ترجمة العنوان هي “سمكري، خياط، جندي، جاسوس”. العنوان تحريف لأنشودة إنجليزية يستخدمها الأطفال للعد وتصفية الاختيارات. أما في فيلمنا، وهو مقتبس عن رواية لجون ليكاري رائد روايات الجاسوسية وعميل المخابرات السابق، هي أسماء مشفرة عن شخصيات الفيلم والرواية الأساسيين. أعطاهم مدير الجهاز “كونترول” (جون هارت) تلك الألقاب عندما اجتمع في منزله سرًّا بـ”جيم بريدو” (مارك سترونج). كلفه بزيارة بودابست ومقابلة جنرال سوفيتي يود التعاون مع الغرب في إطار حرب الجواسيس التي دارت بين المعسكرين الشرقي والغربي في الحرب الباردة. يحتفظ ذلك الجنرال بمعلومة خطيرة وهي اسم عميل السوفييت، “الخلد” كما أسماه كونترول، في قمة المخابرات البريطانية، “السيرك” كما أطلق عملاؤها عليها. وانتظر كونترول إشارة بإسم من الألقاب المذكورة من بريدو. لكن العملية باءت بفشل كارثي أدى لتغير جذري في إدارة السيرك.
تبدأ رحلة مكثفة الغموض، وذلك لطبيعة المجتمع قيد الاهتمام وسريته. ماذا حدث في بودابست؟ هل هناك عميل سوفيتي داخل السيرك؟ ومن هو؟ وفي ذلك النوع أكثر من غيره وجب على الراوي الحذر في تدريج المشاهد نحو الإفصاح. كل خطوة نحو حل اللغز يجب الا تدرك على أنها معلومة، بل يؤجل السرد الذكي ذلك الادراك لمرحلة متقدمة. زاد التركيز في اللغة السينمائية على الإيماءات وردود أفعال تبدو طبيعية للوهلة الأولى، وشارك تلك اللغة السرد في الذهاب والإياب بين المشاهد المحورية لاعادة تسليط الضوء على جوانب جديدة تناسب كل مرحلة في بناء الهيكل وأبعاده لدى المتلقي.
القياس النفسي
لا تخلو الأحداث من معالم تتطور عندها الرحلة، لكن ما يعنيني هنا هو تعامل الشخصيات مع تلك المواقف. تشفير الدوافع في مفردات وأسلوب كلام ولغة جسدية تنجح بتوريط المتلقي في مسؤولية الإجابة على أسئلة الفيلم. يمكن توضيح مرجعية للسلوكيات المختلفة تقوم بدور إرشادي، وتسهم في التحليل. وربما استعان بها البعض مستقبلاً في كتابة شخصيات أعماله.
في شرح تبسيطي وسطحي للنفس البشرية، يمكن تقسيمها لثلاث أبعاد. البعد الأعمق هو المعتقدات، وهو مستوى قد يكون مربك لأصحابه في المقام الأول. البعد الأعلى هو الشخصية، ويحتاج ذلك المستوى لتحليل وتدقيق يتجاوزان الانطباعات الظاهرية. أما البعد الأكثر بروزًا فهو السلوك، وهو ما يتضح للمراقب بقليل من التأمل. بين تشعبات علم النفس، يعتني القياس النفسي بالأنماط السلوكية لقراءة تصرفات أصحاب تلك الأنماط ودوافعها. ظهرت كثير من النماذج القياسية، أحدثها وأكثرها شيوعًا مؤخرًا هو الإنياجرام. لكننا سنتطرق لنموذج أكثر بساطة كي لا ننحرف عن موضوعنا الأساسي.
قدم نموذج الـDISC الطبيب والمؤلف مارستون*. وهو نموذج يعرض أربعة أنماط يمكن التداخل بينهم. المسمى اختصار لمسيات الأنماط. الـD تشير إلى الDominance، والـI إلى الinfluence، والـS إلى الsteadiness، والـC إلى الCompliance. الأربعة أنماط السلوكية الرئيسية هم السيطرة، التأثير، الثبات، والالتزام. لا يحتل نمط واحد سلوك بأكمله، ولكننا نتحدث عن النمط السائد وسط الباقي. يمكن أيضًا أن يسود نمطان، ويمكن ثلاثة، ويسمى أصحاب الثلاثة أنماط السائدة بذوي القدرات التكيفية العالية. في بعض الأحيان يجتمع نمطان متضادان ويخلقان نوعًا من الاحتكاك الداخلي لأصحابهم، والذي لا يكون بالضرورة سلبيًّا بل أحيانًا يصير نقطة تمييز.
يكشف الصوت العالي الشخصية ذات النمط المسيطر، إضافة إلى لغة جسدية سريعة وحادة. يعكس ذلك حماسها للتنافس والإمساك بزمام الأمور من جانب، وتململها من الروتين وايقاع التفاصيل والاستقرار المملين. يهمها التفرد والتبادر، المخاطرة ونشوة الانتصار. يستفزها الشعور بأنها لم تنل الاحترام والاعتبار الكافيين، وعادة ما كان الضغط نتيجته الغضب. أما أصحاب النمط التأثيري، فهم ذوي حضور لافت، أو هكذا تمنوا. يظهرهم صوتهم المجسم ولغة جسدهم الانفعالية التي تبعد قدر الإمكان عن الرسمية والحذر. همهم التقبل الاجتماعي والانتشار، احتلال مركز التجمعات والمجاملات. يؤرقهم الالتزام والسكون، ويشغلهم رأي الآخر إلى حد لجوئهم للوعود المبالغ فيها للتملص من تلك الخلافات.
يقع النمطان الباقيان في الجانب الآخر من الرباعي. نمط الثبات صاحب الصوت الهادئ واللغة الجسدية الخافتة، ويكشفه تشبثه بالآمان وقلقه من التغيير. تحتاج تلك الشخصية تدرج نحو أي جديد وضمانات لاستقرار الأوضاع وإلا تجمد عقله وفقد القدرة على التصرف. وتستمد حماسها من تقدير ولاءها وبقاء من تهتم لشأنهم قريبين. والأخير، نمط الالتزام هاوي النظام والمعلومات والتحليل، تعرفه من صوته الرتيب وغياب تعبيرات وجهه. يحترم المرجعية ويقدر العمل. يحمسه جودة ما يحققه ويقلق من انتقاده.
في الفيلم، الذي يدور عن جماعة سرية داخل مجتمع سري، يعرض مشهد اجتماعًا مغلقًا لإدارة المخابرات في استرجاع لذاكرة “جورج سمايلي” (جاري أولدمان)، شخصيتنا الرئيسية. وفي أثناء الفيلم يستحضر خيال جورج لحظات مختلفة من ذلك الاجتماع والمشهد المحوريين. يبدأ بصوت مدير المخابرات “كونترول” ينادي بصوت صاخب جورج، يحضرنا صوته للغرفة والاجتماع القائم في انتظار مثول جورج. يجلس جورج ويتفقد بعض المستندات بأمر من كونترول، ثم يسأل بهدوء من أين لكنترول بها. يجيبه الأخير بأنه ليست له ولكنها إنجاز “ألالاين” وصبيه، في إشارة مهينة لـ”استرهيز”. يشك سمايلي في صحة المعلومات لطبيعتها الفائقة ويسأل عن المصدر. حينها لا يفصح ألالاين عن مصدره لكنه يكشف عما جد بالأمور. يسخر كونترول مما حدث مخبرًا سمايلي عن عملية بيرسي الجديدة التي سيديرها بشكل مباشر بعيدًا عن إشرافه. ويبرر ألالاين ذلك غاضبًا بسوء الإدارة سابقًا واخفاقاتها الأخيرة المتكررة ومن بينها حادثة بودابست.
يومئ هذا المشهد بلمحات عن كل شخصية حاضرة به. ويكشف خافتًا من خلال سلوك كل منهم عن دوافعهم المحتملة تجاه القادم، أو في حالة السرد غير الخطي للفيلم، القائم بالفعل. فجورج ينتبه للتفاصيل ويسبقه حسه التحليلي في استفساراته بنبرته الرتيبة الغير عاطفية. وكونترول غاضب وعنيف تجاه من لم يقدروا منصبه وتجاوزوا في حقه عندما جردوه من مكانته كمشرف عليهم، يمثلهم ألالاين الذي يقابل غضب مديره بغض مماثل. أما “بلاند”، فهو صامت لأنه ليس بأفضل حالاته أمام الصدام والتغيير المفاجئ، وعندما تدخل أشار إلى أهمية الانتباه للتعاون ضد الشيوعيين بدلاً من الخلاف الداخلي. وأخيرًا “هايدن” (كولن فيرث) الذي يجلس مسترخيًّا بشكل لا يناسب اجتماع رسمي، وعندما صرخ كونترول طاردًا الجميع ظل مكانه قليلاً آملاً أن تكون مكانته مميزة لدى رئيسه قبل أن يغادر مرتبكًا. فنحن أمام شخصية ملتزمة وهي جورج، وشخصيتان مسيطران وهما كونترول وألالاين، وواحدة ثابتة وهي بلاند، وأخرى تأثيرية وهي هايدن.
جورج سمايلي (الشخصية الرئيسية)
يحمل جورج سمايلي هم فك اللغز. هم تمليه شخصيته ووظيفته عليه من جانب، ودوره في السيناريو في تطوير الأحداث لنا كمشاهدين من الجانب الآخر. لذلك سنكتفي بتسليط الضوء على تلك الشخصية دون غيرها. تقوم الحبكة على إعادة طرح شكوك كونترول حول وجود عميل للروس في قمة المخابرات البريطانية. دفع ذلك وكيل وزراة الدفاع إلى الاستعانة بسمايلي، الرجل الثاني في الجهاز سابقًا، كذراع آمن تأكدت أمانته باستمرارية الشكوك بعد مغادرته مع رئيسه. عندما قاوم سمايلي العرض استفزه وكيل الوزارة عندما ذكره بأنها فرصة لتطهير صورته وإرث جيله. حينها أضاف الوكيل إلى فضول سمايلي حافز آخر وهو جودة ماقدمه الأخير. كما أوضحت السلوك الالتزامي يقدر العمل ويخشى الإخفاق والنقد. هنا وقع اختيار جورج على المضي قدمًا وتسوية ما ظل عالقًا.
في تقديم سمايلي، رأيناه يجدد كشف النظر ويرتدي نضارة طبية جديدة بعد مغادرته مبنى المخابرات، السيرك، معتزلاً. كانت العدسات الحديثة مؤشرًا لنظرة الجاسوس الجديدة واستعداده للمراجعة. وهو ما اختاره السرد عندما تجاوز التراتبية وعبر بين الأزمنة مرارًا ليعيد رواية بضعة مشاهد بعين أنقى. مشهد احتفال المجموعة بعيد الميلاد الذي يربط الشخصيات الأساسية ببعضها ويوضح طبيعة علاقة كل منهم بالآخر. مشهد مقابلة الجنرال العميل ببودابست وما كان متخفيًا بها. ومشهد الاجتماع الذي حكيته مسبقًا. وعن مخاوفه ونقاط ضعفه، نتابعه في روتينه اليومي وكيف أن منزله بعد انفصال زوجته عنه صار مكانًا غير آمن، زرع ببابه قطعة خشبية ضئيلة تنبهه إن كان اختراقه. أما في بداية رحلة التحقق، نرى سمايلي جالسا في المقعد الخلفي لسيارة يقودها احدى مساعديه بجوار الآخر. لزمتهم نحلة من المشهد السابق الذي احضرا فيه سائق السيارة، والعميل السابق، من منحله الخاص. في إطار ثابت لظهورهم من زجاج النافذة الخلفي، تقترب النحلة من السائق فيلوح بيده، تقترب من المساعد الثاني فيلوح متوترًا عدة مرات، تحلق لحظة ثم تقترب من سمايلي الذي يتابعها في هدوء، يستغل اقترابها ويفتح نافذته بحركة ساكنة، تخرج النحلة ويعود ويغلق النافذة بنفس الثبات. وهي ذات الطريقة التي سيتبعها في إسقاط شبكة الجاسوسية التي كلف بكشفها. استقر أولاً في شقة كونترول، الذي كان قد توفي، ثم انتقل لمكان أكثر سرية بجوار شريط سكة حديدي. وكان أول ما طلبه من مساعده الدخيل المتعاون هو إحضار بعض الدفاتر للتحقق من السجلات. كانت تسجيلات حركة الصرف الطرف الأول للخيط. حتى مع اقتراب سمايلي من تكوين الصورة الكاملة للأحجية، يقرر زيارة جيم بريدو في منفاه، حيث بدأ كل شئ. وعوضًا عن لقاء مفعم بحوار وتوتر يقود لتصالح الطرفين مع ما آلت إليه تحقيقات سمايلي، يعطي سمايلي وصناع الفيلم من وراءه لحظة يستعد بها بريدو لما ينتظره. بينما يتابع تلاميذ يركضوا في سهل خارج المدرسة، ينتبه لحضور سمايلي على مرتفع أول الطريق المجاور. يقف سمايلي معطيا ظهره للجمع بالأسفل ويظل هكذا أثناء تفقد بريدو له وحوار الأخير الجانبي مع أحد التلاميذ حول ماهية ذلك الرجل في الأفق الذي لا يجذب انتباهه صخب أطفال حول سيارة يقودها أحدهم. كانت رسالة مشفرة من سمايلي يدعو بها بريدو للاستعداد. يخبره بأنه على علم بما حدث وأن بريدو صار يعلم ذلك وأن سمايلي يعلم أنه يعلم. كان يومئ له بأن النهاية وشكت ولا جدوى من المقاومة. واستوعب بريدو بدوره الرسالة وتجاوب أمام أسئلة سمايلي عندما اختلى به.
عكس المنطوق وطبيعته ذات السلوك عند الشخصيات، طريقة التعبير بجانب المفردات الناتجة عن دافع جانب منه يفضح صوت اللاوعي. سمايلي قليل الكلام كما هو نادر تعبيرات الوجه. يكتفي في كثير من المشاهد بإشارة من رأسه لقول ما يريد. وحين يتكلم تغلب صيغة الاستفاهم ما يدلي به. يسمع أكثر مما يتكلم، وهو ما يجعله الأنسب لمهمته ولقاءاته مع شخصيات جانبية لديها ما يفيد تكوين الصورة الكاملة. عدا مشهد وحيد ترك به سمايلي المجال لروحه قليلاً، وتطلب ذلك كثيرًا من الكحول. جلس مع مساعده في لحظة أراد بها مراضاة الأخير وتأكيد الثقة بينهما. احتسى الويسكي حتى أنهكا، ثم حكي عن المرة الوحيدة التي قابل بها “كارلا”، العدو، مدير مخابرات السوفيت. استحضر المقابلة وأعاد ما قاله لكارلا حينها كأنه لا يزال يجالسه. كان يواجه الفراغ وصوِّر من زاوية جانبية، وهي عين مساعده، ثم زاوية أمامية قريبة حتى بدى لنا من يتحدث عنه، كارلا. لم يظهر كارلا بشخصه طوال الفيلم، لم يكن هناك حاجة لذلك، حتى في المشاهد التي حضر بها. وحين سأل مساعد سمايلي عن شكل كارلا، أجابة الأخير “لا أذكر” وأنهى الحوار. صارت شخصيته مضاد مساو لشخصية سمايلي، كأننا نتحدث عن أنا أخرى (alter ego) لشخصيتنا الرئيسية. تكرر التجريد في شخصية “آن”، زوجة سمايلي الغير مخلصة، كما في شخصية كارلا. لم يظهر وجهها في مشهد حفل عيد الميلاد. تشيئ وجودها إلى جوابات تراكمت فوق طاولة بجوار مدخل المنزل وولاعة هدية حفر اسمها واسم زوجها عليها بإهداء. وصارت عقدة ارتبط إخلاصها بكفاءة سمايلي. وجودها في علاقة شرطية بنجاح وفشل شخصيتنا الرئيسية. كونها جزءًا من انتصاراته وهزائمه، ونموذج من علاقته بما يحققه، لم يعد هناك حاجة للكشف عن وجهها وأنسنتها.
لم يكن فيلمنا هو الأول في استخدام تنوعات الأنماط السلوكية لتغذية شخصياته وخلق تباين بينهم يحفز التفاعلات ويرسم عقبات تدفع السرد للأمام. ولن يكون الأخير. فأفلام ديزني على سبيل المثال حريصة على هذا العرض في شخصيات الفيلم الواحد. لكن ما يميز فيلم “سمكري، خياط، جندي، جاسوس” هو تضافر شكله ومضمونه. استخدم معطيات سلوكية مختلفة وشفرها داخل الحكي في إطار تعكسه لغة سينمائية وتركز على لحظاته المهمة. كل ذلك تم تحت عباءة نوع مناسب، أو تمازج أنواع مناسبة.
*Marston, William M. (1928). Emotions of Normal People. K.
Paul, Trench, Trubner