..لماذا يرغب الناس في العودة إلى الوطن؟
هل يمكن الإجابة على هذا السؤال دون الوقوع في فخ السنتمنتالية والمشاعر الجياشة.. لاحظ المفردات! ربما لا.. لكن على الأقل يمكننا طرح بعض الأسئلة الأساسية، عن معنى الوطن، وهي أسئلة لن نجد لها إجابات نموذجية.. هل هو المكان الذي ولدت فيه؟ هل هو المكان الذي شعرت فيه بآدميتك؟ هل هو المكان الذي احترم اختياراتك واختلافك؟ هل حافظ عليك وعلى فردانيتك في مواجهة الجموع المتشابهة والقطعان؟ هل هو غرفتك الصغيرة التي تحتمي بها من العالم؟!
يسافر الناس دومًا إما طوعًا أو كرهًا، والأغراض لا حصر لها، ويبتعدون لألوف الأميال عن الأماكن التي نشأوا فيها واعتادوا عليها، مخلفين وراءهم أمهات وآباء وأحلامًا نيئة وذكريات لا مجال للتخلص منها.. قلة من المسافرين تحرق مراكبها تمامًا، ولا تفكر في العودة، حتى مع توفر إمكاناتها وسبلها، أما البقية الباقية فتعيش بعيدًا مع هذا الأمل الذي يطاردهم دائمًا؛ سنرجع يومًا/ حلم العودة/ حق العودة، حلم الرجوع إلى التفاصيل التي تبدو نوستالجية.. لكننا لا نود أن نذهب إلى منطقة الرمال المتحركة هذه.
لماذا لا نود أن نترك أنفسنا للحنين.. لماذا يقاوم الإنسان الحديث، المثقل بالواقع هذا الشعور؟
الحنين.. أربكتكم الكلمة!
منذ نحو أربعة قرون توصل العلماء لمعرفة المكان المسؤول عن الذاكرة في المخ؛ الحصين، أو قرن آمون، فرس البحر Hippocampus، مسميات عديدة، لكن الأمر يستحق، ففي هذا الملعب تدور مباريات الذاكرة التي لا تنتهي، حتى مع إصابة الإنسان بالألزهايمر في مراحل متقدمة من العمر، تظل الألعاب قائمة، الألزهايمر أصلاً ملعب مخيف.. لكن لماذا ينفق العلماء الوقت حتى الآن في دراسة هذا الجزء المعقد من الدماغ، المسؤول بشكل كبير عن عدة أمراض، فبالإضافة إلى الألزهايمر، الاكتئاب، والفِصام، والصرع، وارتفاع ضغط الدم، وغيرها.. لكنه يقوم بالمهمة الكبرى؛ يسجل المعلومات، ويحتفظ بالذكريات، ويهمل أخرى بالطبع.. والذاكرة تشغل الإنسان، ربما أكثر من أي شيء آخر. وليس من السهل إحصاء الأغنيات التي استغلت هذه النقطة، وكانت الذكريات موضوعها الأثير فضمنت النجاح والوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجماهير، من الصعب ألا تلقى أغنية النوستالجيا نجاحًا كبيرًا، وفي السنوات الأخيرة انتبه القائمون على صناعة الميديا والإعلانات التجارية إلى أهمية استغلال النوستالجيا في الدعاية لمنتجاتها في أوقات الذروة، وهو ما نفذته بعض شركات المياه الغازية لسنوات في رمضان على سبيل المثال..
جميل راتب، الممثل المصري (1926-2018) سافر إلى فرنسا، هربًا من تردي الأوضاع السياسية وحالة الحريات في مصر في الخمسينيات، وطالت غيبته في فرنسا، درس الفنون وحقق نجاحات غير مسبوقة في المسرح الفرنسي، وعن هذه الفترة الطويلة التي جاوزت الربع قرن يقول إنه قضى في فرنسا كل هذا الوقت “ولم ينطق بكلمة واحدة بالعربي”! أحيانًا يختار الناس أن يهاجروا بهذه الطريقة.. يبتعدون حتى عن لسانهم “لغتهم الأم”، وهذه الهجرة اللسانية آلية يتبعها البعض حاليًا حتى وهم يعيشون في أوطانهم، لأنهم ببساطة يشعرون بأنهم ينتمون إلى هذا المكان، فيغتربون اختياريًّا “من منازلهم”! وأحيانًا يقضي البعض أغلب عمره مهاجرًا، لكن إن سألته عن أمنيته الأخيرة ستكون إجابته أن يدفن في بلده، ميتًا، غير شاعر بأي شيء..
حكاية يابانيات في كوريا الشمالية..
في مقال نشرته يومية “الجارديان” يوم 13 فبرير 2021، قابلت المصورة اليابانية نوريكو هاياشي، بعد جهد كبير، مجموعة من النساء اليابانيات اللاتي تزوجن من رجال كوريين شماليين، وهاجرن إلى كوريا الشمالية منذ نحو 60 عامًا، ظنًا منهن أن العودة إلى بلادهن ستكون أمرًا طبيعيًّا، لكن السياسة كان لها رأي آخر، بعد أن وقعت كوريا الشمالية، ولا تزال واقعة، في براثن نظام شمولي بالغ القسوة، تديره منذ ما يزيد عن سبعين عامًا أسرة “كيم”، بداية بكيم إيل سونج وصولاً إلى كيم يونج أون، بقبضة حديدية تملك بها الدولة كل مقدرات حياة المواطنين، وحالة من الفقر والتجويع والعقوبات الجائرة، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية؛ فلا يستطيع الكوري الشمالي أن يستخدم الإنترنت أو إجراء مكالمة دولية، والويل لمن يحاول الفرار من هذه الأجواء، بالطبع هناك من يحاولون، حتى من بين رجال الدولة، لكن النتيجة هي القتل الفوري، أو التعذيب والاغتصاب وأحيانًا القتل، في حال كن نساء..
لم تتحدث أي من النساء اللاتي التقتهن نوريكو عن السياسة مطلقًا، حرصت على تجنب هذا الأمر الشائك، وهن بالتأكيد يعرفن القواعد أكثر منها، لكن الجميع اشتركن في شعور واحد؛ هو الندم.
وطن في الصور(المقال)..
مرت ستة عقود منذ أن ركبت ميتسوكو ميناكاوا العبَّارة وتحركت من سواحل بحر اليابان نحو حياتها الجديدة في كوريا الشمالية. لكن معاناة ذلك اليوم المشمس في ربيع عام 1960 لم تفارقها قط.. قبل شهرين من ذلك التاريخ تزوجت ميناكاوا من شاب كوري، هو تشوي هوا جاي، زميلها في جامعة هوكايدو، إذ كانت المرأة الوحيدة في فصل مكوَّن من 100 طالب.. وكانت ميناكاوا، التي كانت تبلغ من العمر 21 عامًا آنذاك، وتشوي من اللاجئين ذوي الأصول الكورية في اليابان، وهما من نسل الأشخاص الذين جلبهم المستعمر الياباني من شبه الجزيرة الكورية للعمل في المناجم والمصانع. ووفقًا لتقارير جمعية الصليب الأحمر اليابانية فإن عددًا من الأشخاص، يقدر بنحو 93 ألف كوري، يُعرفون باسم زينيشي، قد انتقل إلى كوريا الشمالية بين عامي 1959 و1984، كان من بينهم 1830 يابانية تزوجن، مثل ميناكاوا، من رجال كوريين، وعدد أقل من الرجال اليابانيين تزوجوا من زوجات كوريات.
رحبت كوريا الشمالية، التي أسسها كيم إيل سونج عام 1948، بالكوريين العائدين بأذرع مفتوحة، على الرغم من أن جميعهم تقريبًا لديهم روابط عائلية بكوريا الجنوبية. وفي مقابل المساعدة في إعادة بناء جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية التي دمرتها الحرب. وُعد ميناكاوا وتشوي، بالإضافة إلى عشرات الألوف الآخرين، بجنة اشتراكية لا يمكن لأبناء عمومتهم المضطهدين من قبل الولايات المتحدة في الجنوب الرأسمالي إلا أن يحلموا بها.
وبغض النظر عن أي جانب من الحدود جاءوا منه، واجه الكوريون في اليابان شكوكًا وتمييزًا. تحكي ميناكاوا، وهي واحدة من ثماني نساء وثَّقت المصورة اليابانية الحائزة على عدة جوائز نوريكو هاياشي حياتهن في كوريا الشمالية “كان زوجي كوريًّا من أصول فقيرة.. وكانت عائلتي ضد زواجنا ولم تحضر حفل زفافنا.. وقد بكت والدتي كثيرًا، وقالت: أرجوك لا تذهبي.. فكري فيما تفعلين.. عندما أتذكر قولها ذاك، لا يسعني إلا البكاء، كان عمري 21 عامًا فقط”.. بعد الزواج اتخذت ميناكاوا الاسم الكوري كيم جوانج أوك، واستقرت هي وزوجها، الذي توفي عام 2014، في مدينة وونسان الساحلية الشرقية، حيث عمل تشوي مسؤولاً في إحدى مصايد الأسماك، بينما اختارت البيت لتربي أطفالهما.
كان نوريكو هاياشي قد قرأت عن برنامج العودة إلى الوطن، الذي يقر بأن “العائدين” شملوا نساء يابانيات لم تطأ أقدامهن كوريا الشمالية من قبل. تقول هاياشي “لم أكن سمعت قط أيًا من القصص الشخصية لهؤلاء النساء.. أردت أن أسمع شعورهن تجاه اليابان بعد 60 عامًا من مغادرتهن، وما الذي فاتهن، أردت أن أعرف المزيد عن حياتهن في كوريا الشمالية”. وطبعًا كان من الصعب الوصول إلى كوريا الشمالية، خصوصًا بالنسبة لمصورة فوتوغرافية مستقلة من اليابان؛ الحاكم الاستعماري السابق لشبه الجزيرة الكورية. كما كان للبيئة السياسية تحدياتها الخاصة؛ ففي عام 2002، اعترف زعيم كوريا الشمالية آنذاك، كيم جونغ إيل، بأن جواسيس النظام قد اختطفوا مواطنين يابانيين خلال السبعينيات والثمانينيات، وفي الآونة الأخيرة، أثار برنامج الأسلحة النووية الكوري إدانة دولية واسعة.
وفي خلال زيارتها الأولى في عام 2013 مع منظمة غير حكومية يابانية، أقنعت نوريكو مرشديها الكوريين الشماليين أن هدفها الوحيد هو مقابلة النساء والاستماع إلى قصصهن والتقاط صورهن. وعلى مدى 12 زيارة لاحقة، أجرت مقابلات مع نساء والتقطت لهن الصور في منازلهن في العاصمة بيونج يانج، وفي وونسان، وفي هامهونج؛ ثاني أكبر مدينة في البلاد. وحددت نوريكو خيطًا عاطفيًّا يربط بين قصص جميع النساء: الرغبة التي لم تتحقق في كثير من الأحيان في زيارة البلد الذي ولدت فيه “بصفتي امرأة يابانية، شعرت برابطة عاطفية مع قصصهن.. ولمرات كثيرة لمحت المشاعر التي كانت مختبئة في أعماق قلوبهن لسنوات عديدة”.
عندما غادرن إلى كوريا الشمالية، كانت هؤلاء النساء على يقين من أنهن سيتمكن من العودة إلى اليابان لزيارة عائلاتهن بمجرد أن تستقر حياتهن الجديدة. لم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين البلدين، وكان السفر بحرية بين اليابان والشمال مستحيلاً. لا تزال تحركات الكوريين الشماليين العادية تخضع لرقابة النظام الصارمة حتى الآن. وبعد مرور عقود، تمكنت خمس نساء فقط من بين اللاتي قابلتهن نوريكو من العودة إلى اليابان لفترة وجيزة. إجمالاً، سُمح لـ 43 زوجة يابانية بالعودة إلى وطنهن لبضعة أيام ضمن فاعليات برامج “العودة إلى الوطن” التي نفذت في الأعوام 1997 و1998 و2002. ارتبطت النساء اللائي التقتهن نروريكو بصلات طفيفة ببلدانهم الأصلية، وبالنسبة لبعضهن كانت علاقاتهن الإنسانية هي الصلة الوحيدة المتبقية التي تربطهن بالبلد الذي ولدن فيه. جميع النساء الثماني اللائي صورتهن، الآن في السبعينيات والثمانينيات من العمر، وقد ترملن، وتوفيت ثلاث منهن منذ ذلك الحين. وفي العام الماضي اضطرت نوريكو إلى تعليق زياراتها إلى كوريا بسبب الوباء.
تتذكر نوريكو أنهن كن يضحكن ويبتسمن كلما زارتهن، ويمسكن بيدها ويقدمنها للأبناء والأحفاد. بعد فترة، كان مرافقي نوريكو الكوريين الشماليين يغادرون الغرفة، ويتركونهن ليتحدثن على راحتهن. ولكن حتى عندما كانت تنفرد بهن لم تبد أي منهن حريصة على مناقشة الأمور السياسية، أو الأجيال الثلاثة من سلالة كيم، التي حكمت كوريا الشمالية لأكثر من 70 عامًا. تقول نوريكو “لم يكن في نيتي أن أنتقد نظام كيم جونج أون.. أردت فقط أن أفهم هؤلاء النساء كأشخاص، أن أستطلع مشاعرهن والبيئة التي وجدن أنفسهن فيها”.
قررت نوريكو إحياء الذكريات الباهتة للنساء من خلال التصوير الفوتوغرافي؛ فزارت موطن كل واحدة منهن لتوثيق الأماكن التي ذكرنها في حواراتهن معها، ثم طبعت هذه الصور على قطع ضخمة من القماش “المشمع”.. وعندما أطلعتهن على الصور الأصلية بدا عليهن التأثر، لكن ظللن ساكنات تمامًا “وعندما أريتهن المطبوعات الضخمة، كان رد فعلهن على العكس من ذلك تمامًا.. تفاعلن بحيوية مع الصور.. ولامسنها ولففن حولها”. حتى إن ميناكاوا رشت عطرًا برائحة زهور الكرز – هدية من نوريكو – على صورة لأشجار الساكورا المزهرة التي التقطتها المصورة في مسقط رأسها في سابورو.
تقول نوريكو “عندما غادرن اليابان، كن مقتنعات بأنهن سيكن قادرات على زيارتها بحرية بعد بضع سنوات، لكن هذا لم يحدث.. لقد عارض معظم آبائهن القرار الذي اتخذنه بالمغادرة، لكنهن أخبروهم ألا يقلقوا، وأنهن سيرونهم مرة أخرى.. وفي النهاية، لم تتمكن واحدة منهن حتى من رؤية والديها قبل وفاتهما.. وكن يبكين في كل مرة يتحدثن فيها عن هذا الأمر”.
انتقلت أيكو ناكاموتو إلى كوريا الشمالية مع زوجها عام 1960، بعد أن تزوجت في 1958. مسقط رأسها في محافظة كوماموتو، جنوب غرب اليابان “عندما كنت صغيرة غالبًا ما كنت أذهب إلى الأماكن المقدسة مع أصدقائي وألعب هناك.. وعندما قابلت زوجي كان عمري 26 عامًا.. في البداية لم أعرف أنه كوري لأنه كان يتحدث اليابانية بطلاقة.. كان شخصًا دافئًا حقًا، وقد وقعت في حبه”.. لم تعد ناكاموتو، واسمها الكوري كيم آي سون، إلى اليابان منذ أن غادرتها قبل 60 عامًا، ومن غير المرجح أن تفعل ذلك “يكفيني حتى ساعة أو ساعتان.. أريد فقط أن أزور مسقط رأسي وقبر أبي وأمي”.
أخبرت نساء أخريات هياشي عن شوقهن لعائلاتهن التي خلفنها وراءهن. توفيت فوجيكو إيواسي في كوريا الشمالية عام 2018. وفي مقابلة مع نوريكو قبل وفاتها، تحدثت عن لقائها الأخير مع والدتها وشقيقتها اللتين زارتهما في طوكيو قبل مغادرتها اليابان. وقد أخبرت نوريكو عندما التقيا في مقهى في هامهونج “كنا نعتقد أننا سنلتقي مرة أخرى في غضون سنوات قليلة.. منذ مجيئي إلى كوريا لم أعمل في أي مكان خارج المنزل مطلقًا، لكنني أحب الحياكة.. درس زوجي في الجامعة وأصبح طبيبًا.. عندما تكبرين تبدأين في التفكير في الأيام الخوالي في بلادك القديمة”.
كانت تاكيكو آيد واحدة من النساء القلائل اللائي شاركن في برنامج العودة للوطن في عام 2000 “التقيت بزوجي عندما كان عمري نحو 15 عامًا.. عندما كنا نعمل سائقي أوتوبيس.. عارضت والدتي زواجنا لأن زوجي كوري.. فانتقلنا إلى كوريا الشمالية عام 1961 دون إخبارها.. أنا ابنتها الوحيدة، لذلك لا بد أنها شعرت بالحزن الشديد وخيبة الأمل”. وقد عادت تاكيكو إلى اليابان للمرة الأولى منذ 39 عامًا لتكتشف أن والدتها توفيت قبل عامين، عن عمر يناهز 99 عامًا “وعندما تمكنت أخيرًا من زيارة قبرها، اعتذرت لها”.
من بين جميع النساء اللاتي قابلتهن، تقول نوريكو إنها وجدت نفسها أكثر انجذابًا إلى ميناكاوا، التي كانت امرأة مستقلة للغاية؛ اختارت أن تعيش مع الرجل الذي وقعت في غرامه، وأن تبني الحياة التي أرادتها في سن الحادية والعشرين، مع أن ذلك كان يعني الانفصال التام عن أصدقائها وعائلتها في اليابان. أخبرتني “عندما غادرت اليابان، كنت أركز على سعادتي فقط، لكن والدتي كانت قلقة للغاية.. ولم أفهم كيف كانت تشعر حينها إلا بعد أن أنجبت أطفالي”.
كانت نوريكو حريصة على تجنب إعادة فتح الجروح العاطفية، لذلك لم تسأل أي من النساء اللاتي التقتهن بشكل مباشر عما إذا كانت نادمة على مغادرة اليابان “أتخيل أنهن أصبن بالجنون عندما أدركن أنهم لن يكن قادرات على العودة أبدًا.. في الوقت نفسه، عندما رأيت كيف كن يتعاملن مع أطفالهم وأحفادهم، رأيت أنهن معتزات بحياتهن وعائلاتهن في كوريا الشمالية.. وإذا أتيحت لهن الفرصة لزيارة اليابان مرة أخرى فسيفعلن ذلك بكل تأكيد.. أخبرتني إحداهن أنه حتى زيارة قصيرة ستكون كافية.. عندها ستكون قادرة على الموت بسلام”.
تتواصل اثنتان من النساء الخمس الباقيات على قيد الحياة مع عائلاتهما اليابانية عن طريق الرسائل؛ فالمكالمات الهاتفية رفاهية باهظة الثمن في كوريا الشمالية، والوصول إلى البريد الإلكتروني امتياز لا يتمتع به إلا النخبة السياسية في بيونج يانج.. بينما فقدت الأخريات، بمن فيهن ميناكاوا الاتصال بأشقائهم. وحتى بعد أن قوبلت محاولات نوريكو للتحدث مع أقارب النساء في اليابان بالرفض المهذب، فإنها تأمل أن تلقي صورها الضوء على فصل مهمل في التاريخ الياباني “لقد نُسيت هؤلاء النساء في اليابان، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى التوترات السياسية الدولية، وإذا لم يوثق تاريخهم الشخصي الآن، فإن تجاربهن ستموت معهن”.
تبلغ ميناكاوا السابعة والسبعين من العمر، وكلما نظرت من نافذة منزلها المطلة على المحيط في وونسان تتشكَّل صورة ذهنية للبلد الذي غادرته عندما كانت شابة “أريد أن أذهب إلى اليابان للمرة الأخيرة إن أمكن.. في شهر مايو من كل عام، عندما تتفتح أزهار الأكاسيا، أفتح النافذة لينساب عطرها إلى غرفتي.. في كل مرة يحدث ذلك، أتذكر الوطن”.