القطار، حصان البخار، الذي ظهر فغيَّر وجه الحياة، وغيَّر وجه الطبيعة، على جانبيه قامت مدن وقرى، هذا الجسد الحديدي المستطيل الذي يمشي على حديد، ومع هذا لم يتعامل المصريون نهائيًّا على أنه حديد، دائمًا عاملوه على إنه إنسان؛ وجهوا له الكلام؛ القطار شريك أساسي في كلام الناس وذكرياتهم، ناشدوه، وشتموه، واتهموه بأنه رسول الموت القاتل، وغنُّوا له، وغنُّوا عليه…”يا ريت يا قطر الفراق يأخروك ساعتين”، ساعتان كافيتان لتأجيل رحيل المحبين، الذين يبتعد بهم القطار، فربما عادوا وربما لا… محطات القطار الجالسة بهدوء في مداخل المدن؛ صخب وضوضاء ومسافرون وأمتعة وبائعون وصحف منتهية الصلاحية، المحطة أول العلاقة وآخرها بين المسافر والمدينة، لو كان استقبالها لطيفًا، كانت المدينة كذلك، ولو كانت المحطة غير مرحبة فربما كانت المدينة مزعجة، يحملنا القطار، جنوبًا وشمالاً… يخترق الأرض، ويشارك بجسده الحديدي مشاركة لا تنسى، يسهم بجزء كبير من ذكرياتنا عن الرحلة، التي لا تشبه نفسها في كل مرة تتكرر فيها… هذه الطريق ليست الطريق نفسها في كل مرة، وهذا النخيل ليس النخيل نفسه، وهذه البيوت ليست نفسها.. ولا أنت كذلك…
في مدينة، بدأنا، وسنكمل، مشروع السكة، الذي ينقسم إلى مسارات متعددة، ونبحث فيه عن كل ما يخص القطار، تاريخه وأصواته الرتيبة المتكررة، وصفاراته وبخاره، وصورته الحقيقية والذهنية، وتأثيره العاطفي علينا… عندما بحثنا وجدنًا أثرًا حقيقيًّا في الأفلام، التي قام بعضها بالكامل على القطار وعوالمه، وجدنا دراما تليفزيونية بالأبيض والأسود والألوان، ووجدنا أغنيات لا تحصى عن القطار، وعن السكة الطويلة، ووجدنا روايات ومسرحيات وقصصًا قصيرة كان القطار بطلها الأول…
هنا ننشر بعضًا من هذه المختارات… لأن القطار يخص المدينة، ويفسر الكثير من تعقيدات علاقتنا بها، والسكة، كما تأكدنا ونحن نبحث، كامنة في الوعي واللاوعي…
أول خط سكة حديد في الشرق الأوسط أنشئ في مصر، في 1853، وامتد بين الإسكندرية وكفر الزيات، في غرب الدلتا، ثم امتد إلى القاهرة في 1856. وفي 1858 أنشئ خط سكة حديد يربط بين قناة السويس والقاهرة، ثم أنشئ خط أسيوط في 1874، ثم خط الأقصر وأسوان في 1898.
وشأنها شأن كل المخترعات الجديدة لم يرحب المصريون بالسكة الحديد؛ فقد فزعوا من قطعة الحديد الهائلة المتحركة، التي قضت على أكل عيش الكثيرين كالجمَّالين مثلًا والعربجية… كيف يأمنون له وهو “حديد يمشي على حديد؟!” ولا أحد يستطيع الوقوف أمامه، فهو من الأساس لا يقف لأحد… وهو الذي “يأكل الأرواح”… وهو الذي يحمل الأحباب بعيدًا.
بعد قليل صار القطار معيارًا للكثير من الأشياء، فمن تخلَّف عن شيء كمن فاته القطار، ومن فاته القطار فلن يصل… فالقطار متحرك، وسريع، ولا يتوقف إلا حين يُفرغ حمولته؛ أي حين يصل.
مدبولي؛ متعهد الصحف في المحطة:
دي محطة مصر… قلب المِدينة… كل دقيقة بيطلع منها قطر… وكل دقيقة بيوصل فيها قطر… ألوف من الناس بيتقابلو وبيفترقو فيها… اللي من بحري واللي من قبلي… الخواجة وابن البلد… الغني والفقير… واللي شغال والعاطل…
البداية كانت في مشهد بين فريد شوقي– شيّال المحطة– وعبد الغني النجدي؛ مسافر يلبس ملابس الفلاحين، وفي صحبته امرأة تلبس ملابس الفلاحين، وتحمل قُفَّة، وفوق القُفَّة حصيرة…
هذا المشهد يؤكد أن الناس هي اللي لازم تستنى القطر.. بس القطر ما بيستناش حد!
-قل لي يا خال.. اسم الكريم إيه؟
-أبو سريع عبد الحي…
-بالجودة يا أبو سريع.. قل لي وحياة والدك يا شيخ… ربنا ينولهملك ويديك العافية.. هسأل لك سؤال وتقول لي ع الفايدة.. أحسن خلاص والله العظيم روحي بقت هنا “وشاور على مناخيره”…
-ما تقول يا عم!
-شمنضفر الزقازيق؟
– شمنضفر؟!
-قطر الزقازيق هيقوم ميتى؟
– ما قام اهو…
-قام!
– مِد شوية بقى وأنت تحصله في بنها
-إزاي يقوم من غير ما نركبه… أما قطر قليل الحيا!
والشمندفر كانت كلمة نادرة الاستخدام في مصر، وهي محرَّفة عن الفرنسية Chemin de fer ومعناها: السكة الحديد.
فيلم باب الحديد؛ يوسف شاهين، 1959
تذهب فاتن حمامة/ نوال، بعد أن منعها زوجها طاهر باشا/ زكي رستم، من رؤية ابنها، وبعد أن قُتل حبيبها في الحرب، عند السكة الحديد، تقترب من المحطة بخطوات بطيئة، بينما أجراس المحطة تُدق بقوة، وأشاير الإضاءة تضاء وتطفأ، الصوت يعلو، والإضاءة تتبدل سريعًا، لكنها لا ترى، ولا تسمع، ولا تتحرك، والقطار يقترب، والأفكار تتزاحم في رأسها، حتى تسمع صوت الشاويش وهو يصرخ فيها “حاسبي يا ست… حاسبي” لتنتبه أن القطار قادم، ولا يمهلها الوقت إلا لتصرخ صرخة المتفاجئ بالمصير؛ صرخة النهاية.
فيلم نهر الحب؛ عز الدين ذو الفقار، 1960
كان هناك أركان حرب من النخيل يقود معركة خفية، ومجموعة أخرى تعبد الشمس، وترقب بجريدها اليابس أمطارًا من الذهب.
كانت تسير في الأفق كقطعان من الأفيال، وسألت نخلة عجوز محنية من الأعمال الشاقة، ولم تجبني.
وكان قطاري ينزلق على أرض مصر الخصبة الخضراء.
كانت القرى بلونها المائل للأسود والرمادي من أثر الوحل والبقر والقش وروث الجمل المجفف تحت أشعة الشمس بمثابة قشرتها الخارجية وزوائدها. والجاموس الداكن ثآليلها. وكانت الأرض وكأنها تسحق كل شيء وتلصقه بصدرها: منازل صغيرة حقيرة، وقطارات، وأسواق، ومياه راكدة، ومراكب شراعية في مياه بطيئة، أسفل سماء ممتدة وخالية، وربما يستعمرها ذات يوم النيل الناقم بحركة سريعة.
قطار يسير بالبخار، يتصاعد منه دخان، ويحمل لافتة تحذير “احترس من القطار”، وأطفال ذوي بشرة داكنة استعمرهم الذباب وأشعة الشمس العالية… يبخِّر دخان القاطرة المستدير المتسع الصافي مئذنة زرقاء، بثمرتها الزرقاء، أي المؤذن، ونداؤه الأزرق يتجه نحو الشمال والجنوب والشرق والغرب: الله أكبر.
كتاب سحر مصر؛ فيليبو مارتيني، ترجمة: مها عبد العزيز
كانت خبطات القطار المنتظمة الرتيبة قد أتخمت نفسه، بدقاتها المستمرة. لا تتوقف، لا تتريث، تتقدم دون وهن في تصميم دائب يأكل من نفسه امتدادات طويلة، في طريق لا ينتهي. وكان قد نام قليلًا، وشبعت دماؤه، في تهويم النعاس من هذا الدق المتواصل، وبه شيء كأنه سُكْر وخدر من هذه الضربات العنيدة التي لا تني مدفوعة إلى الأمام، في عزم لن يقف أمامه شيء.
وفتحت نافذة القطار، وأفلتت لحظة من الضوء المصفر المترب الذي يسقط في العربة المزدحمة، يهتز كسائل كثيف مشبع بإنسانية متعبة هدتها هزات الرحلة المتعاقبة. وهبَّت عليه من الخارج ريح الإسكندرية الممدودة أمامه تحت سماء الليل، والقطار يهتز مندفعًا يدق الأرض إليها في مجهود أخير.
/
عاد إلى مقعده، وكان يخيم على العربة جو ثقيل مكتوم، وقد خلع العسكري الضخم الذي تكوم أمامه في سترته السوداء طربوشه واكتفى بطاقيته الميري من العبك الباهت، تشد ما بقي من شعر شائك رمادي خشن على صلعته المتينة، وقد سكت الطفل الذي يلتصق بأمه في ملاءتها الريفية وراح الآن يمص ثديًّا جافًا مهدلًا مجعدًا، لا تكاد الملاءة تخفي بذاءته، وما زال بائع السوداني يمر بالقطار، حاملًا قفته وقراطيسه الملآنة، والشيخ الأعمى الذي يبيع النعناع وآيات القرآن وعدية يس، والعيال العفاريت الذين هدَّهم التعب وبُحت أصواتهم، وما زالوا بعد ينتقلون من عربة إلى أخرى في خفة، ينطون وينادون على الليمون للعطشان، والكوكاكولا والببس. ويقرقعون على الجرادل المليئة بالماء والزجاجات. وقد سقطت الرؤوس على المقاعد الخشبية في استسلام، كأنها لم تعد ملكًا لأصحابها، بل ملكًا لقطار يدق بهم الأرض في تصميم، إلى غاية لن يبلغها قط.
/
خفتت سرعة القطار وتغايرت أنغام دقاته وهو يصطفق بالشبكات الحديدية من القضبان ويمر تحت علامات متباينة في أعمدة السيمافور، والبيوت تجري إلى جانبيه، وفي العربة نشاط مفاجئ، والقفف تنزل من على الرفوف، والحقائب والملاحف والمراتب واللفائف المربوطة في الخيش، والمرأة الريفية ترفع طفلها إلى كتفها فيستأنف صراخه، وتطلب من الأفندي المنهوك أن ينزل لها القفص والقفة يا أفندي وحياة النبي، فينشط وهو ينزل الأحمال الثقيلة، ويترنح تحتها، وهو يكاد يقع، فيلتصق بالمرأة، عن غير عمد في مجهوده، ويطيب له هذا الالتصاق لحظة من الزمن، والعسكري يشد حزامه ويتخم في منديله الأحمر الباهت، ويضع طربوشه على الطاقية الميري العبك. والناس يقومون ويتزحزحون، ويفتحون الشبابيك، ويقفون استعدادًا للنزول، وعلى شفاههم ابتسامات متعبة، ويلغطون مع بعضهم البعض في شيء كأنه فرح طفولي بالوصول.
/
…وأحس القطار يصفر، وقد وصل من رحلة بعيدة، والأنوار فرحة بهيجة قد غمرت المحطة كلها، والساعات تدور، والناس يتدافعون ويتزاحمون في انفعال الوصول. وهو يتعلق بيد أمه ينزل من القطار في زحمة الناس، ويرفع إليها وجهه وقد تعب من رحلته، وهاجه وأسعده انتهاؤها. وأبنية المحطة الكبيرة تتجاوب بطنين الكلام والضحكات وصفير القطار وقلقلة العجلات، ويسمع صيحات الشيالين وجريهم بين الناس في الزحمة، وأبواق التاكسيات تملأ الساحة الخارجية الفسيحة بلجاجة ندائها، والحناطير تتقارب وتتزاحم، وتقطع الطريق أمام بعضها البعض، والساحة الممتلئة بالناس الخارجين تسبح في الضوء الباهر المريح بعد شحوب القطار.
/
… والقطار قد وقف، وغاضت منه حيويته وانطلاقته، انكمش وجف، قشرة مفرغة هناك، تحت السقف الزجاجي تهب أنفاس الليل عليه، والأرصفة المتوازية على خلاء المحطة المبهم، متعاقبة واحدًا بعد الآخر، تنتهي بانحدارات مائلة نحو الزلط والحصى والرمل وبرك السولار السوداء اللامعة الخبيثة، وعلى القضبان، بين الأرصفة، عربات نقل البضائع الحديدية الفارغة، مسطحة مكشوفة، ملقية بأطرافها الناحلة الأسطوانية إلى الأرض. وتحت الأنوار الخافتة كشك بيع الصحف يغطيه نصف إعلان سينما قديم مقطوع. وبوفيه المحطة بعيد جدًا في أول الرصيف، عند باب الخروج، يسقط فيه نور أصفر باهت على مقاعد وموائد مصفوفة بانتظام، وخاوية تمامًا، عقيمة. ومكاتب المعاون والناظر والبوليس والتليفون بأبوابها المتجاورة المفتوحة، كلها عيون معتمة، على زجاجها قضبان معدنية متقاطعة قائمة من بعيد…
/
كانت قضبان السكة الحديد تمتد، بين الأرصفة، وتخرج إلى الفناء الخارجي، متشابكة، متجاورة، متقاطعة، لامعة في عتمة الليل بلمعة رصاصية فتية، غضة وقاسية، مدورة في صلابتها، اكتسبت قوة مصقولة مشحونة بطاقة كامنة من اقتران العجلات الضخمة معها، ودورانها عليها، وازدواجها بها، والخطوط الحديدية الملتصقة بالأرض، الذاهبة على وجهها إلى أبعاد سحيقة تخرج بها من الزمن أيضًا. تشتبك بتراب الأرض، وتدفن نفسها فيه، في عناق أخطبوطي محكم، لا إفلات من قبضة حبه.
/
كانت القضبان تحت عينيه قوية ويانعة الرسوخ في ضلعها الواحد المستدير الممتد إلى ما لا نهاية، والزلط محبَّب، مدور، مكسر الحواف، وحبات الرمل الخشنة ناتئة كالحجر المصحون.
/
أرصفة السكة الحديد تمتد، متينة ومظلمة، متجاورة بلا نهاية، عريضة وخالية.
/
هل يمنعوني من النزول عندما تأتي محطتي؟ وما محطتي؟ هل يعرفون أنني ليس معي تذكرة، يعني أنه لا مكان لي هنا في حقيقة الأمر؟ وهل هذا صحيح؟ لا أذكر هل اشتريت تذكرة، ولا أريد أن أبحث عنها الآن، في جيوبي، في المحفظة، بين صفحات مذكرة الجيب؟ لا أريد أن أثير شبهاتهم. لا أريد أن أثير شبهاتهم، لا أريد أن أستعدي اتهاèمهم، لا أريد أن أستفز هجوهم، لست أخافهم، صحيح، لكن ما الداعي لأنواع من سوء الفهم وتخبط المقاصد، سأنتظر حتى يأتي المفتش وتنتهي المسألة. إما أن أجد التذكرة، أو أدفع الثمن مضاعفًا، أو الغرامة، وبدل التكييف، أو الدمغة والرسوم.
لا بد أننا سافرنا ساعات، وساعات، هذا القطار مباشر صحيح، لا يعرج على المحطات الوسطى، إلام يذهب؟ ما المحطة التي يجب عليَّ أن أنزل فيها؟ عندما تأتي سوف أتعرف عليها. سوف أعرفها. سوف أعرفها. سوف أتعرف على اسمها. من شكل الأرصفة، وشبابيك التذاكر، والأبواب الجانبية، والسقف، سوف أعرفها من نداءات الحمالين، ومن ينتظرون. يجب أن أعرفها.
من رواية “السكة الحديد”؛ إدوار الخراط
كانت مكاتب المحطة مغلقة، والبناء يخفي البلدة عن الأنظار، والرصيف لا تمشي عليه قطة، ولم يكن هناك ما يستوقف النظر غير اللافتة التقليدية التي تحمل اسم المحطة في حروف ضخمة متآكلة: دير مواس. وأشرق وميض في ذهن الكاتب وهو يقرأ الاسم.. هنا في هذه المحطة نفسها، قَتل الفلاحون منذ ثلاثين عاما دكتاتورًا إنجليزيًّا كان يسقي الناس بول الخيل، ويغتالهم في ظلام السجون بغير حساب.. وكان يكفي في تلك الأيام أن يذكر اسمه – بوب- لكي تنخلع رعبًا قلوب الناس وتحتبس أنفاسهم. ولكن الفلاحين كانوا في ثورة؛ فتدفقوا كالسيل على قطاره المسلح، واقتحموه بالفؤوس والبنادق القديمة. وبعد أن هزموا جنوده وقتلوا ضباطه أمام عينيه، مزقوا جثته إربًا، وداسوا على أشلائها بأقدامهم الحافية التي طالما مزقتها سياطه.
من رواية “القطار”؛صلاح حافظ
فور وصول الأنباء الأولى عن قطع السكك الحديدية التي بدأها بعض المتظاهرين أمس، أصدر القائد العام للقوات البريطانية بلاغًا يتوعد فيه كل من يتلف أو يشرع في إتلاف خطوط المواصلات الحديدية أو البرقية وحتى التليفونية، بالإعدام رميًا بالرصاص، قال فيه:
“جناب القائد العام للقوات في القطر المصري ينذر الجمهور أن كل من يتلف مواصلات سكك الحديد أو التلغراف أو التليفون أو يلحق أي عطل بها ويعبث بها بأي وجه من الوجوه أو يحاول عمل أي شيء من هذه الأعمال يعرِّض نفسه للإعدام رميًّا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية”. وأرسل البلاغ للمحافظين والمديرين لتعليقه بالمدن والقرى، لكن الشعب لم يتأثر بالتهديدات، وغالبًا لم تصل لهم، لأن المخربين غالبًا لا يقرأون الصحف، ولا يلقون بالًا لمثل هذه البلاغات. واستؤنفت التظاهرات، ووقع أكثرها في 4 مناطق وهم: الحلمية وشبرا والغورية والظاهر، فكان أهمها التي قامت أمام مسجد الحسين، مؤلفة من طلبة الأزهر.
/
استمرت التظاهرات في الأيام التالية، وتعددت في كل النواحي دون انقطاع، رغم محاولات الجنود البريطانيين في صدها وتفريقها بإطلاق الرصاص، واتسعت أيضًا حركة قطع السكك الحديدية وتدمير المحطات، فأصدرت القيادة العامة إنذارًا قالت فيه “كل حادث جديد من حوادث تدمير محطات السكك الحديدية، أو المهمات الحديدية يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من غيرها إلى مكان التدمير، وهذا هو آخر إنذار”.
واستدعى بعدها القائد العام بعض الأعيان والوزراء السابقين إلى مركز القيادة البريطانية بفندق سافواي، وأبلغهم أنه لم يتخذ حتى هذا اليوم إلا تدابير دفاعية لقمع الاضطرابات في البلاد، فإذا استمرت هذه الحوادث سيتم اتخاذ تدابير فعالة قوية، من تدمير عمائر وتخريب بيوت، فضلًا عن إحراق القرى وإهراق الدماء.
وأخذت السلطة العسكرية من ناحيتها تقمع حركة قطع الخطوط الحديدية، فأمرت بتسيير كتائب طوافة من الجنود المسلحين بالبنادق والمدافع لتجوب البلاد التي يترامى إليها نبأ وقوع هذه الحوادث فيها.
واستخدمت الطائرات الحربية في بعض النواحي للسهر على حماية الخطوط، وتشتيت الجموع الذين كانوا يتلفون المحطات ويخربون الخطوط الحديدية، وحدث أن أطلقت النيران على بعض الطائرات التي تقوم بأعمال الدورية، فأجابت بقذف القنابل ما أسفر عن وقوع خسائر شديدة من القتلى والجرحى.
/
لاحظت السلطة العسكرية أن إتلاف الخطوط الحديدية يقع ليلًا، فأصدرت قرارًا بمنع الناس من الخروج من منازلهم من الساعة 9 مساءً وحتى 4 صباحًا، وحمَّلت عمد ومشايخ البلاد مسؤولية كل من يخالف الأوامر، مع منع السفر من قرية إلى أخرى بين غروب الشمس وشروقها، كما كلَّفت الجنود البريطانيين بحراسة السكك الحديدية ليلًا بدلًا من الخفر.
كان لقرار السلطة العسكرية نتاج فعَّال، فأذاعت السلطة العسكرية أن حالة السكك الحديدية أصبحت هادئة، فسار قطار القاهرة إلى بنها، وقطار الإسكندرية إلى القاهرة، دون وقوع أي حوادث، أما مواصلات الوجه القبلي فظلت مقطوعة منذ 15 مارس.
من كتاب “تاريخ مصر القومي”؛ عبد الرحمن الرافعي
وفى 17 مارس عُزلت القاهرة عن بقية أنحاء مصر. دُمرت الخطوط الحديدية، وقطعت أسلاك التلغراف، والتليفون، ووصل الجنرال بولفين لتولى القيادة. الثورة تحكم مصر، الممتلكات مهددة، خسائر ضخمة في الأرواح. وفى يوم 18 مارس نشبت ثورة في أسيوط وقتلت الجماهير الثائرة 8 من الإنجليز. الصعيد يلهب بقوة أكثر عنفًا، والبدو يتقدمون بأعداد كبيرة نحو المدن…
من كتاب “الكتاب الممنوع”؛ مصطفى أمين