” نحن لا نزدرى السلطة”، ليس كلنا على الأقل، نحن فقط لا نحترم “السلطوية”، ما أعنيه بهذا أن جيلنا أو مايطلق عليه الآن “الميلنيلز” يقدرون “سلطة” المعرفة، ومهارات القيادة، ويقاومون السلطة النابعة من” Because I said so / لأننى قلت هكذا”، نريد أن نعرف لماذا تتم الأمور بهذا الشكل أو بذاك ؟ لماذا من الأفضل أن تتم هكذا ؟ لماذا يكون رأى مديرى أكثر أهمية من رأيى حتى لو كان مخطئاً ؟
المسألة فقط أننا نفكر للأمام، نريد قادة يصلون بنا جميعاً إلى مكان افضل، وليسوا سلطويون يحافظون على الوضع الراهن، سندعم فقط من لديهم رغبة وذكاء ورؤيةً، ولكننا بالتأكيد لن نتبع شخصا أو أفكارا لأنهم أخبرونا بذلك، السلطة يجب أن تملك منطق وشرح، وليس أوامر وجمل خبرية، ربما نقبل _مضطرين فى لحظات_ بعض نماذج السلطة التى نكرهها – نعم الظروف قد تجبرنا – ولكننا سنتبع فقط من يقودون؛ لا من يأمرون. لن نتوقف أبداً عن سؤال السلطة و”نغزها”. ربما يفقد بعضنا إيمانهم بالديموقراطية كـ”أداة”؛ ولكننا دائماً سنسعى لظروف أفضل، سنسكت أحياناً مضطرين، فقط لا تأمنوا صمتنا، فالمفاجآة بالتعريف ودائماً تأتى من حيث لا تحتسبون وغالباً مختلفة عن سابقتها”.
رسالة من “ميلنيال” مجهول-
1
هل تتذكرون “كوداك” ؟
لعقود كانت كوداك التى تأسست فى عام 1888 معادلاً شبه وحيد لكل ما يخص التصوير، فى أغلب سنوات القرن العشرين: كان العملاق الأمريكى لصناعة الصورة والفيلم والكاميرا، يحتكر تقريباً سوق التصوير ومعداته فى العالم، يتذكرها جيداً أجيال من قضوا مراهقتهم وشبابهم فى النصف الثانى من القرن الماضى، تتلامس ذكريات العديد منهم بها، ربما لديهم لها نوستالجيا تجاه عالم سيطرة كوداك أيضاً.
فى يناير 2012 تقدمت كوداك إلى محكمة المنطقة الجنوبية بنيويورك بملف لإشهار إفلاسها! توقفت الماكينة العملاقة عن صناعة الكاميرات الرقمية، وكاميرات الفيديو، وإطارات الصور الرقمية. كوداك بدأت فى بيع أصول وشركات وبراءات إختراع لإنقاذ نفسها من الإفلاس.
فى 16 يوليو2010: وضع كيفين سيستروم المولود 1983– بعد ما يقرب من قرن كامل من تأسيس كوداك – الصورة الأولى على تطبيق “إنستجرام” بعد أربعة شهور من حصوله على خمسمائة ألف دولار من رأسمال مغامر لتنفيذ فكرته؛ “إنست” من instant camera كاميرا فورية و “جرام” من Telegram / تلغراف، فكرة الشاب ذو السبعة وعشرين عاماَ وقتها: هى أن تصنع صورك الخاصة بطريقتك، تعدلها كما تحب، تشاركها فى لحظتها مع آخرين من تليفونك المحمول. بهذه البساطة.
فى مارس 2012 بعد أقل من عامين على الصورة الأولى – وبعد شهرين من إفلاس كوداك – بيعت “إنستجرام” الشركة التى لا يعمل بها١٣ شابا فقط إلى فيسبوك بمليار دولار، نعم ألف مليون دولار !!
فى الأغلب أن كيفن وفريقه لم تشغلهم كوداك أبداً فى أي لحظة …
2
ما الذى لم تفهمه كوداك؟ أين ذهبت “سلطتها” فى عالم التصوير؟ ما الذى تغير/ يتغير ؟
كيف استطاعت “ميلشيات” مثل داعش أن تنتزع “سلطة” من “دول قومية” على أراضيها برغم الجيوش الوطنية والأسلحة؟ كيف إنتصر “ماكرون”؟ _القادم من خارج الأحزاب التقليدية برئاسة فرنسا_ كيف أصبحت قائمة الشركات الخمسمائة الأكبر فى العالم شبه محتلة من شركات لم تكن موجودة منذ عشرة أعوام ؟
كيفن سيستروم، ومارك زوكربرج مؤسس فيسبوك، وملالا يوسف زاى: أصغر من حصل على جائزة نوبل، وتميم بن حمد أمير قطر، وإيفانكا ترامب، وسباستيان كيرتس رئيس وزراء النمسا، و بيانسيه أحد القلائل الذين يعرفهم العالم بإسمهم الأول فقط، ومحمد بن سلمان ولى العهد السعودى، وحتى كيم يونج أون رئيس كوريا الشمالية، _أصغرهم 20 عاماً وأكبرهم ستة وثلاثون وجميعهم_ بعيداً عن مقاربة كل منهم للـ”سلطة” فى مجاله – ينتمون للميلنيلز.
هل يغير “الميلنيالز” أشياء ما تتعلق بالسلطة؟ هل يفعلون ذلك لأنهم “السلطة” أم معارضتها؟ هل تتغير” المعارضة” أم تتغير “السلطة”؟
هل “تتحلل” السلطة ؟
3
دائماً كان لدى السلطة؛ أى سلطة _فى البيزنس أو فى السياسة أو حتى كرة القدم_ حواجز تمنع الإقتراب منها، تجعل محاولة إختراقها صعبة ومكلفة للغاية، “السلطة” تعرف هنا بالقدرة على توجيه أو منع التحركات الحالية، أو المستقبلية، لأفراد أو مجموعات سواءً كانوا: مواطنين أو أحزاب أو جماعات ضغط؛ أو مجموعات مصالح أو دول أخرى أو حتى مجموعات مسلحة إن كنا نتحدث في السياسة، أو شركات منافسة أو حليفة أو بورصات أو بنوك أو جماعات مصالح إن كنا نتحدث فى عالم الأعمال و البيزنس، سواء الحركة أو الثبات من قبل أطراف فى المعادلة تريده السلطة دائماً أن يتوجه إلى تأمينها، ومصالحها. الحفاظ على السلطة يحتاج بالضرورة لمصدات؛ تمنع المافسين المحتملين، توقف تقدمهم ونموهم، المصدّات / الحواجز تركز السلطة ومكاسبها فى دائرتها، لا تسمح لها بالتسرب إلى دوائر أوسع_ إلا بإختيارها وبقدر محسوب_. المصدات قد تكون أدوات منافسة قانونية؛ وقد تكون قوة دموية. في السنوات الأخيرة يبدو أن المصدات تتآكل، شركات كبرى تفلس، ديكتاتوريات عاشت لعقود تنتهى فى أيام، فضاء عام يحتله مواطنون رغماً عن الجميع، “السلطة” كما إعتادها أصحابها تتغير، ممارستها تزداد صعوبة، خسارة البعض للـ “السلطة” التى لم تكن واردة من الأساس منذ سنوات قليلة أصبحت يسيرة بشكل مدهش، هناك قوى مقاومة مفاجئة، تبدو صغيرة في البدايات؛ ربما ثوار شباب بلا قيادات فى ميادين أو ربما أحزاب هامشية تمارس السياسة بشكل مختلف، شركات ناشئة تطرح أفكاراً تبدو مجنونة، هاكرز، جميعهم يأتون من اللامكان: يخترقون المصدات فجأة بلا مقدمات مألوفة وبعدها يتغير كل شئ. هذه المفاجآت التى تأتى فى كل مرة من حيث لا يحتسب أحدº تخيف السلطة وأصحابها، الحركة ترعبهم، والمخيف لهم أكثر أن المفاجآت لم تعد تأتى فرادى، تتآكل المصدات أو تنهار من جهات عدة _بشكل يبدو متزامناً أحياناً _وساعتها لا يفكر من اعتاد ممارسة السلطة بشكلها القديم إلا فى “المؤامرة”، لا تستطيع “سلطة” الكتالوج القديم أن تستوعب أن الحواجز الى تحمى سلطتهم تنهار لأسباب أخرى.
4
فى كل مرة ينهار حاجز يحمي سلطة فى السياسة أو البيزنس يبدو من ورائه Micropower/ : “قوة صغيرة” تفتقد فى العادة للتنظيم،أو الموارد الضخمة أو المركزية، وتبدو هنا نقطة قوتها ورشاقتها فى القدرة على إختراق الحواجز؛ وللمفارقة يبدو هنا عجزها _فى أغلب الأحوال_ عن احتلال موقع السلطة القديمة تماماً، إنستجرام لم تصل لحجم كوداك القديم. وتحولت لجزء من كيان أكبر، و 25 يناير لم تحكم مصر.
ولو حدث وتحولت”القوى الصغيرة” إلى “سلطة” ربما ستظهر “قوى صغيرة” جديدة من بُعد آخر لتؤرق أو تهدم السلطة حديثة التكوين، بمعنى: أن عمر السلطة أصبح أقصر كثيراً!!
5
15 أكتوبر 2011 تحت شعار “متحدون لتغيير العالم”: تحرّك مئات الآلاف من المتظاهرين معاً فى 951 مدينة فى 82 دولة، الدعوة لهذه التظاهرات خرجت من إسبانيا فى مايو من نفس العام، وكانت السوشيال ميديا هى أداة التواصل والتشبيك، إستجابت ضمائر وعقول شابة وخرجت فى ذلك اليوم لتهتف ولترفض “الحالة الراهنة” الممتدة لعقود؛ لترفض طريقة ممارسة السلطة لسلطتها، لترفض تواطآت نخب السلطة ونخب الثروة، لترفض لامساواة هائلة، لترفض فساد، تطلب كرامة وعدالة وحرية. لم تكن هذه هى نقطة البداية، الشرارات الأولى بدأت فى أيسلندا فى 2008 ثم تونس، ثم كانت مصر 25 يناير الحدث الأكبر والملهم، ليختار متظاهرو وول ستريت فى نيويورك؛ ومتظاهرو مدريد وبرشلونة “ميدان التحرير” إسماً لأمكنة تجمعهم، لتنتشر “ميادين التحرير” ورمزيتها فى العالم من البرازيل إلى البحرين، من لندن إلى سنتياجو، من نيويورك إلى دمشق، وفى جميعها: دافع شباب عن “قيم كونية”؛ عن الحرية والمساواة والتسامح وقبول الآخر، والمسئولية المشتركة؛ وحتي الحفاظ علي البيئة. دافعوا عن السلام والعدالة، عن حقوق الـ 99% من البشر الضائعة، عن الحقوق المتساوية و الكرامة لكل البشر _بلا تمييز بين لون أو جنس أو عرق أو دين أو ثروة_. هذه الحركات تواصلت فيما بينها، تفاعلت مبدعة مبادرات جديدة؛ كانت خطوات أولى تعثرت فى غالب الأحوال، إستعادت “السلطة” القديمة توازنها أحياناً وأخرجت تنويعات جديدة على “تيمتها” القديمة أحياناً أخرى. لم يعد العالم كما كان، هناك جديد ما يولد: لا نعرف ملامحه، قد يكون أفضل أو أسوأ على المدى القصير، لا نعرف، ما نعرفه أن تحدى The status quo / الحالة الراهنة أصبح: حالة دائمة، فكرة “الإستقرار”أصبحت جزء من الماضى، الحركة الدائمة هى الوضع “المستقر” الوحيد، الحركة الدائمة لا تدعى أبداً أنها تتحرك دائماً إلى الأفضل ولكن المؤكد أن الحركة الدائمة تحمل داخلها إمكانية أن تصوب ذاتها.
الأداة الأبرز للتواصل_ والتى لعبت دوراً محورياً فى هذه الحركات الإجتماعية_ هى الإنترنت، ومنصات التواصل الإجتماعي التى تتطور بوتيرة مذهلة، تنقد ذاتها ومنطقها كل يوم عن طريق مستخدميها، ويُخضعها مطوروها لعملية مراجعة مستمرة، وأسئلة جديدة تُطرح كل يوم، والنتيجة طوفان من الأفكار والمبادرات والتشبيكات والتطبيقات، يعود المستخدم العادي ليتفاعل مع كل هذا؛ ناقداً و مبدعاً وسط آخرين لتُخلَق: معرفة جديدة، لا تنتهى فى دائرة مذهلة، تتسع لتشمل “الجميع”؛ منتجين و مستهلكين لكل صنوف المعرفة؛ فى تفاعل خلاق لمجموعات و أفراد من المبدعين. “الجميع” فى حالة حركة لا تنتهى، بالتالى مجتمعاتنا وثقافاتنا، ومدننا وسياساتنا، وتجاراتنا وتديننا، ونظمنا التعليمية ومؤسساتنا؛ والأهم وعينا وأساليب تفكيرنا؛ تخضع جميعها لعملية إعادة بناء وتنظيم جذرية ومعها يتم إعادة تعريف لعلاقات البشر وبعضهم ومجتمعاتهم، هل مع كل هذا ستصمد علاقة “السلطة” بالمجتمع بشكلها القديم ؟!
6
فى عام 2000 أصدر المؤرخان الأمريكيان وليم شتراوس، و نيل هو كتابا بعنوان: “صعود الميلنيالز… الجيل العظيم القادم” ويعود للمؤرخين الإثنين- فى الأغلب – صك مصطلح “ميلنيالز Millennials ” لتعريف الجيل المولود منذ بداية الثمانينيات فى القرن العشرين وحتى عام 2004. المصطلح تم استعماله فى البداية للحديث عن ذلك الجيل فى الولايات المتحدة، وكيف سيصوغ شكل المستقبل هناك، ثم تم استعماله لاحقاً بشكل واسع، لتعريف أبناء هذا الجيل فى كل العالم فى دراسات عديدة إهتمت بمحاولة فهم هذا الجيل، وكيف ستؤثر شخصيته وعقله وقيمه وأنماط سلوكه فى شكل المؤسسات وطريقة أدائها؛ فى الإقتصاد والسياسة؟. كيف ستتغير أنماط العلاقات الإجتماعية ؟علاقتهم الأصيلة بالتكنولوجيا لدرجة اعتبارهم “مواطنين رقميين أصليين”. ظهرت أيضاً دراسات وكتب هامة فى هذا الإطار عن الميلنيلز والربيع العربى والمسارات التى تلته.
“الميلنيالز” فاعل رئيسى فيما حدث فى العالم منذ 2011، و فيما يحدث فى العالم الآن من تغير فى شكل ممارسة الحياة، فهم وفى مناطق كبيرة جداَ من العالم فى طريقهم لأن يمثلوا الجزء الأكبر من قوة العمل، وأيضاً النسبة الأكبر من المستهلكين، هم “زبائن” التجارة والسياسة وحتى الخطاب الدينى، إعتادوا دائماً “الإختيار من متعدد”، يعجزوا عن فهم “إسمعوا منى أنا بس”، هذا ليس له معنى فى قاموسهم، فى السياسة أوالتسوق أو حتى التدين.
أصدرت بوسطن كونسلتنج جروب وهى واحدة من أهم المجموعات الإستشارية فى العالم عام 2014 تقريرا عنوانه: “مبدأ المعاملة بالمثل … كيف يغير الميلنيلز شكل “التسويق” إلى الأبد”، يخلص التقرير إلى أن الميلنيلز يعيدون صياغة شكل الأسواق نفسها بعادات جديدة وتفضيلات جديدة لأين يضعون نقودهم، بشخصية جيلهم، بقيمهم ونظرتهم للحياة وأولوياتهم فيها. التقرير نفسه يقدم تعريفا جديدا للـ”تسويق”: بأنه نظام متوازن الأبعاد؛ لمشاركة المستهلكين والمنتجين_ وليس عملية تتحكم فيها وتدفعها الشركات كما كان سابقاً_. سلطة “المُنتج” القديمة لم تعد صالحة.
على حسب الأرقام الرسمية أبناء هذا الجيل يقاربون نصف سكان مصر. كتلة بشرية هائلة تدخل سوق العمل، تستهلك، تتفاعل مع المؤسسات التقليدية، تمارس السياسة بعد إزاحة ديكتاتور ظل فى الحكم لثلاثين عاماً، ثم إزاحة حكم جماعة دينية بعد صراع قصير، أغلبها محبط بسبب ما وصل إليه الحال الآن، هذه الكتلة البشرية فى مصر أيضاً متصلة بالتكنولوجيا بشكل مكثف تتفاعل معها إجبارياً ليس فقط على مستوى المنتجات؛ ولكن الأهم على مستوى العقلية والمنطق.
7
الميلنيالز فى مصر جزء من سياق عالمى، هم أبطال صغار: عاديون جدد، بينما تتصور السلطة أنها تستطيع السيطرة عليهم بإستعمال نفس الأدوات القديمة، السلطة هنا تتخيل أن نماذج الحراك التى حدثت فى 2011 وما بعدها هى نفسها التي تهدد مصداتها الجديدة، تعجز السلطة عن فهم أن “القوى الصغيرة” لا تعمل بالضرورة بنفس الآليات، ولا تقوض مصدات السلطة بنفس الطريقة.
بالتالى فربما تكون المفاجأة القادمة مختلفة تماماً، وجديدة تماماً، تعجز السلطة أيضاً عن فهم ان السياق تغير، وأن أدوات التدجين أحياناً أو البروباجاندا أحياناً أخرى: لن تؤدى لنفس النتائج فى السياقات المغايرة الجديدة. “Let’s talk” مؤتمر الشباب فى 2007 برعاية سوزان مبارك لا يختلف كثيراً عن “We Need To Talk” فى 2017، بعض وجوه منظمى 2007 تتكرر فى 2017. السلطة مازالت قديمة فى الذهنية والأدوات وكل ما حولها جديد، تتنازعها فكرتان؛ أنه بعد إغلاق “الثغرة الأمنية” فالحواجز التى تحمى السلطة قائمة من جديد والسلطة فى أمان ولكن هناك دائماً إحساس بأن هناك خطر ما!
الحواجز التى اعتادت أى سلطة أن تحتمي خلفها كانت أكثر صلابة حين كان العالم خطياً، المختلف أن العالم لم يعد خطياً على الإطلاق، والسلطة العاجزة عن إستيعاب الأمر بشكل كامل:عمرها فى الأغلب أقصر.