هل يمنح الأرشيف قوة للنساء؟

جلسة حول الأرشيف النسوي من خلال تجربة المرأة والذاكرة

مدينة

استضافت مدينة الدكتورة هدى الصدة، في جلسة ضمن مشروع قصص مفقودة…وهي  صاحبة التجربة الملهمة المهمة، واحدى مؤسسات “المرأة والذاكرة”؛ المؤسسة التي دأبت على مدى سنوات على بناء أرشيف نسوي متكامل للمرة الأولى. وفي ظل النظر إلى أهمية الأرشيف النسوي، وسط كل أنواع الهموم الأخرى في المجتمع. فالنسوية وأرشيفها اكتشاف لطاقات هي في حقيقة الأمر ابنة المجتمع مثلما هي ابنة الحضارة الكبرى. فعبر الأرشيف نستطيع اكتشاف قوة الحكاية. واستكشاف رحلة نضال المرأة الطويلة الواسعة ذات التفاصيل المعقدة والمتناقضة أحيانًا.

1

كيف بدأت تجربة المرأة والذاكرة؟

.المرأة والذاكرة”تجربة عميقة وهادئة ولا تميل إلى الاستعراض، وفي جلسة الدكتورة هدى الصدة بدأن بالاستماع  إلى رحلتها الطويلة مع بناء أرشيف نسوي.

قالت الدكتورة هدى الصدة أن مؤسسة المرأة والذاكرة بدأت كمجموعة بحثية في عام 1995، ضمن مشروع اتخذ عنوانًا كبيرًا هو “إعادة كتابة التاريخ والثقافة العربية من وجهة نظر المرأة” وكانت المشاركات في المشروع في بدايته مجموعة من الأكاديميات المهتمات بحقوق المرأة والحركة النسوية المصرية والعربية من تخصصات مختلفة: “وقد تخلينا أن بإمكاننا البحث عن النساء في التاريخ العربي ونسلط عليهن الضوء، ونكتشف ماذا فعلن، ونسأل لماذا تم إقصاء المرأة من التاريخ.. وكلها أسئلة نسوية.. وبدأت كل باحثة فينا بالبحث في حقبة تاريخية معينة تهمها.. فهناك باحثات اهتتمن بالبحث في العصور الإسلامية وأنا ركزت على أواخر القرن التاسع عشر، كل حسب تخصصها. ونحن دائمًا في مؤسسة المرأة والذاكرة لا نبحث فيما لا نفهم فيه. بل نركز فقط على ما يهمنا وما نعرفه ويمكننا بحثه. وهذا ربما يكون عاملاً إيجابيًّا وعاملاً سلبيًّا في آن واحد. ومن آن لآخر نوسع دائرة بحثنا. لكن دائرة اهتمامنا الآن بعد نحو 25 عامًا منذ بداية التجربة اختلفت كثيرًا. وصار تركيزنا الآن على إنتاج معرفة نسوية في مجال المرأة والجندر باللغة العربية. إذ نرى إلى أي مدى مهم للحركة النسوية العربية أن تكون هناك معرفة موازية داعمة لها. وهو ما يحدث ليس فقط هنا، بل هو نهج الكثير من الباحثات في العالم”. 

لم تقتصر تجربة المرأة والذاكرة على البحث في شكله الأكاديمي بل أصدرت كتبًا ودوريات وغيرها. أما بالنسبة للأرشيف، فأرشيف المؤسسة له دعائم أساسية، إذ توجد مكتبة متخصصة بالعربية والإنجليزية في معظم المواد التي تهم مجال دراسات المرأة والجندر. خصوصًا وسط صعوبة تداول الكتب المتخصصة في البلدان العربية، وهو ما تحسن قليلاً في السنوات الأخيرة. لكن حين بدأت المؤسسة عملها كان من الصعب متابعة أعمال المؤسسات الشبيهة في البلاد العربية، وماذا تنتج “توجد معرفة مهمة جدًا في 35 سنة الأخيرة في مجال الجندر والمرأة باللغة العربية، لكنها للأسف ليست متداولة بالشكل الكافي، لذلك قررنا أن نؤسس مكتبة نحاول فيها جمع الكتب وأوراق المؤتمرات والدراسات المهمة، وما يسمى باللغة الإنجليزية الكتب محدودة التداول، وبالفعل لدينا حاليًا مكتبة فيها 5 آلاف كتاب للمهتمين.. وطبعًا نسعى لزيادتها وطموحنا لا يقف عند هذا الحد.. لكن طموحنا أكبر من إمكاناتنا.. في البداية عملنا على تجميع أرشيف من صحف ومجلات قديمة وغير موجودة بسهولة، وبدأنا في ارتياد سور الأزبكية بمساعدة أحد الأصدقاء.. وصرنا نشتري ونجمع على قدر طاقتنا… حتى وصلنا إلى مرحلة لم نعد قادرين فيها على الشراء، خصوصًا بعد أن صارت الأعداد الكاملة لبعض المجلات تباع لجامعات خارج مصر بمبالغ طائلة… لكني مثلاً وأنا في أمريكا نجحت في تصوير مجلة الفتاة عن طريق المسح الضوئي “الاسكانر” بمعرفة المسؤول في المكتبة وقتها، وهي أول مجلة نسائية في العالم العربي سنة 29، من مكتبة جامعة ييل.. ولم تكن موجودة في دار الكتب.. وقد سمحت لنا المكتبة بالتصوير بشكل رسمي، وطبعناها هنا كي تكون متوفرة.. وفي المقابل تضيع أشياء وتفقد ولا يتمكن أحد من حفظها.. لكننا لا نتوقف وكل ما نجده نحاول الحصول عليه وشرائه.. لدينا كذلك أوراق شخصية لنساء مصريات، على سبيل المثال الأستاذة وداد متري كانت صديقة للمرأة والذاكرة وقد أهدتنا مكتبتها وهي متاحة على الإنترنت، آنذاك كان لدينا موارد واستطعنا أن نرقمن مكتبتها، وهي تحتوي على أوراقها الشخصية كلها.. لدينا أوراق شخصية لمجموعة كبيرة من النساء ونسعى لرقمنتها، لدينا أوراق جنيفييف سيداروس منحها لنا ابنها، ولدينا ملف جيد عن هند رستم بعد الاتصال بعائلتها، لكن ليس لدينا بعد الموارد لرقمنتها وإتاحتها.. أما أرشيف التاريخ الشفوي النسوي فقد بدأنا العمل فيه سنة 1998، وهو من أهم الوسائل للحفاظ على حكايات النساء التي تم إخصائها وإخصاء أصواتهن، والنسويات مهتمات بشكل عام بالتركيز على التجربة والتركيز على تفاصيل الحياة وشذرات التاريخ.. وكل هذا يساعد على سد فجوات التاريخ الرسمي بل يضيف إضافات مهمة له، وربما يساعد على إعادة كتابة التاريخ الرسمي وفهمه بطريقة مختلفة..

2

التاريخ الشفوي


لذلك ركزت المؤسسة اهتمامها على التاريخ الشفوي “أسسنا أول مشروع كبير للتاريخ الشفوي، فبحثنا عن النساء فيما فوق سن 75، وكنا نبحث تحديدًا عن أوائل خريجات جامعة القاهرة من النساء اللائي عملن في فترة الثلاثينيات والأربعينيات.. وبصعوبة وجدنا بعضهن والتقيناهن من خلال المعارف الشخصية، بعد أن ذهبنا وبحثنا في سجلات الخريجات في جامعة القاهرة، وبعد بعض المجهود البحثي عملنا نحو 100 مقابلة.. وهي مجموعة أعتز بها كثيرًا، وأنا شخصيًّا قابلت كوكب حفني ناصف شقيقة ملك حفني ناصف سنة 98، وقد توفيت سنة 99، وكوب حفني هي أول امرأة مصرية تحصل على منحة لدراسة مهنة الطب في إنجلترا، وقد سافرت سنة 22 وعادت مارست الطب لمدة 30 سنة، وتدرجت في الوظائف حتى صارت مديرة مستشفى كتشنر، وهو مستشفى كبير للولادة.. وحكت لنا قصص رائعة، وكانت مسنة للغاية آنذاك، ومع ذلك كانت ذاكرتها القديمة حديدية، مع أنها لا تذكر ماذا أكلت أمس.. لكنها حكت تفاصيل قديمة بوضوح شديد، وكانت مقابلة في غاية الجمال، ومشجعة، وفيها الكثير من التفاصيل عن التاريخ الاجتماعي المصري.. بالإضافة لبعض التفاصيل التي تجعلنا نعيد النظر في الفرضيات السائدة.. وكنا نطمح أن ننشر كل ما لدينا عنها على الإنترنت، وقد اطلعت عليه مؤرخة شهيرة اسمها بيث بارن في أثناء إعدادها دراسة عن تاريخ الطب في مصر، وقد أفادتها كثيرًا في بحثها. ومثلما حدث في لقائي مع كوكب حفني ناصف، حدث في لقائي مع إحدى النساء التي عملت طبيبة في الثلاثينيات، وقد وجدت أنها لم تواجه أي تحديات أو معوقات من أسرتها أو من زوجها وأسرته لاحقًا، مع أني أنا من جيل كان دائمًا يواجه بجمل من قبيل: سايبة بيتك وولادك وبتشتغلي! الغريب أن هذه السيدة التي لم تواجه عوائق من الأسرة واجهت عوائق ومضايقات من الإنجليز” وهو ما يثبت أن التفكير المكون للشخصية المصرية مستمد من عصور الاحتلال الإنجليزي، على عكس السردية المعتادة. وهو ما وافقت عليه هدى الصدة وزادت بأن سردًا طرفًا من تاريخ الممرضات في إنجلترا، الذي يفرض أن تمنع الممرضة من أداء عملها حال حملها،ما ترتب عليه معارك عديدة بين الممرضات والمستشفيات، الشيء نفسه الذي حدث في مصر للطيران التي كانت تمنع عمل المضيفات في حال الزواج، وهو تقليد إنجليزي”.
أما عن إتاحة كل الأرشيف الموجود لدى مؤسسة المرأة والذاكرة على الإنترنت، فقد ذكرت أن الموافقات والتراخيص زمان؛ في التسعينيات، لم تكن بنفس الصعوبة التي هي عليها الآن، إذ زادت التفاصيل والقوانين والموافقات، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى متعلقة بموافقة الجامعات في الخارج.. تعمل المؤسسة مثلاً على مشروع لتوثيق حكايات سينمائيات مصريات وكان من المفترض أن يظهر للنور قريبًا، لكن للأسف تعثر قليلاً، بسبب التضييق العام على الجمعيات، مما يدفعنا للتنويع في طرح المادة التي لدينا، ما يدفعنا أحيانًا لاختصار مقابلات كاملة في فيديو قصير ومختصر، للمتلقي الذي لا يهتم بالاطلاع على الفيديو كاملاً.



3

وماذا سنجد في الأرشيف الرسمي؟

في معرض إجابتها عن سؤال هل تصنع الدولة أرشيفًا نسويًّا تفخر فيه بتحريرها للمرأة، وبوزيراتها، وبأسماء الرائدات التي تطلقها على المدارس مثل ملك حفني ناصف وأسماء فهمي دون أن يحتوي منهج الدراسة عن أي معلومات عنهن، أو إطلاق اسم المذيعة صفاء حجازي على محطة مترو، كأنها بروش تجمل به وجهها. نفت هدى الصدة قدرة الدولة على تكوين أرشيف نسوي، فأرشيف الدولة هو سردية مهيمنة مستقرة نسعى في كل ما نفعله إلى مواجهتها، لأننا نريد صنع أرشيف بديل لهذه السردية، خصوصًا وأن سؤال السلطة يقع في صلب الأرشيف النسوي. بمعنى أن الأسئلة تبقى معنية بأسئلة السلطة: “فالأرشيف مكان لممارسة السلطة أو أداة للسلطة. لكننا نحن في أرشيفنا يمكننا الحكي عن أي امرأة، لا نركز على نوعية معينة من النساء ونتجاهل الأخرى، سعيًا للهدف النهائي، خصوصًا وأن الأرشيف ليس محايدًا، وليس مكانًا تحفظ فيه الوثائق بشكل محايد، وبالتالي فهو يمثل ذاكرة جمعية بمعنى ما. أو مقاومتها، لكنه ليس محايدًا ولا نسعى إلى الحياد، ما نفعله أن ننتج سرديات مركبة تطرح أسئلة”.

4

هل الأرشيف النسوي عن النساء فقط؟

لكن هل الأرشيف النسوي عن النساء فقط، المفاجأة أن الأرشيف النسوي ليس عن النساء فقط، بل هو عن حكايات النساء والرجال، أو أعمال النساء “إذ نتجاوز ثنائية المجال العام والخاص، فنتناول أساليب الطبخ والحياة اليومية والصراعات السياسية، وكل ما له علاقة بالحياة عمومًا، لكن في مرحلة انتقالية ما نركز على النساء، وفكرة التمييز الإيجابي هذه جدلية لا شك ربما لتعويض سنوات طويلة من الإقصاء. لكن التركيز على النساء لا يعني إقصاء الرجال، لكن معناه ببساطة منح الأولوية للنساء، لأنهن لسن موجودات في الأرشيفات العامة بشكل حقيقي. وتتمنى هدى الصدة أن نصل إلى اليوم الذي لا نضطر إلى فعل ذلك، وأن نتمكن من يومًا من طرح سؤال الجندر”. 

قبل المرأة والذاكرة لم تكن في مصر أرشيفات نسوية، فلم يكن هناك وعي لفكرة وجود أرشيف نسوي معبر عن اختيارات، وهو ما أرست له المؤسسة التي بدأت بالتركيز على المعرفة، وتطور الأمر للوصول إلى الاهتمام بالحكايات النسوية، ليس في معرض صنع أمجاد وبطولات وهمية للمرأة في ظل المجتمع الذكوري، وانتقلنا من مرحلة سد فجوات التاريخ، وبدلاً من البحث عن البطولات نبحث كذلك عن التناقضات وكيف حلت وفككت، وأنتجت تراكمًا صار في إمكاننا البناء عليه، وهو ما أضافت عليه تفسيرًا لكلمة المعرفة، خصوصًا في تعريف معنى النسوية، وهل هي نظرية أو توجه أو مقاربة، وهي ما تختلف بالطبع عن شهادة النسوية التي كانت موجودة في مصر، وهي شهادة كان يمنحها المعهد النسوي للفتيات، في فنون الطبخ وأعمال المنزل، وهو مفهوم يختلف عما نستخدمه حاليًا “توجد الكثير من النسويات، الاشتراكية والليبرالية والإسلامية، والنسوية هي نظرية معرفية بالأساس تسأل أسئلة مبدئية، فرضها دخول النساء إلى المشهد وبدأن يطرحن أسئلتهن الخاصة، فوجب أن يكون هناك إعادة نظر في فكرة المعرفة.. حتى لو تناولنا أسئلة عن حياة النساء داخل المنزل، أو حتى عن الطبخ كمؤشر للسياسة في العالم، وهو ما كان يعتبر عديم الأهمية في السردية الكبرى، لكن النسوية أعادته إلى المشهد، باعتباره معرفة جديرة بالاهتمام. هذا بالإضافة إلى أن النساء يطرحن كل ما لا نستطيع معرفته والوصول إليه عن طريق الرجال وهي نقطة بالغة الأهمية”.

5

أرشيف شهرزاد 

لكن دور المرأة، أو مكانها في الخلفية بينما السلطة المعرفية الذكورية تختار لها وتحكي لها حكايات شهرزاد، على اعتبارها حكايات نسوية، هي فكرة ذكورية تمامًا تصف العالم من وجهة النظر الرجالية. لهذا على المرأة أن تحدد دورها وموقعها في المشهد، خصوصًا وأنها لا تسعى لإثبات فكرة ما، بل تسعى لتفكيك المشهد المهيمن، المعطل عن التفكير، ولإعادة النظر وطرح أسئلة من قبيل ماذا نفعل هنا الآن، يقدم الأرشيف سردية مختلفة انطلاقًا من تفكيك السردية القديمة، اعتمادًا على قوة الحكايات التي تكسر فكرة الجنس الناعم، وهذا ما يقودنا إلى السؤال عنوان الندوة، وهو: هل يمنح الأرشيف قوة للنساء؟
وهو ما وافقت عليه لكن كيف “صرت مهتمة حاليًا بفكرة الحكاية كمنهجية في البحث، خصوصًا في ظل وجود حكايات مهمة للغاية لا أدري لماذا لم ننتبه إليها قبل ذلك، فالحكاية تستطيع الإجابة على على الكثير من الأسئلة، وتفتح مجالات متعددة، وهو ما يفرضه عليَّ عملي الأصلي بالنقد الأدبي، وإن كنت لا أمارسه، وهي فكرة جعل المألوف مألوفًا، أو كيف يقول الأدب الجيد الحكاية بطريقة تجعلنا نرى ما هو أمامنا طول الوقت ولم نراه من قبل.. أحيانًا نلتقي بنساء يحكين حكايات بطريقة عادية، غير مدركان أنهن يحكين أشياء خارقة، أو لافتة للانتباه، تجبرنا على إعادة النظر في فرضيات تعاملنا مع باعتبارها مستقرة”.

ولأن المعرفة المهيمنة التي نصدرها تعيد تشكيل الوعي، وتخلق وعيًا مزيفًا، مثلما حدث في سلسلة الذكورة الجريحة التي كتبها وائل عبد الفتاح، وفيها كل الذكور جرحى لأنها فاشلة عن تلبية الصورة المهيمنة للذكورة.. الرجل يفعل هكذا ولا يفعل هكذا، أو الرجل تربية أمه… إلخ. الرواية المهيمنة تريدك أن تعيش في مساحة مزيفة، وتصنع مسافة كذلك بين التدنيس والتقديس، لكن قوة أرشيف النساء يحمل قوة تراكمية يلزمها الوقت، لا قوة مفاجئة.
تهتم مؤسسة المرأة والذاكرة بالنقابيات مثل النقابية الرائدة عايدة فهمي، ونقابيات أخريات كان لهن دور في بداية الألفية، ومنهن نقابية في المحلة خاضت في 2008، و2009 دورًا كبيرًا مع عمال المحلة فيما قبل ثورة 2011.. لكن السؤال هنا بخصوص الريادة يكسر فكرة أول من فعل كذا أو كذا.. والأرشيف يكسر فكرة المجتمع يبدأ من الصفر.. وهو ما رأته منسحبًا على فترات تاريخية مختلفة: “أود هنا الحديث عن عمل زميلاتي في التاريخ الشفوي.. سواء في الحاضر أو مثل زميلتي أميمة أبو بكر التي تعمل على فترة العصور الإسلامية الأولى وهو ما لا يعتمد على التاريخ الشفوي، ففي المشروعات التي تعمل على الفترات التاريخية توجد طريقتان للبحث وهي الوثائق أو التاريخ الشفوي، وفي تلك الفترة اكتشفنا وجود مدرسات وفقيهات وطبيبات وهو عكس السردية السائدة التي تقول بأن أول طبيبة وجدت في العصر الحديث، وهذا ما يكسر فكرة الحداثة ويفككها”.
مثلما يحدث مع استبعاد ما قبل محمد علي، واعتبار عهده بداية الحداثة التي ليس قبلها شيء “هذه مشكلة كبرى، فكسر ثنائية الحداثة والأصالة مهم للغاية، خصوصًا وأننا أحيانًا نجد مقاومة للمعارف الجديدة، فلا يصدق الناس أن أول طبيبة لم تكن في القرن الحادي والعشرين.. ومن هنا تأتي أهمية البحث والأدلة، وهو دور آخر من أدوار الأرشيف المفترضة، وهو مقاومة قوة السردية.. وإعادة كتابة التاريخ، بشكل كامل عبر تجميع حكايات مختلفة من هنا وهناك.. وأن يفهم الشباب أن النساء قديمًا وعلى مر العصور كانت لديهن أدوار أخرى غير الزواج والإنجاب، وهو ما يكسر الرول مودل التقليدي، وهو ما حدث مثلاً حين قررنا في 98 عمل مؤتمر عن ملك حفني ناصف، وهي إحدى السيدات المهمات في التاريخ المصري، اللاتي أرى أنهن ظلمن ظلمًا بينًا، وقتها كنا منطلقين من هدف بسيط للغاية وهو تسليط الضوء عليها وإعادة اكتشافها، وطبعنا كتابها “النسائيات” وقد نشر قديمًا وكان الجيل القديم مطلعًا عليه وكانت ملك قديمًا تذكر في المدارس والمناهج ثم اختفت سيرتها تمامًا، ثم ظهرت مجددًا حين أقمنا المؤتمر عنها، لا أريد أن أقع في فخ المبالغة، لكن وقت المؤتمر لم تكن الناس تعرف من هي، وحتى بعض الزملاء أكاديميين كانوا يقولون “حفني ناصف نعم رجل مهم!”. وأعتقد أن من أسباب سقوط ذكرها من التاريخ أنها كانت تقول كلامًا مختلفًَا تمامًا، وأذكر لها مقالة مهمة بعنوان “الملابس”، تنتقد فيه الملابس الإفرنجية غير المريحة لمجرد أنها حديثة، وتنقد مثلا الكورسيه الفيكتوري الضيق في مقال الملابس الشرقية المريحة، التي وفقًا لكلامها تدخل الهواء.. وهو كلام رددته النسويات لاحقًا في السبعينيات، كذلك اتهمت بأنها ذات توجه محافظ وعارضت دعوة قاسم أمين لنزع الحجاب، لكنها في الحقيقة لم تقل ذلك بل قالت “نريد أن نتعلم ثم نقرر”.. لم تكن امرأة أصولية بل عارضت أن يكون نزع الحجاب بقرار من الرجال، بل ينبغي أن يكون قرار المرأة نفسها لا قرارًا ذكوريًّا فوقيًّا.. وعارضت تعدد الزوجات. ومن الكتب المهمة عن تاريخ تلك الفترة كتاب ليلى أحمد الذي ترجم في المشروع القومي للترجمة [المرأة والجنوسة، وليلى أحمد كاتبة وباحثة مصرية أمريكية (1940-) أستاذة الدراسات النسوية الدينية في جامعة هارفارد، ولها العديد من الكتابات في مجال العلوم الإسلامية والدراسات النسوية] في ذلك الكتاب تميل ليلى أحمد تلك الثنائيات؛ هدى شعراوي مقابل ملك، درية شفيق مقابل زينب الغزالي.. وهي ثنائيات ليست حقيقية على الإطلاق وظالمة، وقد حاولت الخروج من تلك الثنائيات بلا جدوى، وهو ما أخرجها من السردية السائدة”.
لكن كيف حاولت رحلة “المرأة والذاكرة” تجاوز هذه الثنائيات، وهل كان قرارًا، أم اكتشافًا أم وعيًا.. وهو ما وجدته سؤالاً مهمًا وصعبًا “حين بدأنا، زميلتي ورفيقة دفعتي أميمة أبو بكر محجبة، وكنا مجموعة متنوعة، لكننا متفقون على المبادئ النسوية الأساسية، وفي أواخر التسعينيات انتشرت فكرة في الحركة النسوية المصرية مفادها ألا نشتبك مع التراث الإسلامي لأنه سيجرنا إلى مشكلات ونقاشات نحن في غنى عنها، وهو حقيقي، لكن هذه الفكرة انتهت الآن، لذلك كان ينظر إلينا وقتها بغرابة على اعتبار أننا مختلفون عن النسوية التي تهاجم التراث، على خلاف باحثات مهمات أيضًا مثل فاطمة المرنيسي التي أعتبرها واحدة من مؤسسات النسوية الإسلامية.. برجوعها لكتب التراث والصحابة الذين رووا كل الروايات التاريخية…”.

لكن إشكالية مهمة تطرح تساؤلاً بخصوص محرر المرأة الحقيقي، وهل هو قاسم أمين أم غيره، فمثلاً لويس عوض يرى أن محرر المرأة الحقيقي هو رفاعة الطهطاوي، وهناك من يقترح اسم حمزة فتح الله السابق على قاسم أمين بعشر سنوات.. وله كتاب صدر في 1890 فكك فيه الروايات الإسلامية وأعطى للمرأة بعض الحقوق من خلال الإسلام نفسه، لا بالمفهوم الحديث.. حتى من أرادوا الدفاع عن قاسم أمين اتهموه بأنه لا يجيد العربية، وأن من وضع كتاب “تحرير المرأة” هو محمد عبده، فكيف تتعامل “المرأة والذاكرة” مع كل هذه الروايات المشتتة..

ترى هدى الصدة أن نسبة تحرير المرأة لرجل فكرة منتشرة وانتشارها مرعب “صحيح هي سردية مهيمنة لكنها ليست صحيحة، فمنذ 1886 نجد عددًا كبيرًا جدًا من النساء يكتبن في الصحف، ويشبكن ويقلن كلامًا لا نستطيع قوله اليوم.. أذكر نقاشًا حيويًّا للغاية في مجلة الهلال، بين شبلي شميل [رئيس تحرير الهلال] وبين مجموعة من الكاتبات، معظمهن سوريات، وخلاصة النقاش أن شميل كان يدعو النساء المطالبات بالحريات والحقوق بالتواضع لأنه وفقًا للمنطق الدارويني والتراتبية التي تقول بتفوق الرجل وعقله وذكائه، فلن يتمكن من فعل كل شيء، وستتغلب الطبيعة عليهن لا محالة.. وهي عنصرية علمية تجاوزناها بمراحل… وهذا قبل قاسم أمين، لكن يمكن القول إن قاسم أمين صنع زلزالاً، مثلما فعل إدوارد سعيد بكتابه “الاستشراق”، وهو ما لم يكن جديدًا على الإطلاق، لكن التأثير هو ما صنع الفارق، لقد كانت الأرضية الفكرية موجودة بالفعل وكانت النساء موجودات ومشاركات بقوة، لذلك يصعب عليَّ القبول بمقولة إن قاسم أمين أو غيره هو محرر المرأة”.

بالعودة إلى للتاريخ الشفوي، كيف كانت المؤسسة تختار النساء؟ هل باختيار رائدات في مجال معين؟ وكيف يمكن رواية التاريخ الاجتماعي عبر حكايات هذه النساء بعيدًا عن فكرة الاستثناء.. “في البداية حددنا الفئة العمرية؛ فوق عمر 75، ولم نجر أي استثناء، واخترنا نساء كانوا من أصحاب المهن بالشكل الرسمي.. مثل التدريس، فالتقينا الكثير من المدرسات والناظرات، ونقابيات في المجال العام أو في الجمعيات الأهلية، كان العدد كبيرًا، وكان هذا أول مشروع، وكنا نبحث في فئة عمرية كبيرة، بالتأكيد توجد فجوات فيما حققناه، لكننا حاولنا البحث عن نساء ليس فقط في القاهرة- أغلبهن كن في القاهرة أو الإسكندرية- لكن أحيانًا كنا نخرج عن هذا النطاق، ولم يكن يعينيا أن تكن استثنائيات أو مشهورات، بل كنا نبحث عن نساء لسن شهيرات، واستخدمنا سجل جامعة القاهرة مثلما ذكرت.. وطبعا التاريخ الشفوي حكاية كبيرة، ولا نستطيع أن نقول إن ما فعلناه هو تاريخ شفوي مصري، لكننا كنا نعمل في حدود إمكاناتنا.. في 2014 كان لدينا مشروع آخر، فيه تنوع أكثر، على الأقل على مستوى المحافظات، كنا نبحث عن نساء ألهمتهن الثورة واشتبكن فيها بشكل ما، وهنا كانت أمامنا العديد من النتائج، وكنا نختار ولم نكن مضطرين لتقييد اختياراتنا”. 

6

صراع السرديات

قبل المرأة والذاكرة كان هناك مشروع لجمعية هدى شعراوي، لجمع أرشيف هدى شعراوي ومخطوطاتها ومكتبتها، وكانت توجد دعوة للنساء للتبرع بمكتباتهن، هذا أيام جيهان السادات، فماذا حل بذاك المشروع؟
“لا أدري إلام وصل.. لكن جمعية هدى شعراوي لا تزال موجودة، ولديهم وثائق مهمة، وأعداد كاملة من مجلة “لإيجبسيان” [المجلة التي كانت يصدرها الاتحاد النسائي المصري برئاسة هدى شعراوي]”.

تطرق الحوار للقوانين الفوقية التي نسبت إلى جيهان السادات مثل قانون الأحوال الشخصية “الشقة من حق الزوجة”، أو قوانين إلغاء النشوز أو “بيت الطاعة” التي أو قانون إخطار الزوجة الأولى بالزواج الثاني، وغيرها من القوانين التي نسبت لسوزان مبارك، ومنها قانون حظر الختان، وهي كلها مكتسبات حقيقية، لكنه حتى مع حظر الختان فلم يع المجتمع خطورة هذا الإجراء المخيف على جسد الفتيات، وظل الختان يمارس إما سرًّا أو علنًا في بعض المناطق “هذا سلو بلدنا.. لا يوجد قانون غير فوقي.. كل القوانين فوقية.. لكن الحقيقة أنه يوجد من يعملون ويبذلون جهدًا ويطرحون أفكارًا ثم تأتي الدولة وتعلن أنها فعلت ذلك بنفسها.. وهذا غير حقيقي.. كل ما تم إنجازه أيام سوزان مبارك، وكل القوانين التي وافق عليها البرلمان كانت مهمة، لكنه نتيجة عمل وضغط مجموعات كبيرة جدًا من النساء.. ومع أنه مكسب، وقوانين مهمة، فمن المهم معرفة أنه تم وأنجز نتيجة تعب ومعارك ودراسات”.

هذه لعبة السلطة التقليدية، في تبديل الأدوار، والمنح والمنع، ورغبة السلطة أحيانًا في تجميل صورتها لأسباب لا علاقة لها برغبة حقيقية في تعديل وعي الناس أو إصلاح الواقع الاجتماعي.. الدولة مثلاً لا تكترث لمشكلات قانون الرؤية ومعاناة بعض الرجال من الطريقة التي عليهم أن يقابلوا أبناءهم بها، لذلك فهي تعيد بناء الواقع من خلال القانون “القانون قادر على التعجيل بحركة التغيير وتشكيل الوعي.. وبالطبع توجد قوانين منفصلة عن الواقع، لكنها تظل القافلة التي تدفع المجتمع للأمام.. أنا أحب القوانين وأشعر أنها مهمة”.

لكن هل تستوجب فكرة البناء المعرفي لتلقيب أو تفكيك السردية التاريخية السلطوية عن الماضي إقصاء السردية القديمة بالكامل، وإحلال سردية جديدة، وما معايير التفكيك أو إعادة البناء.. هل يوجد خط طولي أو نية مسبقة في بناء سردية محددة؟ “هذا سؤال معناه كيف نعمل، أقدر أقول الحمد لله أننا مجموعة متفاهمة جدًا، وعلى الرغم من اختلافاتنا فإننا نحترم الاختلافات.. خصوصًا وأننا لا نشبه بعضنا بعضًا ولسنا نسخًا من بعض.. ونميل في حالات الاختلاف والقرارات المصيرية إلى التوافق مع احترام قرار الرافض.. وحتى في القرارات المصيرية وهي كلمة كبيرة، لو واجهنا مسألة في التاريخ أو في موضوع حساس بزيادة، له علاقة بالتابوهات الشهيرة، ورأى أحدنا أن ذلك سيتسبب في مشكلة ببساطة نتوافق على تجنبه.. التوافق منهج نسبي، وله مميزات وعيوب.. لكننا لا نحوله لقيد على رقابنا، لكن لا خلاف على أنه له عيوب أحيانًا”.

يتعاون مع مؤسسة المرأة والذاكرة القليل من الباحثين الرجال، لكن الغلبة للباحثات النساء، وهو ما تراه هدى الصدة منطقيًّا للغاية، ولا تهتم لفكرة التوازن الجندري، لأن الباحثين المهتمين أصلاً قليلي العدد، ولأن أي نشاط آخر يغلب عليه الرجال دون ضغينة!

وتعترف كذلك أن الحصول على مكاسب أو قوانين مرضية للمرأة في ظل السقوف الواطئة التي تتعامل معها في المجتمع ليست مسألة سهلة، لكنهم في النهاية مؤسسة بحثية، وهو ما يمنحها بعض البراح الذي يمنعه التورط في السياسة التي تمتع بجانب أكبر من التحقيق أو الإنجاز العملي، لكنهن على الأقل معفيات من الاضطرار إلى حضور جلسات البرلمان والتفاوض على مكاسب، وهو ما يفرق بين البحث والعمل الناشطي.. إذ يعتبرن أنفسهن ناشطات عبر أبحاثهن ودراساتهن. لكن هل تخلت المؤسسة عن العنوان الكبير الذي بدأت به وهو “إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المرأة”؟
لا.. أشعر أننا بذلنا مجهودًا كبيرًا في سبيل تحقيق هذا العنوان، صحيح أنه يبدو مبالغًا فيه بعض الشيء، لكن حين بدأنا لم يكن مفهوم الجندر قد تبلور مثلما هو الآن، في 94 [أيام المؤتمر العالمي للمرأة] لم تكن الناس في تعرف معنى كلمة جندر، وهوجم المؤتمر هجومًا غير طبيعي بسبب المصطلح.. بعدها بعام أصبح معروفًا بعض الشيء.. نحن كمجموعة تعمل في مجال النقد الأدبي وقسم اللغة الإنجليزية عامة من الأماكن المهتمة بالدراسات النسوية، لهذا كنا نتعامل مع المصطلح من خلال أبحاثنا منذ بداية التسعينيات.. وشيئًا فشيئًا تبلور المصطلح، لكنه استغرق نحو عشرين عامًا لنتفق على تعريف واحد له، ولم نتفق تمامًا خصوصًا في ظل تعليقات بأنها كلمة ثقيلة وأجنبية ودخيلة.. إلخ. وعنوان “إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المرأة” هو نوع من التعريفات الجيدة لعدسة الجندر.. ولو أننا نبدأ مشروعنا الآن لقلنا إننا نريد أن نصنع أرشيفًا جندريًّا”.
لكن حتى الأرشيف الجندري يلزمه بعض الرقابة الذاتية التي تضطر الباحثات إليها أحيانًا، وفقًا للسياق الاجتماعي، إذ يقابلن ما لا ينبغي حكيه في المجال العام، لأن في إمكانه أن يضطر السيدة التي تحكي، أو أشخاصًا آخرين.. وهو ما لا تعتبره رقابة داخلية بل قرارات سياسية.. لكنها لا ترى في ذلك ممارسة لدور السلطة التقليدي التي تمنع وتراقب، بل ترى فيه نوعًا من الواقعية التي تفرض الحذر من التابوهات. لأن المؤسسة عندها مسؤولية معنوية تجاه النساء اللاتي يحكين تجاربهن وأسرارهن، وأحيانًا يكون في حكاياتهن ألفاظًا يعاقب عليها القانون، فكيف يمكن نشرها؟! فالباحث يعمل وفقًا لمنظومة مختلفة تمامًا عن بقية المؤسسات الرسمية سواء الحكومية أو الدينية، وفي النهاية الأرشيف وسيط ليس محايدًا تمامًا. ومحاذير المجتمع لا تزال ذات سلطة كبيرة. وهو ما حدث عندما تبنى المؤرخ خالد فهمي مشروعًا مع دار الكتب والوثائق في تسجيل أحداث الثورة 2011، فكانت النتيجة أن الجهات الأمنية اعتقلت بعض أفراد الألتراس الذي حكوا ما حدث معهم. كما سحبوا الأرشيف من دار الكتب، وهي مؤسسة رسمية، وأعدموه، وربما لم يعدم ونقل إلى مكان مجهول!
وهذا يوصلنا إلى سؤال هل للأرشيف أخلاقيات “ للأرشيف أخلاقيات.. لدي مسؤولية أخلاقية تجاه الأرشيف الذي أخشى أن يفقد.. وتجاه المتكلمين الذين يبوحون بأسرار، فحتى عملية الحجب، التي لا نحبها، تصبح في النهاية عملية أخلاقية لحماية الشخصية”.

7

هل هناك أرشيف بديل؟

لا شك أن الأرشيف يساعد هو الآخر على إدراك السياقات الاجتماعية؛ يعني على سبيل المثال فيلم” النبي محمد” الذي كان من المفترض إنتاجه سنة 26، عرفنا حين تغيرت سياقات المعرفة، بعد عثورنا على أعداد من مجلة المسرح لذات السنة، أن الصور المنشورة ليوسف وهبي من الفيلم كانت سيشن تصوير سابق للفيلم، الذي منع تصويره أصلاً، وهددته وزارة الداخلية بإسقاط الجنسية عنه، وبالمنع من السفر للخارج، وهاجمته الصحف.. أما حاليًا مع انتهاء عصر السرديات الكبرى، هل تعمل المؤسسة وفقًا لخطة محكمة هدفها صنع سردية ما بديلة، حتى لو أن مصيرها التفكك فيما بعد “منهج النسوية معني بصناعة السردية البديلة، عبر تفكيك والاشتباك مع السردية المهيمنة، لكن هل هي قادرة على أن تكون سائدة ذلك أتمنى.. لكن المؤكد أنه حاليًا يوجد صراع كبير على السردية، فلم تعد هناك سردية مهيمنة بالمعنى التقليدي، خصوصًا بعد التغييرات التي حدثت للأرشيفات، بعد الثورة التكنولوجية التي أتاحت بناء أرشيفات كثيرة جدا بديلة، وأتاحتها للدنيا.. كان الأرشيف ما قبل الثورة التكنولوجية موضوعًا صعبًا جدًا.. لكن حاليًا أي شخصين يمكنهما عمل أرشيف ممتاز ومهم”.

السردية المهيمنة تحتاج إلى سلطة وموارد، وليست مسألة سهلة، والتحفظات على فكرة الأرشيف البديل لها وجاهتها؛ ففكرة البديل هي إعادة إنتاج أصحابها، فلا يوجد أرشيف نهائي، أو حكاية نهائية، وبعد سنوات طويلة يمكننا أن نكتشف عناصر مجهولة مهجورة تعيد كتابة وإنتاج التاريخ، والأرشيف البديل يهدف إلى الهيمنة وهنا لا بد أن نعي أن كتابة التاريخ هي عملية ديناميكية مستمرة..
“حسب التعريف، الأرشيف البديل أرشيف مقاوم، ولو تحدثنا عن تخصص التاريخ الشفوي بالذات سنجد أنه مقاوم بطبعه هو الآخر.. صحيح أنه كتخصص أكاديمي نشأ وترعرع واشتد عوده في المجموعات المهمشة والسود في أمريكا، لكن النساء طبعا استفدن بشكل مهم جدًا منه.. المشكلة الوحيدة مع كلمة البديل تظهر حين تقدم نفسها باعتبارها سردية نهائية، فلا توجد سردية نهائية، وإلا توقفنا عن الكتابة والبحث وكل شيء! وأذكر على سبيل المثال تاريخ الشعر الإنجليزي، لو طالعنا أنطولوجي شعرية صدرت في الستينيات أو السبعينات ستكون مختلف تمامًا عن الصادرة في 1999 أو 2000، لكن ما الفرق؟ الفرق هو حركة تحرير السود، وحركة تحرير النساء، وهي ما كشفت لنا شعراء من السود وشاعرات، من القرن ال19 وبدايات القرن 20، فضموهم للأنطولوجي، وهي نقطة مهمة فعلاً فيما يخص فكرة إعادة كتابة التاريخ، فهي في الأدب ممسوكة وواضحة ولطيفة، وبإمكاننا أن نعرضها للناس، ونفس الحكاية تحدث في الأدب العربي، فقد اكتشفنا لبيبة هاشم وزينب فواز وغيرهن لم يكن من الممكن اكتشافهن لولا الأدب والكتابة”.

لا تخشى هدى الصدة من أن تتحول السردية البديلة إلى سردية مهيمنة، حتى وإن نظر إليها غالبًا على أنها تستمد مصداقيتها وقوتها من كونها بديلة معارضة للسلطة ومقاومة، لكنها تتمنى فعلا أن تتحول إلى سردية مهيمنة بلا أي تخوفات، حتى مع تسليمها بأن النسويات يخشين السلطة..

“نسعى إليها لكن لو وصلنا إليها نشعر بمشكلة، لكن نعرف أن العلاقة بين الهامش والمركز علاقة تبادلية طول الوقت، وليس شرطًا أن يظل الهامش هامشًا إلى الأبد، كما أن السلطة متغيرة، لكن بالتأكيد لا ننكر أن الهامش يفقد سلطته المعنوية حين يتحول إلى المركز، لأنه في هذه الحال سيظهر هامش آخر تمامًا وهكذا…”.

هذه اطلالة سريعة على جلسة الأرشيف النسوي ضمن نقاشاتنا في مشروع “قصص مفقودة”…ومع اكتمال المرحلة الأولى سينشر الفيديو الكامل  للجلسة.