في كتاب “جائحة الطاعون الثالثة في مصر” (المنشور عام 1932) يتناول الدكتور عبد الواحد الوكيل (1895-1944) مجموعة من الألغاز التي كانت تحيط بانتشار وانحسار وباء الطاعون في
في كتاب “جائحة الطاعون الثالثة في مصر” (المنشور عام 1932) يتناول الدكتور عبد الواحد الوكيل (1895-1944) مجموعة من الألغاز التي كانت تحيط بانتشار وانحسار وباء الطاعون في مصر. درس الوكيل في مصر وانجلترا وتخصص في الأمراض الوبائية والطب الوقائي قبل أن يتولى وزارة الصحة عام 1942 في وزارة النحاس الباشا، حيث اهتم بمد الرعاية الصحية الأساسية للريف من خلال انشاء وتعميم وحدات صحية. كانت طبيعة عمل علماء الأوبئة تشبه في بعض ملامحها عمل المحققين الجنائيين الذين يبحثون دوما عن مفاتيح لفهم أحداث لا تشرح نفسها وتحتاج إلی إعادة ترتيب. فلننظر سويا إلی هذا الخط الزمني:
· 1783-1844: وباء الطاعون يضرب مصر 21 مرة
· 1844-1899: اختفاء الطاعون تماما من مصر
· 1899-1932: موجة طاعون جديدة، ولكنها أقل فتكا بكثير من مثيلاتها في الماضي. تبدأ الموجة من الإسكندرية وتضرب مصر كلها باستثناء ملحوظ للقاهرة
لغز 1: ما هي أسباب الاختفاء الملحوظ للطاعون في مصر لمدة نصف قرن (1844-1899)، بعدما كان يعتقد أنه مستوطن فيها؟
لغز 2: ما هو سبب نجاة القاهرة، مقارنةً بباقي المدن المصرية، من وباء الطاعون الذي انتشر في مصر كلها لمدة أكثر من ثلاثين عاما (1899-1932)؟
لحل هذا الألغاز الوبائية، رصد الوكيل كل العوامل المتشابكة التي لها أن تؤثر علی الوباء، فمن ناحية هناك حركة التجارة والإجراءات الصحية، ومن ناحية أخری هناك أيضا العوامل البيئية الخاصة بدورة حياة الحيوانات والحشرات الناقلة للطاعون. فمنذ أن أكتشف العالم ألكسندر يرسين البكتيريا المسؤولة عن مرض الطاعون عام 1894، انشغل علماء الأوبئة بدراسة حياة الفئران والبراغيث الحاملة للبكتيريا. ومن هنا ارتبط تاريخ الوباء في مصر بتاريخ حيواناتها وحشراتها. فالتاريخ لا يصنعه البشر فقط!
يكمن السر، بحسب قول الوكيل، في فهم طبيعة الوباء ودورة حياة المرض. الجائحة مثل أمواج النهر التي تعلو مع الفيضان وتنخفض نتيجة لمؤثرات كثيرة، وقد تستمر الأمواج الصغيرة في المجيء بعد الموجة الكبيرة بعقود أو حتی بقرون. فالطاعون يعيش علی البراغيث الحاملة له أينما وجدت وهي كائنات طفيلية تعيش علی الفئران، وهي لا تحمل الطاعون فقط بل تمرض وتموت بسببه، وأيضا تطور أجهزتها المناعية مع مقاومة المرض والتعرض الدائم للعدوی. هكذا إذا، يستمر المرض في البقاء في مناطق بعينها عبر أجيال من الفئران الحاملة للعدوی، وهو مستوطن في أماكن عدة أهمها آسيا الوسطی وأقليم يونان في الصين واختلف العلماء علی مصر.
يقول الوكيل أن هناك ثلاثة جائحات كبری للطاعون في التاريخ:
1) طاعون جستنيان الأول في القرن السادس الميلادي، عندما كانت مصر جزء من الإمبراطورية البيزنطية، ويعتقد أن الوباء بدأ من مدينة الفرما (وهي مدينة مصرية قديمة تقع علی البحر المتوسط، حيث كانت مركز للتجارة).
2) الموت العظيم أو الموت الأسود الذي اجتاح آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وحدثت أشد موجاته فتكا في القرن الرابع عشر.
3) الجائحة التي ضربت مصر عام 1899.
ماذا حدث عام 1844 ولماذا اختفى الطاعون لمدة نصف قرن بعد أن ظل يضرب مصر بلا هوادة ال60 عام التي سبقت هذا الاختفاء؟ يقول الوكيل أننا لا نعلم قطعا سبب اختفاء الطاعون من مصر لهذه الفترة الطويلة، ولكن هناك 3 عوامل قد تكون ساهمت في ذلك.
1) التغير الكبير الذي حدث في طرق التجارة العالمية مع اختراع السفن البخارية التي بدأت في نقل البضائع والبريد بين الهند وخليج السويس منذ عام 1839. ومع انشاء قناة السويس عام 1869، خفتت أهمية الطريق البري التجاري الرئيسي، الذي كان يمر عبر الإمبراطورية العثمانية.
2) التغيرات الداخلية التي ساهمت في زيادة صعوبة التنقل عبر الطرق البرية مع الاهتمام بالطرق الملاحية الجديدة.
3) الاجراءات الصحية وأهمها الحجر الصحي. رغم أهمية هذه العوامل، لا يستطيع الوكيل أن يجزم بأن هناك علاقة سببية بينها وبين واختفاء الطاعون. فهناك أطروحة أخری تقول إن الطاعون كان بالفعل في طور الانحسار الناتج عن تطور “مناعة القطيع” التي اكتسبتها أجيال الفئران في مصر. بالتالي فقد تكون هذه العوامل عجلت من قدوم شيء كان بالفعل يحدث بشكل “طبيعي،” أي بسبب تغيرات بيئية وبيولوجية.
يعتقد الوكيل قطعًا أن وباء 1899 هو بداية موجة طاعون جديدة وفدت علی مصر من خارجها، تحديدا من إقليم يونان في الصين عبر السفن الهندية، وهو بعيد كل البعد عن الطاعون الذي استوطن فيها لقرون طويلة من قبل. فهذا الطاعون المستحدث لا علاقة له بالعدوی المحلية التي تناقلتها أجيال من الفئران المصرية منذ القرن الرابع عشر، وربما قبلها، وحتی أواخر عهد محمد علي. أما فئران عام 1899، فإنها فقدت المناعة التي اكتسبتها الأجيال السابقة مع اختفاء المرض بين 1844 و1899. وذلك لأن تطور واستمرار المناعة مشروط بالتعرض المتكرر للعدوی ومقاومتها.
وفد الطاعون إلی مصر من بومباي (الهند) عام 1899، فظهر في حي الهماميل بالإسكندرية. كانت أول 20 حالة كلهم من الرعايا اليونانيين العاملين في بيع وتخزين البقالة أو من الذين يعيشون في هذه الأحياء، وهي أكثر أماكن يتواجد فيها الفئران حيث ترتفع إمكانية نشر العدوی. ولذلك، لم يكن من المستغرب أن تكون أول حالات الإصابة في بورسعيد أيضا من اليونانيين، الذين تخصصوا في تجارة البقالة في مصر. في الإسكندرية، انتقل الطاعون من الهماميل إلی كفر عشري، القباري، كرموس، المغاربة، بحري، وسوق الكانتو وكلها أحياء يكثر فيها محلات تخزين البضائع وشحنها وأيضا محلات البقالة والخمور والأفران.
لاحظ الوكيل هذا الارتباط بين أنماط العمل وخط سير الطاعون في حالة أخری. فالمرض ينتقل عبر حركة العمالة الموسمية بين الصعيد والمدن الساحلية (الإسكندرية، بورسعيد، السويس). من مارس إلی مايو من كل عام، يرحل الناس من الصعيد، حيث تقف حركة الزراعة المعتمدة علی نظام ري الأحواض، وبالتالي علی الفيضان السنوي، إلی المدن الساحلية بحثا عن العمل في الموانئ أو في قطاع التشييد والبناء وغيره من أنماط العمالة اليدوية. يعيش معظم هؤلاء الوافدين في أحياء فقيرة محرومة من خدمات النظافة، ولكنها قريبة من الموانئ والمخازن وأماكن العمل، وهي التي تكثر فيها عدوی الطاعون بسبب انتشار الفئران. تنتقل العدوی مع حركة العمال المرضی، حيث يرجعون إلی الصعيد خوفا من الموت بعيدا عن أهاليهم، فيصلون إلى قراهم بعد الرحلة الطويلة—ان وصلوا—في حالة متأخرة من المرض.
انتشر طاعون عام 1899 في موجات صغيرة في مصر كلها باستثناء وحيد هام، وهي مدينة القاهرة. المثير للدهشة أن الطاعون طالما فتك بالمدينة في الماضي البعيد والقريب (حتی عام 1844)، كما أن العاصمة هي مركز حركة السفر من الصعيد إلی المدن الساحلية، أي أنها بالضرورة في طريق انتقال العدوی. من اجل تفسير هذا الاستثناء، يستبعد الوكيل كل الاجراءات الصحية التي اتُخِذت في المدينة، من التخطيط الصحي إلی إزالة أكوام الأتربة والعشش والبرك، وحتی جهود مد شبكة الصرف الصحي وتجميع الزبالة. فالقاهرة كانت لاتزال مليئة بكل مقومات حياة الفئران المصابة، من أسواق وبضائع و“بيوت قديمة وعشش غير صحية.” كما أن كل ما حدث في القاهرة من إجراءات صحية له مقابله في الإسكندرية، فلماذا نجت العاصمة؟
يقول الوكيل أن السبب لا شك “بيولوجي،” حيث يبدوا أن حيوان العرسة (ابن عرس) بدأ في الانتشار بأعداد كبيرة في القاهرة منذ أربعينيات القرن التاسع عشر. والعرسة حيوان مختلف تماما عن الفأر، فهي من الثدييات التي تتغذى علی اللحوم بالدرجة الأولى، وهي صياد شرس وسريع ورشيق. في الواقع، تعد العرسة العدو البيولوجي الأهم للفئران وهي تصطادهم بسهولة، كما تتغذی أيضا علی الطيور والأرانب وغيرها من الحيوانات الصغيرة. من شراستها، اشتهرت العرسة في الأرياف بأنها “خناقة الكتاكيت” حيث أن لها قدرة فائقة علی قتل الطيور الصغيرة، ولذلك يكرها مربي الدواجن في مصر ويعتبروها من الآفات. هذا بالطبع غير القصص والأساطير الشعبية الأخری المحيطة بالعرسة، حيث يقولون إنها تحب الذهب، أو إن دفنها تحت عتبة البيت يجلب الرزق.
يستنتج الوكيل أن تاريخ انتشار العرسة في القاهرة يرجع إلی النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعتمد علی أن العرسة غير موجودة في كتاب “وصف مصر” الذي ألفه علماء الحملة الفرنسية (1798) والذي وصف الحيوانات المصرية بدقة كبيرة. الاستنتاج الآخر هو أن انتشار العرس ليس مجرد ظاهرة طبيعية ولكنه بفعل فاعل. هنا يعتمد الوكيل علی كتاب “علم الحيوان في مصر” (1902)، الذي وصف العرسة وقدم بعض الملاحظات التاريخية عنها استنادا إلی ما كتبه الرحالة الألماني وعالم التاريخ الطبيعي إدوارد روبل (1794-1884). كان روبل في طريقه أن يصبح تاجرا، عندما زار سيناء عام 1817، ومن وقتها أصبح مولعا بعلم التاريخ الطبيعي، حيث رصد العديد من فصائل الحيوانات في أسفاره العديدة إلی مصر والسودان والحبشة. يقول روبل عن العرسة أنها ليست أصيلة في مصر، ولكنها “أُدخِلت” إلی مصر خصيصا في سياق مكافحة الفئران. من هنا، يجزم الوكيل أن العرسة هي سبب الاختلاف الحقيقي وأن نجاة القاهرة من الطاعون هي أحد النتائج الغير مقصودة لهذا التغير البيولوجي في حياة القاهرة، وهو التغير الذي نعيش به حتی الآن، فمن منا لم يری عرسة تجری تحت أحد السيارات أو في منور عمارة؟!
ينشر بالإتفاق مع موقع “المدق“.