداوين المتقدتين، وجسده القوي، وساقيه الشديدتين، على الرغم من هذا كله فقد كانت رؤية حسن تغرقها في قلق شديد.
وذات صباح، وصلت (صديقة) أمام المدرسة. وفي نهاية الحجرة لم يكن قد تبقى سوى حسن الذي كان يتحدث إلى المعلم الشاب الذي تقدم نحوها يتبعه الطفل. وأثناء السير، لاح أن الأستاذ (سليم) فقد اتزانه، ثم استأنف السير وهو يجر ساقيه ويستند إلى مكاتب التلاميذ.
فصرخت فيه أم حسن من عند العتبة:
– ماذا أصابك؟
وتقدم عدة خطوات أخرى، وبلغ الباب بمشقة، بينما الطفل يسنده بذراعيه الصغيرتين وهو قلق على أستاذه وإذا بالمعلم وقد انهارت قواه يضع يديه على بطنه ويستند إلى مصراع الحجرة.
– ماذا أصابك؟
كان الميدان الصغير خاليًا، تزينه أشعة الظهيرة. وكانت شفتا الشاب تتلامسان ولكن صوتا واحدًا لم يكن يخرج من بينهما. وعلى حين بغتة..، أخرج من جيبه منديلًا رصاصيًا كبيرًا، وأدار ظهره وجعل يتقيأ.
وأخيرًا نطق قائلًا:
– حسن، أسرع بإحضار سيارة الإسعاف.
فقالت العجوز:
– سيارة الإسعاف؟ لماذا..
– فليذهب بسرعة..
فألحت قائلة:
– ولكن ماذا بك؟
– الكوليرا. أنا أعرف ذلك.
– أنت مخطئ. لم تعد هناك كوليرا.
– لا تناقشيني، يا سيدتي، إنني أعرف ما أقول..
كان يرمقها في ضيق وملل، ثم قال متوسلًا:
– فليذهب الولد.
– هذا جنون. إنهم إذا أخذوك، فلن نراك بعد ذلك أبدًا.. لقد تذكرت حكاية (صالح): (لو كنت تعلم ماذا يجري هناك).
فأكد المعلم قائلًا:
– إنني رجل مثقف.
ثم سقط رأسه إلى الأمام: “إن الرجل المثقف يذهب إلى المستشفى.. إنه مثل..” كانت ذراعاه تتدليان إلى جواره، وكانت ساقاه ترتعشان، ومع ذلك فقد كان يجاهد للاحتفاظ بهيئة جديرة بمركزه. وبما تبقى لديه من صوت، جعل يلح قائلًا:
– حسن، إن أستاذك هو الذي يأمرك، اذهب وأحضر عربة الإسعاف.
فرفع حسن عينه إلى جدته.
فقاطعت العجوز قائلة:
– لم تعد هناك عربات إسعاف. إنها لم تعد تأتي إلى هنا منذ أسابيع، فقد ماتت الكوليرا.
– إنني أعرف العلامات، لقد قرأت الكتب، أيتها السيدة، إنك لا تستطيعين أن تفهمي.. فوافقته قائلة:
– ليكن. إنها الكوليرا.. ولكننا سنقوم بعلاجك، أنا والطفل. لن يعلم أحد بشيء. استند إلى كتفي وسأذهب بك إلى دارك.
– أنت مجنونة، مجنونة..
كانت كل كلمة تتطلب مجهودًا هائلًا:
– هل تعلمين أنك بجهلك يمكن أن تكوني سببًا في مصائب كبرى؟
هل هناك مصيبة أخرى في هذه اللحظة سوى أن تتركه يذهب؟
فقالت متوجعة:
– وحيدًا، وحيدًا… ستصبح وحيدًا.
فقال للطفل:
– أسرع إلى الشارع الرئيسي، وهناك أطلب من أول شرطي إحضار السيارة، إنه يعرف ما ينبغي عمله..
فنزل الطفل الدرجات الثلاث مسرعًا، واجتاز الميدان، ثم اختفى.
– حافظي على حفيدك جيدًا وراقبيه فقد كنا معًا خلال هذه الفترة الأخيرة في أغلب الأحيان.
كان يحسن التعبير، فلقد كان الألم يمنحه مهلة.
– قفي، أيتها العجوز، أرجوك، على أعلى درجات السلم في مواجهتي، لكي تخفيني عن أنظار المارة. فمن الأوفق أن يعلم أهل الحي بالخبر عندما أصبح بعيدًا. ففعلت ما طلب منها.
– منذ برهة، كان هناك ما يشبه النيران في أحشائي.
وأخرج من جيبه علبة سجائر، وحاول أن يرفع إحداها إلى شفتيه، لكنه سرعان ما أعرض عن ذلك. (بعد ستة أيام سأكون قد شفيت. لا تنسي ما أقوله لك: في اليوم السادس، إما أن نموت أو نبعث من جديد.. اليوم السادس).. أضافها وهو يتذكر عبارات الصحيفة اليومية.
(إنه بعث حقيقي) ثم قال وهو يرسم ابتسامة على شفتيه: يجب ألا تجزعي إن الأيام الستة تمر بسرعة. وبعد ذلك أكون هنا من جديد..) وبيده أتى إشارة غامضة في اتجاه نهاية الحجرة.
وانطلقت عربة الإسعاف، بيضاء متلألئة كألف سهم تحت الشمس. وكان حسن يتسلق على سلمها، ثم توقفت وسط الميدان مثيرة الغبار.
ونزل منها ثلاثة رجال يرتدون المآزر. ودون أن يوجهوا أي سؤال، دفعوا (أم حسن) جانبًا ليحملوا المريض.
– إلى أين تذهبون به؟
ولم يجبها أحد. ومرورًا أذرعتهم تحت إبطي الشاب، وجذبوه فراحت العجوز تتعلق بكم أحد الممرضين.
إنه قريبي، يجب أن أزوره.
– لا توجد زيارات، انصرفي، ودعينا نقوم بعملنا.
– أريد أن أعرف. إنه وحيد. لا أستطيع أن أتركه وحيدًا.
فقال الرجل وهو يتخلص منها.
– كفى: الأمر واحد بالنسبة للجميع. إنك تضيعين وقتنا.
كان الشاب يلهث تحت الشمس، وقلبه يكاد أن ينفطر:
– دعيهم ينصرفون. سأعود في اليوم السادس. أرجوك، دعيهم ينصرفون. قالها متوسلًا وهو يستسلم لأيدي الممرضين وقد ارتاح لأنه لم يعد عليه أن يبذل مجهودًا.
وفي لحظات كانوا قد نقلوه إلى العربة، وأرقدوه على نقالة. ولم تتحرك (صديقة) بعد ذلك. فقد تحجرت ساقاها وثقل لسانها.
وفي اللحظة التي انطلقت فيها السيارة، جرت مندفعة إلى الأمام، ويداها كالبوق أمام فمها، وجعلت تصيح في اتجاه القفص الأسود:
سوف تعود! هكذا أكيد، سوف تعود. سنكون هناك، أنا وحسن، في اليوم.. وقطع اصطكاك الباب جملتها..
فأكملت بصوت خفيض:
– في اليوم السادس“.
القوس السادس
“في هذه المرة توقفت عربة الإسعاف على بعد عدة أمتار. ثم صوت الأقدام. وعلى الفور – لم تجد الوقت الكافي لكي تنهض – اجتاز عتبة الدار ممرضان وفتاة وأحاطوا بالرجل العجوز.
– هل طعم، ماذا يفعل وهو راقد على الأرض؟ هل تقيأ؟ هل يشعر بالبرد؟ بالدوار؟ بالإسهال؟
كان كل من الممرضين يرتدي مئزرًا أبيض، مزررًا من الخلف ويتدلى حتى عقبيه، وعلى رأسه طاقية بيضاء. كانا يميلان على الكهل يواصلان إرهاقه ومضايقته بالأسئلة – كانت الفتاة – وكانت هذه أول زيارة لها في هذا الحي – تقوم بتفتيش الحجرة وكانت رائحة الحجرة النفاذة قد أساءتها بمجرد دخولها فكانت تسعل في يدها، ووجهها متجه ناحية الجدار.
ولما اغتاظت (صديقة) بسبب كثرة الأسئلة وسرعة إلقائها انتصبت قائمة وقالت:
– ألا ترون أنه مشلول؟ إنه ليس مصابًا بالكوليرا. إنه مشلول! مشلول.. هلتفهمون؟
ووضع الممرض الأول ركبة على الأرض، ونزع نظارته بطريقة استعراضية ونفخ على زجاجها، ومسحها بجانب من مئزره، قبل أن يعيد وضعها فوق أنفه. وحتى بنظارته، كان لا يحسن الرؤية. فقد كان وهو يفحص المريض كأنما يتشممه. وختم كشفه قائلًا:
هذا الرجل ليس به شيء. لقد أخدونا.
وأيد ذلك الممرض الثاني بإيماءة من رأسه. وسجلت الفتاة في دفترها الصغير هذه العبارة: “لا شيء يستحق“.
وقال الممرض الأول:
– بوسعنا أن ننصرف.
كان الثاني يتبعه دائمًا. وكان يمشي كذكر البط ويشرئب بعنقه ليزيد من طول قامته. وعلى الرغم من كعوب حذائيهما، فقد كانت الفتاة أطول الثلاثة، وكان شعرها الملفوف في الشبكة يضفي عليها طابع الحزم والشدة.
وبينما كان الممرض الأول يجتاز العتبة، ألقى هذا السؤال فجأة:
ألا يوجد سواكما هنا؟
فكذبت المرأة وقالت:
– لا يوجد سوانا.
كان الوباء يقترب من نهايته، وقرر رئيس الممرضين أن يرسل هذه الحملة التفتيشية المزعومة. لقد أرشد أحد المازحين السخفاء عن هذه الحارة. ليكن.. إن الشمس في هذا الوقت تدعو للراحة. كان الممرض يشعر بالجوع والعطش. وكان يفكر متلذذًا في إغفاءته القريبة وفي شبه حلمه هذا، كانت (قدرية) ابنة صاحب المقهى – بنهديها“.
القوس السابع
“في هذه الأيام، استطعت أن أقوم بعمل عظيم، فقد اكتشفت – بالحيلة – حالة من حالات الكوليرا الأخيرة. هل تعرف أنني كوفئت على هذه العملية؟ بطريقة سخية.. إيه، أيها النوبي، هل تسمعني؟ لماذا تشيح بوجهك؟ إنني أعتبر ذلك عملًا خيرًا فإنني أشي بمريض لأنقذ الأصحاء. ألا ترى أن هذا الإجراء سليم؟ إنني مرتاح الضمير!
فقال النوبي:
– إذن فكف عن الدفاع عن نفسك.
– إنني لا أدافع عن نفسي، بل أنا أفسر موقفي.. لو أنني بدأت نشاطي منذ فترة أطول، لعدتني المدينة بين المصلحين.. ولأقامت لي يومًا تمثالًا من البرونز، ولكنت طالبت بأن يُنحت تمثال لمونجا إلى جواري.. إيهألاتجيب؟
وبينما كان القرد يقفز من بالة إلى أخرى، إذا به يصل بالقرب من العجوز النائمة. وفي خطى مسترقة، دار حولها، ثم جلس إلى جوارها. وتظاهر بالنوم مثلها. ولما سئم من هذه الحركة، عاد ينقب ويشمشم في كل مكان. وبعد لحظات اكتشف المخبأ. فمال ومد ذراعه. ونقر على جدرانه ولمس الطفل الساكن. وراح وهو يقفز في مكانه يرفع يديه ويطلق الصراخ الحاد ليخطر سيده. واستيقظت أم حسن مذعورة، وأدركت الخطر، فلكمت القرد في رقبته فاندفع يتدحرج حتى أقصى المركب.
فصاح المروض قائلًا:
– كيف تجرئين على رفع يدك على مونجا؟
وخلع أحد المصابيح، وأخذه، وذهب مهددًا المرأة نحو المكان الذي كانت تقف فيه. وسار يترنح فوق بالات القطن، وإذا به وجهًا لوجه أمامها. ولكنه ما أن لمح المخبأ حتى دفع أم حسن إلى الوراء، وتقدم عدة خطوات وسلط نوره نحو قاع الخلوة. وما أن رأى الجسد المزرق، مغمورًا في أشعة الضوء، حتى لبث متسمرًا في مكانه، فاغر الفم، زائغ العينين. ومرة واحدة، أخذ يصيح قائلًا:
– الكوليرا! الكوليرا!
وعاد أدراجه، وأسرع إلى النوبي يأمره بالتوجه إلى الشاطئ في الحال. كان يطوح بالمصباح بحيث إن دسوقي خشي أن يشعل النار في المركب، فانتزع منه المصباح في عنف، وهو لا يكف عن فرك جفنيه.
– الموت بصحبتنا، أيها النوبي، فلنعد بسرعة.
فقال أبو نواس:
– الموت دائمًا بصحبتنا.
– أسرع، أيها النوبي، لم يعد هذا وقت النقاش.
فأجاب الآخر.
– كف عن الجلبة ودع هذه المرأة لغلامها.
– أنت مجنون! أنت أيضًا. أنت مجنون!
ولما أدرك أن كلامه لا يجدي، وأنه يتلاشى أمام جدار من اللامبالاة، التفت المروض إلى المرأة واصفًا إياها بالمجرمة والمتآمرة“.
القوس الثامن
“أسفل مستوى النظر قليلًا، لمحت نسوة مجتمعات على حافة الشاطئ. كانت أصواتهن تصل حادة مشوبة في بعض الأحيان بنبرات رقيقة صبيانية، كن جالسات تحيط بهن قدور من المعدن تتلألأ تحت الشمس. وقد أخذن يغسلن الملابس فوق حجارة مسطحة، في حين أن مجموعة أخرى تحملن الجرار مستندة إلى أردافهن، ينزلن للحاق بهن. وفجأة رأت (صديقة) نفسها بينهن، وكأن الزمن لم يعد له وجود. إنها في ثوبها الزاهي، هذه الفتاة الجالسة وسط الرفيقات اللائي يلبسن ثيابًا سوداء.
– إذن، صحيح أنك ستتزوجين يا (صديقة)؟
وانتشرت الضحكات. وجذبتها إحدى النساء من طرف ضفيرتها. (وصديقة) تجلس القرفصاء، ومرفاقها على ركبتيها ووجهها بين يديها، إنها الوحيدة التي لا تضحك. إنها تحدق في هذا المركب:
نعم، إنها هي التي تمر في صحبة طفل.
وصاحت إحدى الفلاحات:
– إلى أين أنت ذاهبة أيتها العجوز؟
فأجابت أم حسن:
– إني ذاهبة إلى قريتي.
– ما اسم قريتك؟
فقالت وهي لا تفتأ تهوى على الغلام:
– (بروات).
فصاحت أخرى قائلة:
– الكوليرا منتشرة في (بروات).
فأردفت صاحبتها:
لا، الكوليرا انتهت“.
غلاف الترجمة العربية لرواية “اليوم السادس” لأندريه شديد.- الصور والفيديو المصاحب للأقواس من البحث الحر على شبكة الإنترنت.