هل العبودية مختارة؟ يتجدد السؤال. هل نعيش نسخاً متحولة من العبودية، نختار بين أشكالها، لنشعر بالأمان. هل رأيت الرجل الذي يقف في ميدان يحمل البيادة العسكرية على رأسه. هل يمثل شيئا سوى الخوف و الرعب. والعجوز الذي إرتعش وهو يقول “أريد الأمااااان…” حتى لو مت جوعاً. هل رأيتهم جيداً ..تختار التصنيف السهل لهم، أم تفكر مالذي أوصلهم إلى اختيار العبودية؟ في محاولة التفكير قد يكون كتاب “مقال في العبودية المختارة” أساسياً. فهو يطرح من خلال قلق كاتبه حول علاقة العبودية في وجود السلطة.
الكاتب هو إيتيان دي لا بواسيه (1نوفمبر 1530 – 18 أغسطس 1563)، قاض وكاتب وشاعر فرنسي؛ مؤسس النظرية الفوضوية، أو ما عُرف لاحقًا بالأناركية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا.. درس القانون في جامعة أورليان، ثاني الجامعات الفرنسية وقتها بعد جامعة باريس. ومن بعدها عمل قاضيًا.
في مقتبل عمره القصير جدًّا كتب لا بوسيه الشعر، وترجم بعض الكلاسيكيات من اللغة اليونانية. وقد ربطته صداقة قوية بالكاتب الفرنسي الأشهر في عصر النهضة؛ ميشيل دي مونتين (12 فبراير 1533-13 سبتمبر 1592)، الفيلسوف والمترجم والشاعر كذلك مثل صديقه. وقد خلَّد مونتين هذه الصداقة في مقالة شهيرة، وهو من عُرف برائد فن المقالة، كما نقل إلينا معلومات مهمة بشأن لا بوسيه الذي توفي بشكل مفاجئ في الثانية والثلاثين.
وأما الكتاب “مقال في العبودية المختارة” العمل الوحيد الذي عُرف به، فقد أشاع مونتين أنه لا بواسيه كتبه وهو في الثامنة عشرة، ولكن الآراء اللاحقة ترجح أنه كتبه في 1552 أو 1553؛ أي عندما كان في الجامعة. وذهبت بعض الشائعات أن المقالات كانت من إنتاج مونتين نفسه! لكن الثابت أن المقالات لم تنشر في حياة لا بواسيه، بل بعد وفاته.
وفي هذا المقالات هاجم لا بواسيه النظام الملكي المطلق– الذي كان سائدًا في فرنسا آنذاك– والطغيان، وخلُص إلى أن العبودية خيار يختاره الشعب، وأن الطغاة لديهم السلطة فقط لأن الشعب أعطاها لهم؛ تخلى الشعب/المجتمع عن حريته، واستمر لعهود طويلة متخليًا عنها. وقد ظل قبول الشعوب بالعبودية لغزًا شاغلاً للا بواسيه، إذ إن المسألة ليست مجرد خوف وخضوع، بل هي مسألة موافقة. الشعوب إذن ووافقت على الرق/العبودية عن الحرية، وفضَّلت الاستمرار في رفض الهيمنة، وأحبت الانصياع. يربط لا بوسيه بين الطاعة والهيمنة، ما كوَّن فيما بعد النظرية الفوضوية. فقد دعا لإيجاد حل، والحل في رفض الديكتاتوريات، ومقاومة الطغيان. وهو بذلك واحد من رواد الدعوة إلى العصيان المدني، والمقاومة غير القائمة على العنف.
والعبودية، عند مترجم هذه النسخة من الكتاب “مقالات في العبودية المختارة” إلى العربية –صدرت منه أربع ترجمات بالعربية– الدكتور مصطفى صفوان، ليست ظاهرة
خاصة بمجتمع دون آخر، بل هي ظاهرة طبيعية جدًّا. فالحب استعباد؛ حب امرأة، حب زعيم.. والحب يمنح القوّة. أما الخضوع والتفاني للزعيم، فهو شيء طبيعي، لأن النظم السياسية مبنيّة على الزعامة. تبقى الأمور على ما يرام طالما كانت الزعامة ناجحة جدًّا. والمجتمع الوحيد الذي أدخل نظاما سياسيًّا مختلفًا، هو اليونان، حين ظهرت الديمقراطية. “السيادة الشعبية “، بالمعنى الذي نتحدث عنه، سيادة الشعب، لم تظهر إلا عبر اليونان، ليس لأن اليونانيين عباقرة، بل لأن الدولة ظهرت في مدن صغيرة. إن شكل ظهورها هكذا، كان يمكِّن من ظهور نوع من الحكم يشترك فيه أهل المدينة، دون العبيد. (كان العبيد موجودين). فيما نشأت الدولة عندنا على ضفاف الأنهار الطويلة، وامتدت نحو الوادي وعرضه. هناك لا يمكن الاختباء في الوادي عن السلطة المركزي.
مصطفى صفوان
الدكتور مصطفى صفوان من مواليد 17 مايو 1921… كاتب ومحلل نفسي ومترجم. وهو ذو شهرة كبيرة؛ تُرجمت مؤلفاته، التي بدأ العمل عليها بعد أن جاوز الخمسين، إلى الكثير من اللغات. حصل على ليسانس الفلسفة من جامعة “فاروق الأول“؛ الإسكندرية حاليًا، وهي المدينة التي نشأ فيها حين كان فيها بنص تعبيره “كل شيء… وهي مفتوحة على جميع الثقافات.. كان ثمة الكثير من الجاليات الأجنبية، وكانت حركة الترجمة قوية جدَّا آنذاك، وكانت أفضل المؤلّفات متوفرة بين أيدينا. إضافة إلى معرفتي باللغتين الفرنسية والإنجليزية.. وجود الجامعة وانتشار الكتب، والأسماء المهمة، ساعد كثيرًا في خلق ثقافة منفتحة… كنت عربيًّا ووطنيًّا، وكنت مهتمًا بحركة التحرير التي حكمت التفكير السياسي، ولكن تكويني كان غربيًّا“.
تتلمذ صفوان على يد جاك لاكان حين انتقل إلى فرنسا 1946، بعد أن فشل في الالتحاق بجامعة كمبريدج لظروف قيام الحرب الثانية. وبعد الدراسة في فرنسا عاد إلى الجامعة المصرية، ووفقًا لويكيبيديا فإن موقفًا سخيفًا حدث له مع حرس الجامعة كان كفيلاً بجعله يتخذ قرار العودة إلى فرنسا، التي ما يزال يعيش فيها حتى الآن.
ترجم في نحو خمس سنوات بدأت في 1945 كتاب “تفسير الأحلام” لفرويد“. و“علم ظهور العقل لهيجل“، و“مقالة في العبودية المختارة” لإيتيان دي لا بواسيه، 1992، و“الإرهاب” لشمسكي وهوفمان وأوسوليفان، 1993. وترجم مسرحية عطيل لشكسبير إلى العامية المصرية 1998. ومن مؤلفاته: “الجنسانية الأنثوية“، 1976، و“فشل مبدأ اللذة“، 1979، و“اللاشعور وكاتبه“، 1982، و“الطرح وشوق المحلل“، 1988، و“دراسات حول أوديب“، 1994، و“الكلام أو الموت” 1999، و“ندوات جاك لاكان” 2001، و“البنيوية في التحليل النفسي“، 2001.
…..
أقواس “مقال في العبودية المختارة ” من اختيار أسماء يس
القوس الأول: إرادة العبودية
“يبدو أن الأطباء محقون – بلا شك – إذ ينهون عن لمس الجروح التي لا برء منها، ولا أظنني أسلك مسلكًا حكيمًا إذا أردت أن أسدي هنا الموعظة إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل، وصار فقدان حساسيته بالألم دليلًا كافيًا على أن مرضه قد صار مميتًا لنحاول إذا أن نتبين– لو أمكن ذلك– كيف استطاعت جذور هذه الإرادة العنيدة، إرادة العبودية إلى هذا المدي البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء لا يمت إلى الطبيعة بسبب.
أولًا: إنه لأمر لا أظن الشك يتطرق إليه أننا لو كنا وفاقًا للحقوق الممنوحة لنا من الطبيعة والدروس التي تلقينا إياها لكنا طيعين للوالدين بالطبع خاضعين للعقل غير مسخرين لأي كان فالطاعة التي يحملها شهود عليه كل عن نفسه فأما العقل وهل يولد معنا أم لا فمسألة تقارع فيها الأكاديميون ولم تتخلف مدرسة من المدارس الفلسفية عن الخوض فيها، ولا أظنني أُجانب الصواب الآن إذ أقول إن في نفوسنا بذرة طبيعية من العقل تزدهر في شكل الفضيلة إذا كان في رحاب الطبيعة شيء واضح باد للعيان، ولا يجوز أن نعمى عنه، فذلك أن الطبيعة وهي وزيرة الخالق وآمرة الخلق قد سوتنا جميعًا على شبة واحد حتى لكأنها – إذا جاز التعبير – قد صبتنا في القالب ذاته، وذلك حتى يعرف في الآخر ين رفاقه أو بالأصدق أخوته، وإذا كانت الطبيعة وهي توزع هباتها قد استغب على البعض مزية جسدية أو عقلية، وإذا كانت رغم ذلك لم تتركنا في هذه الدنيا كأننا في حقل مغلق ولم تفوض الأقوياء والمكرة بافتراس الضعفاء كقطاع طرق أطلق سراحهم في الغابة، فذلك دليل على أنها إذا أعطت البعض نصيبًا أكبر والبعض الآخر نصيبًا أصغر لم تكن تهدف إلا أن تترك المجال للتعاطف الأخوي حتى يظهر وجوده دام البعض يملك قوة العطاء والبعض الآخر الحاجة إليه. فإذا كانت هذه الأم الطيبة قد جعلت لنا من الأرض قاطبة سكنًا وأنزلتنا جميعًا المنزل نفسه وهيأتنا على نموذج واحد كيما يتسنى لكل منا أن يتأمل نفسه ويقترب من معرفتها من مرآة الآخرين، وإذا كانت قد وهبتنا جميعًا تلك الهبة الكبرى؛ هبة الصوت والكلام حتى نزيد تعارفًا وتآخيًا وحتى تتلاقى إرادتنا بالإعراب المتبادل عن أفكارنا وإذا كانت قد عهدت بكل السبل حتى نزيد توثق عرى التحالف والاجتماع بيننا، وإذا كانت قد بينت في كل ما تصنع أنها لا تهدف إلى توحيدنا جميعًا بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميعا آحادًا فقد ارتفع بذلك كل شيء في أننا جميعًا أحرار بالطبيعة ما دمنا رفاقًا، وامتنع أن يدخل في عقل عاقل أن الطبيعة قد ضربت علينا الرق بينما هي قد ألفت بيننا“.
القوس الثاني: لماذا لا تستسلم الحيوانات للعبودية بسهولة؟
“فكما السمك يترك الحياة حين يترك الماء، كذلك هي تترك الضوء وتأبى العيش بعد فقدان حريتها الطبيعية فلو كانت لها مراتب لجعلت من الحرية عنوان نبالتها، فأما البقية من أكبرها إلى أصغرها فهي لا تستسلم للأسر حين نقتنصها إلا بعد أن تظهر أشد المقاومة بالأظافر والقرون والمناقير والأقدام معلنة بذلك مدى إعزازها لما تفقد، ثم هي تبدي لنا العلامات الجلية على مدى الحياة كأنها إنما تقبل البقاء لترثي ما خسرت لا لتنعم بعبوديتها، هل يقول الفيل شئيًا أخر حين يقاتل دفاعًا عن نفسه حتى يستنفذ قواه ويرى ضياع الأمل وشوك الأسر، فإذا هو يغرس فكيه محطمًا على الشجر سنيه؟ هل يقول الفيل شيئًا آخر سوى أن رغبته الشديدة في البقاء حرًا، تلهمه الذكاء فتحثه على مساومة قناصيه لعلهم يتركون له الحرية ثمنًا لعاجه ولعله يفتدي به حريته؟ إننا نستأنس الجياد منذ مولدها لندربها على خدمتنا، فإذا كنا مع ذلك حين نجئ إلى ترويضها نعجز عن ملاطفتها إلى الحد الذي لا يجعلها تعض الحكمة وتنفر من المهماز، فما هذا في اعتقادي إلا شهادة منها بأنها إنما تقبل خدمتنا كارهة لا مختارة “.
القوس الثالث: أنواع الطغاة
“هناك ثلاثة أصناف من الطغاة: البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم، فإما من انبني حقهم على الحرب فنعلم جيدًا أنهم يسلكون كما نقول في أرض محتلة، وأما من ولدوا ملوكًا فهم عادة لا يفضلون قط لأنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان يمتصون جبله الطاغية وهم رضاع، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد، ويتصرفون في شوؤن المملكة كما يتصرفون في ميراثهم كل بحسب استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ. أما من ولاه الشعب مقاليد الدولة فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون، ولقد يكون الأمر كذلك على ما أعتقد لولا أنه ما إن يرى نفسه يرتقي مكانًا يعلو به الجميع، وما إن ينزاح من مكانه قط وما إن يتلقف هؤلاء هذه الفكر حتى نشهد شيئًا عجبًا نشهد إلى أي مدى يبزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل، بل في قسوتهم دون أن يروا سبيلًا إلى تثبيت دعائم الاستبداد الجديد. سوى مضاعفة الاستبعاد، وطرد فكرة الحرية عن أذهان رعاياهم، حتى يعفو عليها النسيان، رغم قرب حضورها في ذاكرتهم، فكلمة الحق هي أني أرى بعضًا من الاختلاف بين الطغاة، ولكني لا أرى اختيارًا بينهم، لأن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم تكاد لا تختلف، فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم والوراثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكًا طبيعيًّا“.
القوس الرابع: برقع العبودية
“كشأن الجياد الشوامس تعض الحكمة بالنواجذ في البدء ثم تلهو بها أخيرًا وبعد أن كانت ترجم ولا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها تقول إنها كانت منذ البدء ملكًا لمالكها، وأن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور، وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الإلزام، ويمر الزمن، تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها، ولكن الحقيقة هي أن السنين لا تجعل أبدًا من الغبن حقًا، وإنما تزيد الإساءة استفحالًا. آجلا أو عاجلًا يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن، يشعرون بوطأة الغل، ولا يتمالكون عن هزه ولا يرضخون أنفسهم أبدًا على التبعية والخضوع، بل هم مثلهم كمثل أوليس، وهو يجتاب الأرض والبحر، عساه يرى الدخان الذي يصعد من داره، لا يمسكون عن التفكير في حقوقهم الطبيعية، وعن أن يتذكروا وقائع الماضي ليسترشدوا بها في الحكم على المستقبل وسبر الحاضر، أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها، فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبًا أولئك لو أن الحرية امحت من وجه الأرض وتركتها كلها لتخيلوها وأحسوا بها في عقولهم، وتذوقوها ذوقًا، ولم يجدوا للعبودية طعمًا مهما تبرقعت.
القوس الخامس: السخرية أكبر النجاح
“هذا كله على ما أعتقد ما إلا مدعاة للهو والضحك، إنه لأمر يدعو إلى الرثاء أن نسمع تذرع الطغاة حتى يؤسسوا طغيانهم، وإلى أي الحيل التجأوا دون أن تختلف الكثرة الجاهلة في كل زمان عن ملاقاتهم، فلا يرمون شبكة إليها إلا ارتموا فيها، وخلا تغريرهم بها من المشقة، حتى إنهم ينجحون في خداعهم أكبر النجاح حين يسخرون منها أكبر السخرية“.
القوس السادس: كيف يصنع الشعب الأكاذيب.. ويصدقها!
“ثم ماذا أقول عن محرقة أخرى تلفقتها الشعوب القديمة كأنها نقد لا زيف فيه؟ لقد دخل في اعتقادها أن إبهام بيروس ملك الأيبيريين كان يصنع المعجزات ويشفي أمراض الطحال، ثم جملوا القصة فأضافوا أن هذا الأصبع قد ظهر سليمًا وسط الرماد، لم تصبه النار بأذى بعد أن احترق الجسد كله، هكذا يصنع الشعب نفسه الأكاذيب كيما يعود ليصدقها. هذه الحكايات قد سجلها كثير من الناس، ولكن على نمط لا يترك مجالًا للشك في أنهم لم يعدوا نقلها عما تردد في جلبة المدن، وعلى أفواه العامة؛ منها أن فاسياسيان رجع من آشور فمر بالإسكندرية متوجهًا إلى روما، فصنع في طريقة المعجزات؛ قوَّم العرج، ورد البصر إلى العمي، وآتى عجائب أخرى من هذا القبيل. ولا يغفل –في رأيي– عن زيفها إلا من أصابه عمى يغلب عمى الذين يُنسب إلى فسياسيان شفائهم. إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال ما يصبه على رؤوسهم من الإساءة إنسان مثلهم، لهذا احتموا بالدين، واستتروا وراءه، ولو استطاعوا لاستعاروا نبذة من الألوهيه سندًا لحياتهم الباطلة“.
القوس السابع: آكلي الشعوب
“الأغرب هو أن نرى ما يعود عليهم من هذا العذاب الشديد، والكسب الذي يستطيعون توقعه من مكابدتهم وحياتهم البائسة، فالذي يقع هو أن الشعب لا يتهم الطاغية أبدًا بما يقاسيه، وإنما ينسبه طواعية إلى من سيطروا عليه؛ هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوب والأمم، ويعرفها العالم قاطبة، حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها، ويثبون عليهم ألف قذيعة وألف شتيمة وألف سبة، كل أدعيتهم وأمانيهم تتجه ضدهم، كل ما يلحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحيانًا بتبجيلهم سبوهم معًا في قلوبهم، ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة، هذا هو الشرف، وهذا هو المجد؛ ينالون جزاءً على ما صنعوه تجاه الناس، الذين لو ملك كل منهم جزءًا من أجسادهم لما شقي ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه فإن أدركهم الموت لم يتوان من يجئ بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم يسود بمداده أسماء آكلي الشعوب هؤلاء، ويمزق سمعتهم في ألف كتاب، وحتى عظامهم ذاتها إذا جاز هذا التعبير؛ يمرغها الوحل عقابًا لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم.. لنتعلم إذن، لنتعلم مرة أن نسلك سلوكًا حسنًا لترفع أعيننا إلى السماء“.