نغضب كثيرًا حين نعلم أن أثرًا مصريًّا هُرِّب إلى الخارج؛ نغضب غضبًا شخصيًّا؛ وكأن هذا الأثر كان معروضًا في ساحة بيتنا، أو مخبأً في شكمجية الأسرة.. نحزن حزنًا غريبًا، نشعر وكأن التاريخ يهرب من هنا، لم يعد يريد البقاء بيننا… ونحن لا نريد أن يهرب التاريخ، أليس كافيًا أن يهرب الواقع.. لماذا نرى في قاطعي الصلة بيننا وبين الماضي أعداءً حقيقيين، ووحوشًا مخيفة…؟ أحيانًا يكون الشيطان هو من يمحو ذاكرتنا، ويتركنا عراة في الطل… أتغطينا الذاكرة؟ أيحمينا التاريخ من الخواء.. من البرد…؟ نعم. يحمينا التاريخ من الخواء ومن البرد. طبعًا عالم العصابات مثير للدهشة. ونحن نحب الدهشة.. لكننا لا نحب اللصوص…
الملك الصغير
اليوم؛ 7/7/2019، طلبت السلطات المصرية رسميًّا من بريطانيا منع خروج تمثال رأس توت عنخ آمون من الأراضي البريطانية… وكانت الرأس الأثرية، التي يبلغ عمرها أكثر من 3000 عام، والمصنوعة من الكوارتز الأحمر، قد بيعت منذ أيام في مزاد علني أقيم في صالة كريستيز الشهيرة للمزادات. وذكرت وكالات أنباء بريطانية أن مصر تتجه لرفع دعوى قضائية أمام المحاكم البريطانية سعيًا لاسترداد الرأس المباعة! وجاء في BBC أن مصر “أرسلت طلبًا رسميًّا إلى وزارة الثقافة والإعلام والرياضة البريطانية بعدم إصدار أي ترخيص لتصدير للقطع الأثرية حتى حسم النزاع بشأن ملكيتها وطرق خروجها من الأراضي المصرية“.
سخم كا
لماذا قد أفتقد سخم كا وأنا لا أعرفه شخصيًّا، ولا أدري كيف كانت حياته؟ هل من الطبيعي أن أشعر وكأنه اللصوص سرقوه مني؟ لماذا قد أفتقد سخم كا وهو تمثال من حجر!
في 2014 أعلنت صالة كريستيز عن نيتها بيع تمثال “سخم كا” الذي قيل إنه خرج من مصر عام 1849، واشتراه ماركيز ما من نورثمبتون، ثم لاحقًا أهداه ابنه إلى متحف نورثمبتون، وقتها أعلنت وزارة الآثار أن التمثال خرج من مصر بطريقة شرعية؛ إذ بيع عام 1829 وأهدي إلى متحف بريطانيا، ثم انتقل إلى متحف نورثمبتون الذي باعه بـ 14 مليون جنيه استرليني…
وسخم كا تمثال مهم؛ يعود إلى الأسرة الخامسة، يبلغ طوله 75 سم، وهو يمثل سخم كا جالسًا على مقعد دون ظهر من الحجر الجيري، وعند قدميه تجلس زوجته بحجم أصغر، وخرج من منطقة أبي صير.
في 2012 حاول قطاع الآثار المستردة استعادته؛ خاطبت السفارة المصرية في لندن المتحف البريطاني، ووصلت المفاوضات مع صالة كريستيز إلى حل واحد؛ أن تشتري مصر التمثال، وأن توقف كريستيز البيع لحين تتمكن الحكومة المصرية من توفير المبلغ، وهو 16 مليون جنيه إسترليني؛ أي نحو 176 مليون جنيه مصري، وهو ما عجزت عنه وزارة الآثار المصرية؛ كانت الوزارة تعاني حينها من نقص التمويل، إلى حد أنها كانت عاجزة عن توفير رواتب العاملين بها حسب تصريح أحد المسؤولين، الذي قال إن الحل هو حملة تبرعات جادة لجمع المبلغ الضخم، وبرَّر الأمر بأن التمثال خرج من مصر في زمن محمد علي، وقت كان خروج الآثار أمرًا عاديًا، وأن قانون حماية الآثار، ومنع الاتجار بها صدر عام 1983، كما أن اتفاقية اليونسكو الخاصة بحظر استيراد وتصدير ونقل ملكيات الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة صدرت عام 1970، ولا تُطبق بأثر رجعي، ومن ثم لا يمكن استخدامها لتسوية نزاعات سابقة عليها…
المهم، فشلت الوزارة في توفير المبلغ، وفي يوليو 2014 باعت كريستيز التمثال في المزاد لأنها كانت تحتاج إلى أموال بشكل عاجل. فاشتراه من يملك الأموال. حينها رجَّحت الصحف أن المشتري قطري الجنسية، لكن لم يُعلن اسمه.. لاحقًا أعلنت الصحف أن التمثال موجود في أمريكا.
تعليقًا على الأمر صرَّح وزير الآثار المصري، ممدوح الدماطي، أن بيع سخم كا “جريمة غير أخلاقية“… لم تعلن كريستيز هوية مشتري رأس توت، وتذهب الشائعات إلى أنه أمير خليجي أيضًا… حتى التاريخ يمكن شراؤه، وإخفاؤه بعيدًا عن الملكية العامة والمتاحف والمعابد، في قصور صغيرة! منذ أيام أيضًا صرَّح زاهي حوَّاس الآثاري الشهير ذو البرنيطة، ووزير الآثار السابق، أن بيع رأس توت “جريمة.. أنا غاضب جدًا، وأنت أيضًا يجب أن تكون غاضبًا – مخاطبًا مذيع محطة CNN- هذا يوم أسود“… والأثر الأبيض ينفع في اليوم الأسود!
هل كريستيز بريئة تمامًا؟
وفقًا لقوانين البيع في صالة كريستيز، التي أنشأها جيمس كريستي في عام 1766، وتبلغ حصيلتها من البيع بالمزاد العلني سنويًّا مليارات الجنيهات، لا يمكن قطعيًّا بيع أي قطعة ما لم توجد أوراق تثبت ملكيتها لبائعها. لهذا كانت الصالة هادئة تمامًا في تعاملها مع بيع رأس الملك الصغير، وفي ردها على السفارة المصرية في لندن… صرَّحت المتحدثة باسم الدار أنها لا ترى أن هناك نزاعًا قانونيًّا بشأن رأس توت إذ “تم التحقق من الملكية الحديثة للأثر“.. وأنها حصلت عليه “بالإضافة إلى تابوت فرعوني خشبي وتمثال لقطة مصرية قديمة، من تاجر الآثار الألماني هاينز هيرزر عام 1985. وأن هذه القطع الأثرية كانت مملوكة في السابق لتاجر الآثار النمساوي جوزيف ميسينا، الذي حصل عليها بدوره من الأمير فيلهلم فون ثور أوند تاكسي بين عامي 1973 و1974″.. منوهة إلى أنه يعتقد أن الأمير فيلهلم حصل عليها في ستينيات القرن الماضي؛ وفقًا للجارديان.
أوراق رأس توت، الملك الصغير ذي العنينين اللوزيتين والشفتين الممتلئتين، سليمة إذن، وملكيتها ثابتة، والسؤال معلَّق: من الذي هرَّب رأس توت، التي خرجت من مصر بأوراق سليمة؟
الحاوية الدبلوماسية
في مايو 2018 أعلنت الصحف الإيطالية عن فضيحة كبرى؛ ضبط عشرات القطع الأثرية المصرية التي لا تُقدر بثمن، خرجت من ميناء الإسكندرية في حاوية دبلوماسية، فور وصولها إلى ميناء ساليرنو الإيطالي.. الخارجية المصرية أصدرت بيانًا لاحقًا لتصريحات الصحف الإيطالية، أعلنت فيه أن الحاوية الدبلوماسية لا تخص دبلوماسيًّا مصريًّا، وأن الخارجية الإيطالية أبلغت المصريين في مارس 2018؛ قبل شهرين من الإعلان، عن عثورها على هذه القطع..
ومع ذلك لم تتخذ السلطات المصرية أي إجراء لكشف ملابسات التهريب، بل إنها كالعادة تكتمت على الأمر، ولم تفصح عن هوية صاحب الحاوية، ولا عن كيفية خروج حاوية دبلوماسية ذات حصانة بهذه الضخامة وهي تحوي كل هذه القطع! هل من الممكن أن تخرج هذه الكمية من الآثار؛ بعض القطع ضخم جدًا بالمناسبة، دون تواطؤ مسؤولين من الداخل مع مهربيها؟!
في 2017 أعلنت وزارة الآثار المصرية أن مصر فقدت 32.638 قطعة أثرية في خلال 50 عامًا الأخيرة.. رقم مفزع لا شك. ومثير للتساؤل نفسه، كيف تخرج هذه القطع في ظل تشديد العقوبات على التهريب دون أن تكون هناك مافيا داخلية تساعد بشكل رسمي على خروجها بشكل آمن؟ هل تتواطأ الدولة على تفريغ المكان من صلته بالماضي؟
قضية الآثار الكبرى
هناك أكثر من قضية معروفة باسم قضية “الآثار الكبرى“… عادة يرتبط الكلام عن تهريب الآثار لغويًّا بجمل مثيرة للحسرة، ومصطلحات رنانة؛ مافيات، وعصابات، وكنوز، وثروات قومية… إلخ.
لكن هذه الكبرى وقعت في مايو 2015؛ حين نشرت بعض المواقع المصرية خبرًا مفاده أن النائب العام المصري أمر برفع الحصانة عن مدير أول نيابة مدينة نصر “أ ا“، وشقيقه رئيس النيابة بمحكمة النقص “م ا“، وآخرين، لتورطهم في قضية تهريب آثار كبرى، وأن الجهات الرقابية كشفت عن تورط “أ ا“، وشقيقه المستشار “م“، مع 7 ضباط شرطة في إدارات مختلفة بوزارة الداخلية في قضية فساد كبرى خاصة بالاتجار في الآثار وتهريبها، وأن الرقابة الإدارية صورتهم وسجَّلت لهم مكالمات…
لم تذكر المواقع المصرية أسماء المتورطين في الجريمة مع أنها نشرت صورة لأحدهم؛ لكن سكاي نيوز ذكرت أسماء المستشارين؛ وهما أحمد الصاوي، وشقيقه محمد الصاوي، ولم تذكر اسم الضابط…
بعدها بساعات نشرت مواقع مصرية أن نيابة أمن الدولة أمرت بإخلاء سبيلهم على ذمة التحقيقات في قضية “الآثار الكبرى“، وأن المتهمين، في التحقيقات التي استمرت 6 ساعات داخل مجمع أمن الدولة العليا بالتجمع الخامس، أنكروا التهم جميعًا وأكدوا براءتهم منها…
عند هذا الحد توقفت معلومات الصحف المصرية، فما لم تذكره بعد ذلك أن الأخوين الصاوي أحيلا إلى الصلاحية/ إلى التقاعد الإجباري، بعد أن ثبتت عليهما التهمة… وتذهب الأقاويل أنهما ذهبا للعمل في الكويت.
نابو
في 2016، انتشرت على فيسبوك صورة لرجل وامرأة عراقيين يبكيان بحرقة أمام بعض الآثار العراقية المعروضة في المتحف البريطاني بلندن، وهي آثار نهبتها القوات البريطانية بعد دخول العراق في 2003… كان الرجل ورفيقته يبكيان وكأنهما يبكيان فقيدًا غاليًا، ما يخصهما أصبح مملوكًا لآخرين؛ نهبًا وعافية. المتحف البريطاني هو المكان الأكبر الذي يقتني قطعًا أثرية عراقية مهمة خارج العراق، وقد خصص قاعات كاملة لعرضها. وقد علق أشخاص على تلك الصورة قائلين “إنهم وإن سرقوا آثارنا فلن يسرقوا حضارتنا“؛ هذه أشياء يحب الجميع الاحتفاظ بها.
الجميع يود لو كان موغلاً في التاريخ، لو كان قديمًا جدًا. يعايرون ويسبون من ليس له تاريخ، من ليس له أصل… ويبدو أن هذا الأمر يعني شيئًا.
ومنذ نحو شهرين تواصل معنا، في مدينة، الصديق السوري وعد المهنا وهو صحفي متخصص في حماية الآثار، لافتًا ومنبهًا إلى فصل جديد من فصول سرقة التاريخ ووضعه في غير موضعه… أمدنا المهنا بصور وفيديوهات تخص متحفًا خاصًا أنشأ في لبنان أخيرًا؛ في 2018، ويملكه ثلاثة أشخاص؛ ويضم المتحف الذي يسمى “نابو“- نابو إله الكتابة والحكمة في العراق القديم– معروضات لنحو 2000 قطعة أثرية ومخطوطات نادرة وكتب وخرائط مسروقة من اليمن والعراق ومصر ولبنان وسوريا.. لا أحد يعرف كيف اشترى مُلَّاك المتحف هذه الكمية من الآثار المعروف قطعًا أنها مسروقة ومهربة وعرضها علنًا. منذ البداية أثار المتحف جدلاً فهو مبني على أرض متنازع على ملكيتها، كما رُدم جزء من شاطئ المتوسط لإتمام البناء. بعد الافتتاح كانت هناك دعوى قضائية حركتها السفارة العراقية اعتراضًا على عرض قطع مسروقة أخيرًا؛ إثرها رفع المتحف القطع المشار إليها في الدعوى من العرض، لكن لا ندري إلى أين ذهبت وإن كانت قد عادت إلى العراق أم لا… جمعية “الجنوبيين الخضر” اللبنانية أيضًا وجَّهت اتهامًا لمتحف نابو بعرض آثار لبنانية مسروقة من أحد المواقع في جنوب لبنان، ويفترض أنها سُرقت في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. مُلَّاك المتحف يزعمون أنهم اشتروا هذه القطع، وغيرها، من مزادات عالمية، وينفون أنها مسروقة، وسط اتهامات بغسيل الأموال والاتجار في الآثار المهربة… كل هذا في الوقت الذي يفخر متحف لبنان الوطني أنه لا يحوي قطعة أثرية واحدة من خارج لبنان، لكن أصحاب المتحف يرون أن قوانين المتحف الوطني، تخص المتحف الوطني فقط، ولا تنطبق على أي متاحف أخرى..
المتاحف الخاصة تقتني التاريخ طالما استطاعت أن تشتريه! لا رغبة لدينا طبعًا في الوقوع في فخ السنتمنتالية، لكنه شعور بشري، بل حيواني؛ ما هو لنا ينبغي أن يظل لنا.