“كل ما يمكن للموسيقي فعله هو التقرب من مصادر الطبيعة والشعور بالتواصل مع قوانينها” – جون كولترين
كعادتي فور وصولي إلى رصيف المحطة احتجزت لانتظاري نقطة تقريبية أمام باب عربة القطار قبل الأخيرة. تقاعس معظم الركاب عن الانتشار بعيدًا عن واجهة شبابيك التذاكر، متكدسين أمام عربات المنتصف المرتقبة، كان للوقت المتاح بين وصولهم وإقلاع السائق إلى جانب إجهادهم أثر في ذلك. اكتسبت قليلًا من الهدوء والهواء المؤقتين، وحدت عن متابعة الرصيف لما يليه، أقاوم أحيانًا وغالبًا ما أخفق. القضبان، ولا نهائيتها، واستدراجها لعين المتابع لعتباتها، خطوطها المتوازية بإصرار على استحالة تقابلها، سننتهي جميعًا قبل أن يفعلا، مختبئين بظلام مدخل النفق.
كغيري، دائمًا ما شغلتني بداية الأشياء ونهايتها، الأطر، إن لم تتحدد الاشياء لا تُعرف، ما ليس داخل إطار لا يُرى، نريد قالبًا يسهل استيعابنا وإن لم يوجد خلقناه لندركها، كالزمن ونسبيته، ومحاولاتنا البائسة لتعميمه خارج محيطنا. أين هي نقطة البداية؟ أهي نقطة مغادرتي؟ أم عودتي؟ أم إحدى المحطات المركزية؟ أم آخر محطات هذا الخط؟ أم هي بخط آخر؟ كنت أتابع في طفولتي السيارات المسرعة على طرق السفر وأشعر بالتقدم كلما تجاوزنا إحداها، وبالإحباط عندما أعجز عن معرفة كم سيارة بقيت أمامنا، وترى أين تكون أول واحدة؟
استدعاني صفير منبه المحطة ولمبته الحمراء معلنا لذوي الاحتياجات الخاصة وصول القطار، قبل أن تضيء مصابيح القاطرة آفاق النفق، مقبلة بسرعة تبدو وأنها تتزايد، تسابق عيني في استحواذها على عتبات القضبان إلى أن ابتلعتها بالكامل. توقف المنبه والقطار الأزرق ثم التقطنا وسطر خط بداية للمُغادر ونهاية للقادم. توغلت حتى بقعة بين دكة جلوس وأحد الابواب المقابلة لقضبان القطار المعاكس، ثم قبضت على عمود بجانبي تحسبًا للوقوف المتكرر وحفاظًا على أرض مكتسبة.
تابع جسدي حركة العربة متجاوبًا مع الجماعة، نافذة باب العربة التالية داخل إطار نافذتنا، المقابض المعلقة دون أكف، صرير القضبان، تلاوة بقراءة حدر مسرعة مجاورة تسربت (فبأي آلاء ربكما تكذبان) كلما تأثر القارئ أو استراحت السائلة من توسلها الملحن..
“ساعدوني يا إخواني! ظروفي صعبة وابني مريض!”
“(يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن. فبأي آلاء ربكما تكذبان)”.
“والله العظيم مرتبي ما بيكفي يا إخواني! ورق حالته معايا عشان تصدقوني“.
“(فيهما عينان تجريان. فبأي آلاء ربكما تكذبان.)”.
“ساعدوني يا إخواني! ظروفي صعبة..”.
“(فبأي آلاء ربكما تكذبان)”.
.. حافظت الوجوه على متابعة بعضها متحاشية تقابلها مع السائلة في مرورها، كررت المقطع بنفس المقام من أول العربة إلى آخرها دون استجابة تذكر، إلى أن ارتفع صوت هواء المكابح وطغى على الصرير، انزلقت الأبواب فغادرت السائلة مع من غادر، لتبدل القطار أو العربة، وانتقل القارئ لـ (الواقعة).
أوصدت الأبواب بعد تحذير القريبين منها، وكحال الرصيف تكدس الأغلب قربها، حتى تجرأت بعض الاقدام على دوس دائرتي. لم تطلني من الأجساد غير بعض النغمات، تجاوزت سماعات رأس مجاور، تلاحمت مع ما وصلني من تلاوة، ثم أفسحا المجال لفقرة البائع المتجول الثانية. بعد أن وزع بضاعته على أفخاذ الجالسين بطول العربة، مرددًا: “المقصّ الصيني” وفرصة “الاتنين بعشرين“، وقف يستجدي انتباه الحضور بزعيقه الرتيب وقابلته مقاومتة الركاب للالتفات نحوه..
“بصّ معايا! لا الإيد ولا السلاح يصدوا!”
وأكد على ادعائه بنقرتين على عمود مجاور.. التفت بعض القريبين للرنين..
“تقص بيه ورق وقماش وبلاستيك!”
وأضاف نقرتين.. كشرت وجوه القريبين قبلها استعدادًا وبعدها تأثرًا..
“فرصة الاتنين بعشرين ومعاهم ضمان!”.
بدأ في لملمة ما وزعه بوجه ثابت وساعده البعض منتظرين وصوله ليناولوه بضاعته. ردد عبارته مرة أخرى بفتور حتى وصل لباب طرف العربة. ألقى نظرة أخيرة للعمق ليتأكد أن بضاعته لم تنقص ثم زاحم التكدس مقتصرًا مسافته إلى الباب ناقلاً استياءه لمن حوله. بدا لي أن فقرته لن تعرض جديد، فمسحت العربة شاردًا حتى التقطتني حركة ظل رؤوس صف جالسين على صدور الصف المقابل، ظلت حركة الخيال تخطو خطوة قصيرة، تعيدها لنقطة انطلاقها استجابة لما اخترق النوافذ من نور، وعاد للمقدمة تناغم الحدر وسماعة الرأس، إلى أن هيئنا امتداد صرير القضبان للنقطة التالية.
حُجبت الشمس بعد نزولنا الأنفاق مرةً أخرى، وبدأت الأيدي تلوِّح بما تملكه تشجيعًا لدورة الهواء. تكتل الاستعداد أمام الأبواب، انضم مصدر التلاوة بعد انتهائها، اشتركت بالتجمع فاتضح لي ما دار بالسماعات المجاورة بعد اقترابي من الرأس الحاملة. صهدت الجبهات وابتلت المقابض والأعمدة المحيطة، حاولت مروحة فوق رأسي تهدئة الأجواء دون فائدة، الطرقات شبه خالية ومقابضها رجعت تتأرجح، مرَّ قطار عكسنا وبعد تجاوزنا نبهنا صوت صريرنا الرباعي ثانيةً لملاحقة المقابض. تراتب ما سبق حتى تجاوزته مهاترة جانبية، لم يهتم بها أحد إلى أن صارت شجارًا توسطه جانب من التكتل حافظ على استمراره دون اشتباك.
نصح أحد المسنين الموشكين على النزول شابًا بالتوغل إلى الداخل إن لم يكن من النازلين، لم يستجب الشاب للنصيحة فاستفز إهماله شابًا آخر..
“أنت خاسس عليك إيه ما العربية فاضية جوا؟!”.
“يا عم وانت زعلان ليه؟! أنا عايز أقف هنا“.
“ادخل ياض ماتبقاش بارد!”.
“مش داخل يا عم مالكش فيه!”.
تدخل العجوز “أنت كده معطل اللي نازل واللي طالع، اسمع الكلام الله يصلح حالك“.
“يا حج أنا بعيد اهو.. اللي عايز يعدي هيعدي“.
رجع الشاب الآخر..”اسمع الكلام بدل ما أنزل بيك المحطة الجاية وأزعلك!”.
“وريني هاتعمل إيه“.
انقض الأخير وقبض على قميص الأول، أخذ الأول يدفع يد الأخير وسط تدافع بعض القريبين، تبعثرت الكلمات بينهم جميعًا وبرز صخبها فانطمس محتواها، راقبهما الباقي بفضول سلبي فأحيانًا تنقذ تلك الحوادث البعض من رتابة الرحلة، إلى أن انفصل الطرفان لصعوبة التوازن، واستغل الفرصة من ظهر بمظهر الصديق لمن بدأ الجدل، فسحبه محاوطًا رقبته للداخل وسط تهدئات الجمع..
“خلاص حصل خير“.
“صلوا عالنبي يا جدعان“.
تهافت طرفا المعركة بطرفي العربة، رجعت رباعية الصرير تنظم أنفاسهم، سيطرت وحدها على الجو بعد أن باعد العبث بيني وبين السماعة. استسلم الحضور لإحباط النهاية، وأكدها تباطؤ قطارنا الأزرق استعدادًا لمحطته المركزية، والأخيرة لي وللتكدس المصاحب. قابلت وجوهنا أخرى منتظرة على الرصيف أمام نقاط وقوف الأبواب، تكتلت تحسبًا لما سيقابلها، وفور الوقوف شهقت الصفوف الأولى من الجهتين وثبتت لثوان أخيرة فاصلة، أُطلقت بعدها الأبواب لضجيج الأقدام وتلاحم الأجسام، فكان انفراج ثم ضيق أو ترتيب مغاير. أغلقت الأبواب مرة اخرى بعد تحذير حاول بضعة أشخاص تعديه، تابعت عربتي تقلع أنا وأحد أطراف الصراع السابق، لكني كنت أتساءل كيف ستكون اللقطة البديلة، سيرجع ذلك لمزاج صاحب القطار ومن تابعه بعدنا، فقد تكون هذه بدايتهم. أما نحن فلنا ممرات وسلالم نتأمل خلالها عمقها وطولها، وظهور المتقدمين وخطواتهم، إلى أن نشهد نور السطح وضوضاء سكانه، ونعيد محاولة التواصل.