القاهرة- نوفمبر- 2021-11-20
أجواء الحسبة تخيم على المدينة. أصوات كثيرة ترتفع مطالبة بالإقصاء والمنع، مرة لفيلم، ومرة لفنان، مرة لمطرب شعبي، ومرة لمفكر يطالب بتجديد الخطاب الديني. انقسام في البرلمان المصري حول مشروع قانون قدمته الحكومة يقضي بمنح النقابات الفنية حق “الضبطية القضائية“، أي قيام مندوبين من النقابة بدور الشرطي في مداهمة أي مكان واعتقال أي شخص لا يلتزم بسداد حقوق النقابة أو يمارس عملاً فنيًّا لا يرضى عنه “الذوق العام“، أو حسب نص المادة 70 من مشروع القانون المقدم:“يصدر وزير العدل بالاتفاق مع النقيب المختص قرارًا بتحديد من له الضبطية القضائية في تنفيذ هذا القانون“.
في اليوم التالي لمناقشة المشروع يعلن المغني هاني شاكر نقيب الموسيقيين إيقاف تسعة عشر مغنيًّا شعبيًّا عن العمل لخروجهم على التقاليد وشروط النقابة، هم أشهر وأنجح مغنيين على الساحة حاليًا، مما يثير الجدل أكثر حول ما يمكن أن يفعله النقيب ومجلس نقابته بالفنانين من أعضاء النقابة أو من خارجها.
البعض يرى أن القانون خطوة إيجابية لحماية الذوق العام والارتقاء به، ولحماية حقوق أعضاء النقابات الفقراء ومن يعيشيون على معاشات النقابات. حرب جياع في النقابات، والمغنون الموقوفون هم الأكثر شهرة وعملاً الآن، والبعض يرى في إيقافهم فرصة ليعمل بدلاً منهم، أو للضغط عليهم وابتزازهم لدفع رسوم وتبرعات أكبر للنقابة تذهب للفقراء. حرب نقابات يسعى فيها كل نقيب لكسب تأييد أكبر عدد من الأعضاء عسى أن ينتخبوه مرة أخرى على حساب من يضحى بهم. حرب أذواق بين جيل قديم يصنع أغنيات لا يستمع إليها أحد، وجيل لديه شعبية هائلة بأغنيات “فجة” الكلمات والألحان يحبها الناس.. محاولة للسيطرة على عالم لم يعد من الممكن السيطرة عليه، وتصور أن بامكان أي جهة أن تتحكم في المجال العام، وأن تقمع أي حركة اعتراض غير مرغوب فيها حتى لو كانت كلمة سوقية أو أسلوبًا موحيًا في الغناء. وقبل كل شئ إصرار من وزير العدل على منح حق لشخص لا يحق له امتلاكه. فمنذ عدة أشهر أصدر وزير العدل قرارًا لنقيب الموسيقيين بحق الضبطية القضائية ألغاه القضاء الإداري لعدم توافقه مع قانون النقابات والقانون العام والدستور.
وفقًا لقانون النقابات ليس هناك حق لأي نقابة في محاسبة من ليس عضوًا بها (هناك قانون يمنع غير النقابيين من العمل كفنانين، ويكفي أن تقوم النقابة بالإبلاغ عن هؤلاء، في حالة عدم قيام المصنفات الفنية أو الداخلية بعملها قبل ذلك، وبناءً على البلاغ المقدم من النقابة تتحرك الأجهزة المعنية وتقدم هؤلاء الذين يمارسون الفن دون تصريح إلى القضاء، أو تلزمهم بالحصول على موافقة النقابة أولاً.. وحسب القانون العام فهو ينص على أن الضبطية القضائية لا تمنح إلا لموظف عام يكون بمثابة ممثل أو مندوب للنائب العام. أما النقباء فليسوا موظفين عموميين ولكنهم يمثلون مصالح نقابتهم ومهنتهم. أما حصولهم على حق الضبطية القضائية التي يملكها الشرطي المخول بتنفيذ القانون، فهي أولا بعيدة عن صميم عملهم ونشاطهم كما نص عليها قانون النقابات، وثانيًا قد تفتح باب جهنم أمام الاستبداد وامتلاك سلطة لا يحق لهم امتلاكها، وثالثًا قد تفتح بابًا آخر أمام الفساد والابتزاز الذي يمكن أن يمارسه أفراد دون أن يكون هناك جهة تحاسبهم. ورابعًا هناك تعارض مصالح بين أعضاء النقابة الذين يعملون كفنانين وبين فنانين زملاء ربما يفتح بابًا للشبهات بالمجاملة أو بالاضطهاد.
هذه النقاط التي أثارها بعض الأعضاء المندهشين من مشروع القانون، ومنهم الدكتورة والروائية ضحى عاصي، أربكت النقباء الذين توجهوا لحضور جلسة في مجلس الشعب آملين أن يمنحهم القانون الجديد مزيد من السلطة للتحكم في خلق الله. كانوا يتوقعون أن يصفق لهم الجميع على ما يفعلونه بالفن والفنانين. أشرف زكي قرر فصل حلا شيحة منذ عدة أسابيع لأنها قالت كلامّا “سيئًا” عن الفن. ممارسة لحق لا يملكه. ليس من حق نقابة أن تحاسب عضو على تصريحات يدلي بها، حتى لو كانت هراء تاما كتصريحات حلا شيحة. هاني شاكر يفتح ابتسامته على مصراعيها وهو يطارد المغنيين مثل مطاردة رجال الدين للساحرات في العصور الوسطى. نقباء يحملون صكوك الغفران وأختام المنح والمنع، يرتدون بالطو حلاق الصحة، ويداهمون الملاهي والقاعات والبيوت بحثًا عن فنان لم يختن بعد..
المشروع أجلت مناقشته لمزيد من الاطلاع، والهواتف بدأت تشغي بمحاولات الإقناع والضغط لتمريره. استخدام ورقة الفقر والمعاشات والدخل الوفير الذي ستجنيه النقابات إذا حظيت بحق الضبطبة القضائية، ولكن لا أحد يتحدث عن تحويل النقابات ضد أهدافها وضد أعضائها.
٠٠فوضى!
فلاش باك 1- القاهرة- 1979
في يوم صيفي من عام 1979 صحبني الأديب وبائع الكتب محمد جابر غريب إلى أول ندوة ثقافية أحضرها في حياتي، وكانت ضمن فعاليات نادي القصة في حي جاردن سيتي. كان النادي يقيم ندوة أسبوعية يقرأ فيها أديب إحدى قصصه ثم يناقشها الحاضرون. ولأن الانطباعات والذكريات الأولى تدوم، لا أنسى أبدًا هذه الندوة ولا القصة التي استمعت إليها يومها، وهي قصة“هذا الصوت وآخرون” للكاتب عبد العال الحمامصي، الذي راح يتلوها علينا بفصاحة صعيدية وحماس ظاهرين.. كان محور القصة المروية بلسان المتكلم عن معاناة مثقف شاب من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت الانفتاح، وتدني الأخلاق والسلوك والذوق، والذي يتجسد في صوت مغني شعبي مشهور يطارد الراوي في كل مكان، وهو صوت أحمد عدوية.. تذكرت هذا اليوم في الشهر الماضي عندما طالعت أخبار إغلاق مقر “نادي القصة” الذي أنشيء 1954، وظل يعمل طوال هذه السنوات، وذلك بعد صدور حكم قضائي نهائي بإخلاء المكان وتسليمه لمالكي العقار، ورثة فؤاد سراج الدين.
أتذكر هذا اليوم كثيرًا، لأسباب عدة، ليس فقط لكونه أول فعالية ثقافية عامة أقوم بحضورها، وكنت لا أزال في الصف الثالث الثانوي، ولكن أذكرها تقريبًا كلما سمعت اسم أحمد عدوية أو خبرًا عن منع أحد المطربين من الغناء. أتذكر الجدل الهائل الذي كان يحيط باسم عدوية طوال السبعينيات والثمانينيات، قبل أن يستبدل بجدل “الأغنية الشبابية“، وقبل أن تتحول أغاني عدوية بمرور السنوات إلى “كلاسيكيات“، تثير الطرب والشجن، ويستمتع بسماعها حتى الذين كانوا يهاجمونها ويسخرون منها في يوم من الأيام.
مُنع أحمد عدوية من الغناء “الرسمي“، ورفضت لجان الاستماع اعتماده في الإذاعة والتليفزيون، حين لم يكن هناك فضائيات أو إنترنت أو spotify، والمغني الذي ترفض الإذاعة والتليفزيون بث أغانيه يصبح وكأنه لم يكن. من حظ عدوية أنه ظهر منتصف السبعينيات، مع موجة السينما الشعبية وظهور “الكاسيت“، إذ أصبح اسمه ضمانًا لنجاح أي فيلم وأصبح ملك شرائط الكاسيت الأول دون منازع. كان عدوية يسب ويلعن كل يوم وساعة، ولكن حتى الذين يشجبوا صوته وينددون بكلمات أغانيه “السوقية” وألحانها “المبتذلة” في العلن، كانوا يستمعون إليها سرًا. وكما حدث كثيرًا عبر تاريخ الغناء في مصر، أصبح عدوية مطرب حفلات الزفاف الأول، بما فيها حفلات أبناء وبنات الكبار والمسؤولين الذين يمنعون أغانيه ويتهمون أغانيه بأنها أفسدت الذوق والأخلاق.
ومن الحكايات المتداولة عن عدوية أن السادات استاء من أغنية “زحمة يا دنيا زحمة” وخاصة الجملة التي يقول فيها “مولد وصاحبه غايب“، وأنه ذهب لحضور حفل زفاف أحد الأعيان في المنوفية، وغنى عدوية “زحمة” مستبدلاً “مولد وصاحبه غايب” بكلمات أخرى، فاستاء السادات أكثر، وأرسل رجاله ليحققوا مع عدوية و“يقرصو ودنه” وأصدر قرارًا لم ينفذ بمنع الأغنية ومنع صاحبها من الغناء، لكنه تراجع أمام الشعبية الكاسحة التي كان عدوية يحظى بها .
تعقيبًا على الفلاش باك
كانت السبعينيات انفجارًا في تاريخ مصر ما بعد حركة الجيش في 1952، وما أعقبها من “ثورة” شهدت استقلالاً كاملاً عن المستعمرين للمرة الأولى منذ زمن الفراعنة، ومن نهضة وسيطرة للطبقة الوسطى التي فرضت ذوقها المحافظ ذا النزعة الرومانتيكية على الفنون الشعبية من سينما وموسيقى ومسرح وأدب. هذه الطبقة التي أطاحت بأحلامها هزيمة 1967، ثم أطاحت بمكانتها سنوات السبعينيات الصاخبة بانفتاحها وحراكها الاجتماعي والهجرة إلى الخليج وزحف الريف على المدينة وصعود طبقة الحرفيين والتجار، مما يمكن أن نجد آثاره في الكثير من أفلام وروايات هذه الفترة التي شهدت صراعًا هائلاً بين ذوق الطبقة الوسطى القديم، والذوق الشعبي الذي صاحب ثورة الكاسيت وما أحدثته في انقسام حاد بين الذوقين، ومن خلق لثقافة شعبية موازية وبديلة عن الثقافة الرسمية. وربما كان موت عبد الحليم حافظ في 1977 بمثابة إعلان عن موت زمن “جميل” ومولد حقبة قبيحة، يمكن تأمل تجلياتها في أفلام مثل “انتبهوا أيها السادة“، و“أهل القمة“، و“سواق الأتوبيس” و“زوجة رجل مهم” وغيرها.
فلاش باك 2- نيويورك- 1940
في 1940 أصدرت ولاية نيويورك قانون اسمه “تصريح ملاهي” Cabaret Card كان الهدف منه محاولة احتواء الموجة الشعبية العارمة لموسيقى الأمريكيين الأفارقة، والتي كانت تخدش الحياء العام والنظام العام بموسيقاها وكلماتها. نص القانون على وجوب حصول أي مغني في ملهى على بطاقة ترخيص، تستخرج من قسم الشرطة، وبهذا التصريح أصبح الموسيقيون والمغنون السود فجأة تحت رحمة الشرطة، فقد سمح القانون للبوليس بمداهمة الملاهي واعتقال المغنيين السود الذين يخرجون على النص لأية أسباب واهية، على رأسها تعاطي المخدرات، كما حدث للمغنية بيلي هوليداي؛ التي تحولت قصتها إلى فيلمين أحدهما روائي والآخر وثائقي في العام الماضي. وكان السبب الرئيسي وراء اعتقالها وسجنها في 1947 ليس المخدرات بالطبع، بل إصرارها على غناء أغنيتها الشهيرة “فاكهة غريبة” Strange Fruit التي تشير إلى مذابح السود وعادة قتلهم وتعليقهم فوق الأشجار في ولايات الجنوب
تقول بعض كلمات الأغنية:
“أشجار الجنوب تنبت ثمرة غريبة
دم على الأوراق، دم على الجذور
أجساد سوداء تتأرجح في نسيم الجنوب
فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور“..
كانت هذه الأغنية تحديدًا تثير جنون رجال الشرطة والمسؤولين، وحاولوا بشتى الطرق إقناع هوليداي بعدم غنائها، ولما لم تستجب للإغراءات والتهديدات لفقوا لها تهمة تعاطي المخدرات، وسجنت لمدة عام، وبعد خروجها من السجن رفضت الشرطة تجديد الترخيص لها لأكثر من عشر سنوات.
قانون “تصريح الملاهي” لم ينج منه حتى مؤلف موسيقي وعازف بيانو عملاق مثل ثيلونيوس مونك الذي ألغي ترخيصه لأكثر من مرة قبل أن يلغى تمامًا، مما عرضه للبطالة والتنقل بين المدن والولايات للعزف في أماكن لا تصل لها يد هذا القانون.
استمرت عنصرية الأربعينيات والخمسينيات، بطرق أخرى خلال الستينيات والسبعينيات، ويشهد تاريخ الغناء في أمريكا الكثير من محاولات المنع التي وصلت للسجن لسنوات طويلة لمغنيين أفراد وأعضاء فرق غنائية شعبية، منهم على سبيل المثال، جيم موريسون، عضو فريق Doors، في1969، وقد فر موريسون قبل صدور الحكم إلى باريس حيث توفي بعد ذلك بعامين، اثنان من فرقة 2 Live Crew في 1990، بجانب صاحب محل شرائط رفض الامتناع عن بيع الألبوم، وحتى مادونا كادت أن تتعرض للحبس في كندا منتصف السبعينيات، بعد أن هددتها الشرطة في حال قيامها بإيماءات جنسية صريحة في أثناء الغناء.
..العودة من الفلاش باك!
على مدار عقود تسبب المغنون في صداع دائم للسلطات في الولايات المتحدة وغيرها، ويبدو أن حدود الحرية في مجتمع ما تتعلق بأهداب مغنييها، إذ يسمح الغناء والموسيقى بطبيعتهما المتحررة والأداء الحي أمام المشاهدين بتجاوز الخطوط الحمراء، وعبور السلك الشائك الفاصل بين العلني والسري، والمسموح والممنوع.
وفي إيران حيث ممنوع على النساء ممارسة الغناء أو الموسيقى، يتعرض الرجال أيضا للمنع والسجن، مثلما حدث مع المغني والمؤلف الموسيقي مهدي رجبيان، الذي سجن لأكثر من مرة أحدثها في سبتمبر الماضي.
بين أنواع الفنون السائدة، التي مرت عبر العصور بمراحل متعددة من التدجين والتنميط، بقي الغناء الشعبي هو الأكثر ارتباطًا وتعبيرًا عن هموم البسطاء الكادحين والمقهورين. وبقيت أشكاله الفلكلورية التي لم تطلها يد الصقل هي الأكثر تعبيرًا عن العنف والبذاءة والسخرية التي تتصف بها الفنون الشعبية (ولست أقصد الفنون الشعبية التي حاولت فرضها النظم الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ومصر الناصرية)، فهذه نسخة رسمية منقحة ومهذبة مثل نسخة “ألف ليلة وليلة” التي كانت تصدرها “دار الهلال” و“دار الشعب” في الستينيات.
كان عدوية أول خروج على الفن الشعبي الرسمي الذي ساد الخمسينيات والستينيات، وتبعه كثيرون، وليست أغاني “المهرجانات” سوى الامتداد الطبيعي له، والنسخة المعاصرة من التعبير الشعبي عن الواقع العنيف والقبيح والبذئ الذي نحيا فيه.
صورة الغلاف: تفصيلة من لوحة للفنان إنريكو روبوستي