ما يفعله أنطونيوني في الفراغ

في رحلة البحث عن المعنى

محمد هاني

“لقد بدأ هذا الشاب الإيطالي يقلقني”.. 

ألفريد هيتشكوك، بعد مشاهدة Blow-up.

نتأمل صرحًا صناعيًّا يعمل بكفاءة. يؤكد تلك الكفاءة إيقاع ثابت لصوت محركات. تتحرك الكاميرا يمينًا ببطء لتكشف عن تجمهر خارج ذلك الصرح. تقدمنا لأول علاقة مركبة مع الإنتاج. وهي العلاقة المألوفة بين العامل وصاحب العمل. ثم تظهر في الأفق الشخصية الرئيسية (مونيكا فيتشي)، في رداء أخضر يميزها، بصحبة ابنها. تتجول وسط الجمع وتقترب من أحدهم تعرض عليه شراء شطيرة بدأ فعلاً في أكلها. يثير توترها شكوك حول حالتها النفسية، ثم تزيد الشكوك حينما تهمل صغيرها وتنسحب إلى جانب خالٍ تأكل به ساندوتشها في عجالة وريبة. تتأمل المكان لتجد نفسها وسط مخلفات المنطقة الصناعية المادية (صورة رقم ١) . هكذا يقدم لنا مايكلانجلو أنطونيوني في فيلمه “الصحراء الحمراء” بطلته التي يضللها الخواء بين هوياتها كامرأة وزوجة وأم في ذلك العالم الذي يشهد انتعاشًا وتقدمًا ورخاءً.

انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام المحور غير المشروط. أنهى قذف الحلفاء ما صمد من اجتياح النازي، ثم شرع مشروع مارشال في معالجة ذلك الخراب، وتولت الولايات المتحدة مهمة إعادة إعمار أوروبا الغربية. في إيطاليا، وثق تيار الواقعية الجديدة المقاومة وسط الأطلال في أفلام الرواد روسيلليني وفسكونتي ودي سيكا. اشتركت أفلام ذلك التيار في الالتفات لمعاناة الناس العاديين وتصويرها على ذات النحو. دارت الحكايات في مواقع حقيقية وبدى الممثلين دون مكياج أشبه بالشخصيات التي جسدوها. ظهر المرحاض لأول مرة على شاشة السينما، وتم التأكيد على دور الفن كتصوير جميل للأشياء عوضًا عن تصوير الأشياء الجميلة.

على الجانب الآخر من الأطلنطي، اندفعت هوليود بصورة نمطية إلى تصوير حياة الضواحي الجديدة حيث البيوت الواسعة بحدائقها المزهرة في أفلام ملونة. سميت تلك المرحلة باسم قائدها إيزنهاور. حرص التيار العام من صناع الأفلام على الترويج لجهته مقابل الجهة الأخرى في الحرب الباردة التي قد بدأت حينها. إلى جانب التيارين السابقين تفرعت تيارات أخرى لم تجذبها الهموم السابقة. بين دوافع شخصية وفنية وثقافية، وأحيانًا سياسية، انتبه فنانون إلى حجم الفراغ الذي تجاوز الإجابات المتاحة.

في العقد التالي للحرب، بدأ معاصروها الوعي بصدمة أهوالها والإحباط من علاج المنتصر لآثارها. لم ير المتضرر ما يمنع أبشع الفجائع وشاهد كل الأطراف ترتكبها. تبلور حينها السؤال حول معنى الحدث، وكيفية التعاطي مع غيابه. كان هذا الغياب مصدر وحي مايكلانجلو أنطونيوني. وتفرد برؤية ما لم يراه غيره في ذلك الفراغ.



الصورة رقم ١

السؤال

انشغل أنطونيوني بالبحث عن المعنى بين الفلسفات الرئيسية المعنية. الفكرة الأولى هي أسبقية الوجود عن الماهية، وتشكيل المعنى من معطيات الحياة وخبرات أصحابها. الفكرة الثانية هي العدم والغياب التام لأي معنى. والثالثة، التي شكَّلت اهتمامه الأكبر وحفزت نقاش مكثف في جيله، هي العبث. توافق العبثية ما سبق في أنها لا ترى معنى متأصلاً للحياة، لكنها ترى في البحث عن المعنى سلوكًا طبيعيًّا، لكن اصطدام منطقية الباحث مع واقع الطبيعة ينتج ذلك العبث. يبقى لنا حينها ثلاثة اختيارات: الانتحار، لفقدان الحياة أي معنى، أو موت الفلسفة، وهو التخلي عن المنطق مقابل الإيمان بما يرضي صاحبه دون دليل عقلاني، أو تقبل العبثية والكف عن محاولة السعي مقابل الامتنان بما تفعله الطبيعة بنا.

يختبر أنطونيوني شخصيته الرئيسية حول تلك المعضلة. ويشارك المشاهد نفس الاختبار. عندما تمكن الهوس من المصور في Blow-up، وظل يطارد ما قد يسفر عن سبب لما شك أن تكون جريمة، مما زاد الغموض وكثَّف ضبابية الرؤية. وحين رجع في آخر رحلته لذات الحديقة، التي شك بأنها مسرح الجريمة، وصوره أنطونيوني في لقطات تكاد تطابق الزيارة الأولى، اقتحم خلوته جماعة من المهرجين الشباب بمكياج يحاكي فناني البانتوميم. اختاروا ملعب تنس ولعب بقيتهم دور الجمهور، وأقاموا مباراة دون كرة ومضارب. لكن الكل تابعها بصدق، حتى الكاميرا تحركت مع الكرة الوهمية وأثارت الشكوك حول وجودها من عدمه. انحرفت إحدى الضربات وألقت بالكرة “الوهمية” خارج الملعب تجاه المصور. نظر له الجمع بعين رجاء. تردد قليلاً ثم ذهب وجلب الكرة وقذف بها للاعبين. وقف وحيدًا لا حول له، يتابع باقي المباراة، ويتنامى لسمعه صوت الكرة والمضرب. نراه من زاوية عالية قبل أن يغادر .. .الإطار ويتركه فارغًا. وبقي المشاهد يتساءل حول ما كان القرار بتقبل العبث أو موت الفلسفة (صورة ٢)

يطرح مايكلانجلو المسألة بمنهجية بنائية. يتعامل بها مع المتلقي باعتباره طرفًا فعالاً لا سلبيًّا. يبني معرفته من خلال تفاعل المعلومة الجديدة مع تراكمات خبراته والتفكير حولها، ومن ثَم دمجها مع المخزون المعرفي الفردي. وهو أسلوب اتبعه مخرجون مناهضون لسينما التيار العام لأنهم يروا أن صناعة الأفلام المقابلة تفتقر للكثير بإدعائها الحقيقة، أو اقتراح حل للمسألة الإنسانية. وعلى جانب آخر، وجدوا في الاستسلام لسلبية المتفرج تنازل عن فرصة هائلة لارتباطه بالعمل الفني، ومدى أثر المُنتَج عليه.

الصورة رقم ٢

الطرح

مثل دورها في “الصحراء الحمراء”، تلعب فيتشي دور مترجمة في “الخسوف”. وتربطها علاقة بمضارب في البورصة (آلان ديلون). جميع أدوارها مع أنطونيوني، وكذلك أدوار الشخصيات المحيطة، تقع في إطار العمل النخبوي. يدور عالمه في هذه الطبقة التي كفت احتياجاتها الأساسية وتتطلع إلى تحقق ذاتي ومعنوي. لا يشغلها الجانب المادي على النقيض من شخصيات جيل الواقعية الجديدة. عادة ما رأيناهم في سيارات فارهة تقودهم إلى اضطرابات تؤثر على ما حققوه مسبقًا في هرم احتياجاتهم (الصورة رقم ٣).

في مقدمة “الليلة”، يعرض التتر على واجهة بناية زجاجية من عين مصعد خارجي. نرى انعكاس نهار المدينة على النوافذ. يصل الزوجان ماستورياني ومورو في سيارة فخمة أمام مستشفى لزيارة زميل يصارع الموت. يحاولا التهوين عليه قدر الإمكان والحفاظ على ابتسامة تفاؤلية طول الزيارة. يتحدثان حول عمل ماستورياني الأدبي الأخير وصداه. يقتربون من لحظة احتفال بزجاجة شمبانيا قبل أن تتدخل ممرضة مانعة المريض من أي تهور. تغادر “مورو” أولاً. نراها وقد اختلت بنفسها في ركن من الشارع تبكي إثر ما رأت. نرجع إلى غرفة المريض وقت مغادرة الزوج الذي يقابل في الطرقة مريضة ذهان جميلة تطلب منه أن يشعل سيجارتها. يتردد، ثم يقترب منها فتجذبه لغرفتها، يستجيب لها ويلحق بفراشها، تقتحم ممرضتان خلوتهما ويمنعاها عما همَّت به. يغادر ماستورياني موصومًا بفعلته أمام نفسه. يلحق بزوجته ليكملا برنامج يومهما.

هكذا يهيئ أنطونيوني المشاهد؛ يقدم شخصياته الأساسية وحالتها، ثم يتركها تواجه ما قد يبدو عاديًا وتقليديًا. فقد أطلعنا على اثنين على حافة علاقتهما المتهالكة؛ زوج غير مخلص، وزوجة تتأرجح بين الرضوخ للامبالاة والانكسار ألمًا. يقربهما الموت من أزمتهما معًا، ومسألة كل منهما الوجودية، إضافة إلى أزمة منتصف العمر العامة. حتى وإن استخدم المخرج نقطة ارتكاز أكثر وضوحًا في آخر التقديم، يبقي عليها كعامل للتلاعب بفضول المشاهد بدلاً من الدور التقليدي للحبكة في القصة. في فيلمه Blow-up على سبيل المثال، دفع فراغ مصور يطارده زخم مهنته ويملأه العدم إلى ملاحقة اثنين وتصويرهما في حديقة عامة خلسة. فزع المرأة ومحاولتها انتزاع الكاميرا هو ما أثار الريبة لدى المصور. مر تتابع وآخر لاحقًا قبل أن تثير فضوله الصور. ومر غيرهم عندما تأكد من أن شيئًا ما يستدعي الخوف. وبين تلك المحطات كانت مواجهات لذلك المصور مع عدميته ونماذج اعتادها في مجاله.

الصورة رقم ٤

الصورة رقم ٣

العرض

تقدمت نظرية كلوشوف في دراسة الإدراك السينمائي. عرف تطبيقها على يد تيار المونتاج الروسي، وتحديدًا سيرجي إيزنشتين. النظرية عرفت اللغة السينمائية وفرقت بينها وباقي الفنون من خلال تركيب اللقطات والاستنباط الناتج عن علاقة اللقطة بما يليها. إذا كانت اللقطة الأولى على سبيل المثال لرجل يبتسم، وتليها لقطة لسيدة جميلة تعبر الرصيف، يشكِّل تصور المشاهد انطباع عن الرجل بإعجابه بتلك المرأة. أما إذا تلت نفس لقطة الرجل بنفس التعبير لقطة لضحية حادث ينزف على الطريق، فنحن بصدد شخص مضطرب ذي ميول إجرامية. يشير البعض إلى تلك الإضافة التي يستنتجها المشاهد بأنها رقم زائد في المعادلة ١+١ لتساوي ٣ عوضًا عن ٢.

كان هيتشكوك من أبرز المخرجين تمسكَا باللغة السينمائية. واستغل تلك المعادلة في التلاعب بالمتفرج، إذ استخدم العلاقة بين اللقطات لمناورة استنتاجات المشاهد في محطات أبرزها الفزع من زجاجة نبيذ، لما أثاره باقي الفيلم خوفًا من محتواها، في “سيء السمعة”، ومراقبة الجيران في “النافذة الخلفية” وتكوين نظرية كاملة عن رجل وزوجته من مقتطفات تراءت للمشاهد وشخصية الفيلم الرئيسية من نوافذ بيتهم. وعلى ذكر انتباه هيتشكوك إلى أعمال أنطونيوني، تبنى الأخير نفس المبدأ حول تكوين مفهوم بديل لدى المتفرج. اعتمد المخرج على عرض يحجب المقصود كنوع من الانتقاص الذي يساهم في التفاعل الإيجابي للمشاهد. وجَّه لغته السينمائية طول الوقت بعيدًا عن الحدث الحقيقي. وترك الخيال يقوم بمهمة إدراك ذلك الحدث بما يوافق قرار المشاهد حول المعنى.

سخَّر أنطونيوني لغة سينمائية حافظت على تناغم وحدات الفيلم داخل مشروع بنائي. تماسكت حالة التوق إلى معنى بين اللقطة والمشهد والتتابع إلى الكيان الكامل. الفكرة المجردة للبناء هي تقديم المبتدأ وتأجيل الخبر. ومفاوضة المتابع على بديل مؤقت للخبر. فلا إشباع تقليدي على مستوى أي وحدة من وحدات الفيلم. في المقابل، تنتهي تجربة المشاهد بتكوين صورة كاملة. وتحفز تفاعل يستمر لما بعد الفيلم من خلال ما خلفَه من حاجة إلى التساؤل.

لقطة أنطونيوني لقطة تواكب إيقاع مريب. هي ليست طويلة ولكنها عادة ما انتهت متأخرًا. تترك مساحة لشك فيما هو قادم. سواء كانت لقطة تصور عدة مناظر أو لقطة ثابتة. عندما اختفت آنَا في أثناء الرحلة البحرية في “المغامرة”، انتشر رفقاؤها بحثًا عنها على الجزيرة. صورت الكاميرا شق مياه على جرف، تحركت يمينًا بهدوء لبدايته ثم توقفت. دخل ساندرو الكادر ينظر لذلك المنحدر، لحظات وخرج. ارتفعت الكاميرا لسطح الجزيرة الخالي حتى ظهرت كلوديا في الأفق، ثم انقطعت اللقطة (صورة ٤). يعد الفراغ والسكون بنتيجة ثم يخلف. حتى إن اللقطة المتممة لذلك الفصل، الخاص بالاختفاء والرحلة، تصور الزوار وهم يغادرون الجزيرة في لقطة بعيدة من قمة الجزيرة. وكأن آنَّا تنظر لهم وهم يرحلون، أو ربما دخل الكادر شخصية تدل عما حدث لآنَا. لكن اللقطة تنتهي كسابقاتها.

يكون من لقطات كتلك جمل سينمائية تحمل نفس الطابع. عادة ما صور هدفه في تكوين حاد. ألزم الشخصيات أطراف الكادر لتحميل الصورة بعض الترقب. وتفاعل مع المحيط كإطار داخل إطار عدسة الكاميرا يطارد فيه الشخصيات بعضها. مثل مشهد التقاء فيتوريا وبييرو في منزله في فيلم “الخسوف”. والشد والجذب بينهما بين الغرف وداخلها حتى استلقيا على الفراش. بدأ التقرب في غرفة المعيشة عندما اقترب ليجلس بجوارها. فقامت تتفقد النافذة. لحق بها حتى جمعت بينهما ثم همَّت تراوغه مرة أخرى لموقع آخر (صورة ٥، ٦). حكمت المسافة بين الشخصيات الحدث وتصاعده، إضافة إلى مواضعهم في التكوين وما يحد صورتهم في المكان.

كذلك المشاهد لا تحتوي على مردود، فلا نتابع ذلك البناء ونتساءل إلى أين سيقودنا، لكنه يخلص للسؤال، ولإضافة المتابع ودوره، ولا يجيب. يعي المخرج مخاطر الإحباط وفقدان الاهتمام إن أسيء استخدام ذلك المنهج، فيتنازل للمتفرج عن بديل يحل محل الذروة أو الحل. اجتمعت شخصيات “الصحراء الحمراء” في كابينة على ميناء وسط الفيلم. حاولوا التخفي وارء ثرثرة وحماقة مطولة. وبالرغم من قرب الزوجين المكاني زادت الفجوة المعنوية، وتقرب الزوجة من زميل زوجها. وبدلاً من خاتمة لما يحدث خلف الصخب الظاهر، يصل الفراغ لذروته ويقوم بعض الحضور بخلع ألواح خشب من حوائط الكابينة وإلقائها في المدفأة. هكذا تنعكس معاناتهم على بيئتهم ومن يملؤها. وهكذا يسكِّن أنطونيوني فضول المشاهد وتعطشه لنتيجة. هذه طريقة ضمن عدة طُرق قام المخرج بتوظيفها لنفس الغرض. وأحيانًا يفضل أن يكون أكثر مكرًا. فيمهد مشهد النهاية في “الليلة” بمشهد تتلاقى فيه الزوجة ليديا (جون مورو) مع فلنتينا (مونيكا فيتشي). يسوده تودد حذر ومواجهة مستترة بين اثنين قام بتوريطهما الزوج جيوفاني (ماستورياني) في موقع الغريمتين. يصل جيوفاني ليودع ما كانت فلنتينا لتقدمه إن استجابت له. يغادر وزوجته تاركين الشابة وحيدة. تغلق مفتاح نور الغرفة بقدمها فتتبدل إضاءة اللقطة لتعلن انتهاء الليلة وسطوع النهار (الصورة رقم ٧). هذا التحول في الإضاءة هو التعويض عن الإشباع هذه المرة.

لا تزال توجد حاجة لخلق إيقاع بين فصول الفيلم أو تتابعاته. إن مراوغة أنطونيوني للمشاهد على مستوى اللقطة والمشهد لا يمكنها الصمود كثيرًا أمام رتابة السير. لكن أنطونيوني تحايل مرة أخرى بإعادة التهيئة من خلال المجاميع. لعب هدوء أغلب المشاهد، واقتصار شخصياتها على اثنتين أو ثلاثة، دور التمهيد. والانتقال بين الحين والآخر إلى مشهد يضم عددًا كبير من الحضور دور المتنفس لما سيعاد. مثل ذلك التجمع الهائل من الرجال حول فيتشي في “المغامرة” عندما خرجت تتجول في بلدة صغيرة وحدها. أو في مشهد سابق، تجمهر رجال المنطقة وصحفيون حول كاتبة سائحة تمزق فستانها وتبحث عن خياط. في “الخسوف”، كانت زيارات فيتشي لوالدتها في سوق البورصة تلعب الدور ذاته. كان الزحام الهائل وصخب المضاربين يتباين مع صمت وتراخي المشاهد التي جمعتها بآلان ديلون. وفي معظم الأحوال، وكما فعل أنطونيوني بالوحدات الأصغر، لا تحمل مشاهد إعادة التأسيس أي حدث. فهي للمفارقة تجمعات خاوية. رأى في معظمها حالة الفراغ الجمعي وحماس جماهيري لوهم ما.

الصورة رقم ٥



الصورة رقم ٦

الستار

يتلاعب أنطونيوني في مهارة بالحدود الخافتة وغير المباشرة للبنية السينمائية. وغالبًا ما يحدث الشعور بسؤاله قبل إدراكه ذهنيًّا. المساحة الخالية بارزة مثل المشغولة، والصمت مدوٍ مثل الضجيج، والغياب واضح مثل الوجود. يطلق المشاهد في ضباب رائع كثيف الطبقات ليتأمل ويتفاعل مع مآزق شخصياته المرتبكة والاحتمالات اللانهائية. يتوِجه بنهايات غالبًا ما تعيد صياغة السرد في عمل تفكيكي يعود لنا بمسؤولية التأمل خارج السينما وخارج الزمن. كمشهد النهاية ذي اللقطة الواحدة الطويلة في “المسافر”. يستلقي “لوك” (جاك نيكلسون) على فراشه في فندق بسيط. تغادره الكاميرا ببطء نحو النافذة. تستمر الحركة لنرى صاحبته بالخارج تتجول في ساحة مقابلة. تصل سيارة تقل شخصين لمراقبة المكان. يتحرك أحدهما تجاه المدخل وينضم الآخر لصاحبة “لوك” محاولاً تشتيتها. يغادر الرجلان وتلبث الشابة مكانها صامتة حتى تصل سيارة شرطة. تلحق بها سيارة أخرى بها زوجة “لوك”. تكمل الكاميرا سيرها وتتجاوز أسياج النافذة إلى الخارج. تهرع الشابة إلى الداخل وخلفها الضباط والزوجة. تتابعهم الكاميرا من الخارج وتصورهم من خلال النوافذ المفتوحة. تحاول الشابة فتح باب الغرفة لكنه مغلق. يقوم صاحب الفندق بفتحه ليجد “لوك” قتيلاً. يجتمع حوله الباقون وتنتهي اللقطة والمشهد. وقع الحدث بعيدًا عن أعيننا في تباين مع حدث آخر رأيناه في مادة تسجيلية لإعدام سياسي أفريقي. الحقيقة تلاشت في الحالتين. وبقي سؤال جديد يتجاوز الحدث. وإن كان هم أنطونيوني وسؤاله حول الماهية يُطرح من خلال شخصيات عاجزة عن التواصل، فإن صياغة ذلك الفراغ تستدعي بلاغة لافتة للنظر.

 

الصورة رقم ٧