لماذا يهتمون؟

حوارات مع زملائي الأستراليين حول دعمهم لفلسطين

هبة الصغير

تعليقًا على حرب الخليج، قال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، في كتابه “حرب الخليج لم تحدث” الذي نشر عام 1991: “باستثناء الشعوب العربية، من لا يزال قادرًا على الإيمان بالحرب والانفعال بها؟”!

في عصر الاتصالات، حيث تُبَث الحروب مباشرة على شاشة التليفزيون، مثلما كان الحال مع حرب الخليج التي بثتها شبكة سي إن إن CNN في 1990-1991، يمكن للناس أن يشهدوا الفظائع المروعة التي ترتكب في الحروب كما لو كانوا يشاهدون محاكاة أو فيلم أكشن، دون تأثير على واقعهم الحقيقي. وبالمثل، فإن المشاهدين الغربيين الذين يشاهدون الحرب على غزة -التي تبث مباشرة على شبكة الإنترنت- لن يتعرضوا لتأثيرات مباشرة أو مشاعر بالحزن مثل العرب العالقين في منطقة الشرق الأوسط المحاطة بالحروب والصراعات المستمرة.

هكذا ظننت،أن الغرب لا يشعر أو يحزن لما يحدث فى غزة. لكن بعد أن تحدثت إلى بعض أصدقائي الأستراليين حول دعمهم لفلسطين أدركت لماذا قد يشعر غير العرب بالغضب تجاه الحرب على غزة. أذكر أن أحدهم قال إنه يفضل أن يقضى حياته كلها في الدفاع عن قضية عادلة -مثل قضية فلسطين- على الموت عبثاً غارقاً في المتع وفائض الاستمتاع بالحياة.  نظرت إليه وقلت: “نعم، وأنا أيضًا” ثم أضفت أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نتصالح مع أنفسنا قبل أن نموت، ثم نموت فى سلام. تبادلنا النظرات للحظة وامتلأت أعيننا بالدموع.  في تلك اللحظة بالتحديد أدركت وجود جوهر ما وراء حرصنا على رؤية العدالة تسود بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس أو الطبقة.

أليس؛طالبة جامعية تبلغ من العمر 26 عامًا وتحصل على درجة الشرف في الدراسات الأدبية في ملبورن

ينبغي أن أقول إن أولئك الذين يتحدثون عن مشاعرهم المؤيدة لفلسطين في الغرب أناس شجعان للغاية. في أستراليا، حيث أعيش الآن، من الطبيعي إلى حد ما إدانة الله علنًا، أو انتقاد الحكومة، أو الاعتراض على رأي أستاذك أمام جمهور كبير.  ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن رأي عام مؤيد لفلسطين، ستجد الناس يخافون من التحدث. أتذكر حين كنت أجلس في مقهى أناقش ما يجري في فلسطين مع صديقة لى عندما بدأت تقترب أكثر فأكثر وتهمس في أذني بمشاعرها المؤيدة لفلسطين بدلاً من أن تفصح عنها بفخر وبصوت عالٍ. يخشى الناس من أن يؤدى تأييدهم لفلسطين إلى فقدان وظائفهم، أو اتهامهم بمعاداة السامية، أو ترحيلهم من البلاد في حال كانوا مهاجرين.

ولفهم لماذا يهتم الأستراليون بدعم بلد بعيد مثل فلسطين على الرغم من احتمال الضرر المرتبط بهذا الدعم، تحدثت إلى أليس، وهي طالبة جامعية تبلغ من العمر 26 عامًا تدرس الآداب بإدى الجامعات بمدينة ملبورن. كما تحدثت إلى مات، الناشط الاشتراكي البالغ من العمر 25 عامًا المقيم في ملبورن.

تحرص أليس على حضور المسيرات المؤيدة لفلسطين كل أسبوع، بالإضافة إلى النشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي حول ما يحدث في غزة. وحين كشفت عن مشاعرها المؤيدة لفلسطين، حظرها أحد أصدقائها الذين اعترضوا على آرائها. تعتقد أليس أن الدفاع عن فلسطين جزء من النضال ضد الاستعمار، فهو وفقًا لقولها: “أحد أكبر النضالات المناهضة للاستعمار في عصرنا”.

وعلى الرغم من أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يكن جزءًا من المنهج الدراسي لأليس في أستراليا، فقد عرفت عن فلسطين في سن السابعة عشرة من خلال والدتها صاحبة الآراء المؤيدة لفلسطين. ومع ذلك، لم تكن أليس على دراية كاملة بالقضية الفلسطينية إلا عندما صادفت الفيلم الفلسطيني “فرحة”، الذي عُرض في ملبورن عام 2022. من خلال الفيلم، تعرفت أليس على أهوال نكبة 1948 وقررت تثقيف نفسها حول تاريخ الصراع من خلال الإنترنت، وقراءة الكتب، ومتابعة الصحفيين والمعلمين الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى التحدث مع أصدقائها العرب.

وبسبب حوادث القتل المريعة للمدنيين الفلسطينيين التي واجهت بها إسرائيل هجوم حماس الواقع  في 7 أكتوبر 2023، قررت أليس مقاطعة العلامات التجارية الإسرائيلية والانضمام إلى الاحتجاجات المطالبة بوقف إطلاق النار وإرسال رسائل بريد إلكتروني لممثلتها النيابية تطلب منها اتخاذ موقف أكثر قوة تجاه فلسطين في محاولة لوقف إطلاق النار في غزة. كانت استجابة الممثلة محبطة لأليس التي أخبرتني أن ممثلتها النيابية بعد مناقشة تعقيدات القضية (دون الإشارة إلى كلمتي “فلسطيني” أو “فلسطين” كأنهما غير موجودتين) وإدانة قتل المدنيين بشكل عام، لم تدن النائبة إسرائيل مطلقًا بل أكدت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

لا تخشى أليس من التعبير عن مشاعرها المؤيدة لفلسطين من خلال ارتداء شارتها المؤيدة لفلسطين أو حمل لافتة في وسائل النقل العام، لكنها تخشى على أصدقائها من الجنسيات الأخرى، خصوصًا بعد أن تعاظم الخوف من ارتداء الكوفية عقب حادثة إطلاق النار على ثلاثة فلسطينيين في الولايات المتحدة، التي تعتبر جريمة كراهية، بحسب بيان اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز الذي ورد فيه: “لدينا سبب للاعتقاد بأن إطلاق النار وقع لأن الضحايا عرب”.

بالنسبة لمات، الكوفية هي الشيء الذي يحب ارتدائه والسير به في المدينة. وقد أخبرني أنه ذات مرة، بينما كان يعبر الشارع مرتديًا كوفيته، أوقفته فتاة بيضاء صغيرة وأشارت إلى كوفيته قائلة: “شكرًا لك” وهي ترفع إبهامها لأعلى.

اعتنق مات الفكر الاشتراكي عندما كان طالبًا في عام 2016 وتعرف على قضية فلسطين في عمر السابعة عشرة تقريبًا، كما سمع سابقًا عن غزو العراق وأفغانستان. ومع ذلك، أوضح لي أنه على عكس ماحدث في العراق وأفغانستان: “لم تكن فلسطين في الواقع قضية يفكر فيها الناس أو يتعاطفون معها في أستراليا”. يعترف مات أن نشاطه الاشتراكي الثوري هو السبب وراء وعيه بالقضية الفلسطينية كجزء من النضال ضد الإمبريالية والرأسمالية، فقد تعلم من خلال خلفيته الاشتراكية مناصرة المظلومين وإظهار التضامن مع الشعوب التي يعتبر: “حكومته مسؤولة عن قمعها”. مات يرفض دعم أستراليا لإسرائيل ويشعر أن المسيرات وسيلة ضغط على الحكومة لإعادة النظر في دعمها لها. 

بالإضافة إلى المشاركة في المسيرات وتنظيم الاحتجاجات، يقاطع مات البضائع الإسرائيلية والشركات التابعة لها. ليس الكفاح ضد الإمبريالية وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم فقط هو ما يدفعه لدعم فلسطين، بل إيمانه بأن الرأسمالية هي مصدر العديد من حالات الاضطهاد والاستغلال للفلسطينيين وغيرهم حول العالم. ومن خلال وصفه لي كيف رفض عمال الموانئ الأستراليون تحميل الحديد الخام المتجه للإنتاج العسكري في اليابان في عام 1938 لأنهم علموا بالفظائع التي ارتكبتها اليابان ضد الشعب الصيني، سعى مات إلى توضيح أن النضال يجب أن لا ينبع فقط من العرب بل من داخل العالم الرأسمالي الغربي، حيث تنتج الأسلحة المتطورة وتجرى الأبحاث عليها.

مؤخرًا، أصدرت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في أستراليا بيانًا ادعت فيه النصر على واحدة من أكبر الجامعات الأسترالية، وذلك بإجبارها على إعلان أنها أوقفت شراكتها البحثية مع شركة Elbit Systems، وهي شركة إسرائيلية دولية للتكنولوجيا العسكرية. ويعتقد مات أن مثل هذه الانتصارات ينبغي أن تساعد على الضغط على الجامعات الأسترالية والشركات والكيانات الرأسمالية الأخرى لوقف تعاونها مع القوى الاستعمارية. فبالنسبة له، ينبغي لأي شخص يحترم ذاته أن يتأثر بأهوال ما يحدث في فلسطين منذ سنوات، وأن يدرك حقيقة الإمبراطوريات الغربية.

يهتم كل من أليس ومات بفلسطين لأنهما يشعران أن حكومتهما  ظلت تتسامح على مدى سنوات عديدة مع الظلم الذي تلحقه إسرائيل بالفلسطينيين.

وفقاً للمؤرخ الإسرائيلي البريطاني إيلان بابي في كتابه “الفلسطينيون المنسيون: تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل” (2011)، لا يعاني الفلسطينيون في غزة فقط من الحصار الذي تفرضه إسرائيل، بل يعاني كذلك الفلسطينيون الذين يعيشون في إسرائيل (داخل حدود 1948) من كونهم مواطنين من الدرجة الثانية حيث يتعرضون للتمييز المستمر.

كما لاحظ مات، مثلما لاحظت أنا أيضًا، وجود زيادة ملحوظة في أعداد الأستراليين الداعمين لفلسطين. ومن خلال تجربته باعتباره أستراليًا وناشطًا شارك في العديد من الاحتجاجات والحملات الأخرى في أستراليا، فإن تلك المسيرات “غير مسبوقة على الإطلاق في حياته”، إذ يرى أن هذه من الأوقات النادرة جدًا التي رأى فيها طلاب المدارس يحتجون وينظمون إضرابات. وعليه فإن مثل هذا الاهتمام بدعم فلسطين يظهر أن النضال من أجل عالم أفضل أمر ممكن، على الرغم من أنه ليس متفائلاً تمامًا بأن ذلك سيغير علاقة أستراليا بإسرائيل، إلا إذا حدثت ثورة.