الكتابة لعبة جميلة، لكن الكتابة عن المرض ليست كذلك تماماَ؛ وبالنسبة لكاتبة مثل سوزان سونتاج التي “لا تجد نفسها إن لم تكتب” كانت الكتابة عن المرض أمرًا يخص النظر في وجه المرض باللغة. سوزان سونتاج (ولدت في نيويورك 1933) كاتبة وناقدة وروائية أمريكية، كتبت للمسرح وأخرجت مسرحيات وكتبت للسينما وأخرجت أفلامًا وشاركت في بعض أفلام وودي ألن، ورحلت في نيويورك( 29 ديسمبر 2004)، تاركة عددًا من الكتب والأفكار التي لاقت صدى على نطاق واسع. من بين كتبها؛ حول الفوتوغراف (1977)، المرض كاستعارة (1978)، الكتابة نفسها: عن رولان بارت (1982)، في أميركا (2000). ولها عدد من الروايات منها؛ ملاذ أخير (1967) ورحلة الى هانوي (1969) ، بالإضافة إلي يومياتها التي صدرت في 3 أجزاء.
في الثالثة والأربعين من عمرها أصيبت سونتاج بسرطان الدم، وهو المرض الذي أنهى حياتها، بعد أن ظلت تقاومه لأكثر من 25 سنة. على مدار حياتها وقفت سونتاج ضد الحرب في كل مكان، بداية من الحرب الأمريكية في فيتنام، مرورًا بحروب إسرائيل المتكررة، وصولاً إلى حرب البوسنة في تسعينيات القرن الماضي. وقد كانت ترى أن الكتابة تحت سطوة الغضب أو الخوف أو الرعب أفضل كثيرًا من الكتابة تحت سطوة الإعجاب أو الحب، فهل كان كتابها “المرض استعارةً” أو ” المرض مجازًا” مكتوبًا تحت سطوة الخوف؟
ينظر الكتاب، وكاتبته، في وجه المرض، لذلك فهو حافل بالمجاز، الذي هو أمر لازم لوصف الشعور بالألم، وعلى الرغم من موضوع الكتاب سنجد جملاً من عينة أننا “حين الولادة، نتحصل على جنسية مزدوجة؛ تنسبنا إما الى عالم الأصحاء وإما الى عالم المرضى“. أو أن “السُّل يجعل من صاحبه شفَّافًا“، وإشارات إلى مدى شاعرية الميتات التي يحملها مرض ولا يحملها آخر، وذكر للنضال والصراع، بما فيه من تشخيص لهذا الألم الذي يجيء فيقضي علينا أو نقضي عليه. المجاز هنا يبدأ من اسم المرض نفسه؛ السرطان الذي سمي هكذا لأن الأوردة المتورمة التي يخلفها المرض تشبه أرجل الكابوريا.
*المنشور هنا هو الفصل الثاني من كتاب “المرض كإستعارة” والعنوان من إختيار “مدينة” لوصف كتابة سوزان سونتاج التي لم تضع عناوين لفصول كتابها
** الكتابة الخضراء داخل الأقواس هي توضيحات و ملاحظات محرر مدينة
*** الأرقام الحمراء تشير إلي هوامش المترجم في نهاية النص
لفترات طويلة من تاريخيهما، تداخلت وتقاطعت الاستعمالات المجازية لمرضى السُّل والسرطان. استخدم قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية كلمة “الاستهلاك” Consumption مرادفًا للسل الرئوي. في وقت مبكر من 1398 (كتب جون أوف تريفيزا: إذا ما أُضعِف َالدم، يواجه الجسد الإنهاك Consumpcyon والانهيار التدريجي) 1 لكن الفهم ما قبل الحديث للسرطان يستحضر أيضا فكرة الاستهلاك. أعطى قاموس أكسفورد تعريفًا مجازيًّا مبكرًا لمرض السرطان وهو: أي شيء يُربك، يُتلف، يُفسد، أو يستهلك سرًا وببطء. (في 1528 أبدى توماس باينل: أن الكانكر 2 A kancerكآبة في الصدر تتغذى على أجزاء من الجسم).
التعريف الأول للسرطان هو نمو، كتلة، ورم، نتوء، واسمه باليونانية Karkinos كاركينوس، وباللاتينية سرطان Cancer وكلاهما يعنى سرطان البحر أو الكابوريا، وفقًا لجالن (كان أحد أطباء اليونان؛وأعظم أطباء العصور القديمة عاش بين 129 و200 ميلادية) كان هذا مصدر ًا للإلهام للتشابه بين العروق والأوردة الداخلية المتورمة، وبين أرجل سرطان البحر، وليس كما يعتقد كثيرٌ من الناس من أن حركية المرض تتقدم ببطءٍ أو تنسل مثل السرطان، ولكن تشير الدراسة الإتيمولوجية (العلم المهتم بالبحث عن حقيقة الكلمة وأصلها) الى أن السُّل كان فيما مضى يعتبر نتوءًا غير طبيعي، الكلمة الإنجليزية Tuberculosis وتعنى مرض السُّل. الاسم المصغر في اللاتينية هوtuberculum ويعنى درنة أو حدبة، أو بروز أوتورم، ويعنى انتفاخ رهيب، أو سنام، أو نتوء، أو نمو. كان رادولف فيرتشو الذي أسس علم الامراض الخلوية (أحد فروع علم الأمراض المهتم بتشخيص ودراسة المرض على مستوى الخلية) سنة 1850 يعتقد في tubercle الدرنة كورم.
هكذا منذ العصور الوسطى وحتى وقت قريب كان مرضُ السُّل–تصنيفيًّا –هو السرطان، وقد وصِفَ كالسُّل الذي كان عمليةً يُستهلك بها الجسد.
لم تتحدد المفاهيم الحديثة للمرضين قبل ابتكار علم أمراض الخلية. فقط مع ظهور المجهر كان ممكنًا إدراك خصائص السرطان كنوع من النشاط الخلوي، وفهم أن المرض لا يأخذ دائمًا شكل ورمٍ خارجيٍ أو حتى ملموس. (قبل منتصف القرن التاسع عشر، لم يتمكن أحد من تعريف اللوكيميا Leukemia ( سرطان الدم ) كشكل من أشكال السرطان)، ولم يكن ممكنًا نهائيًا فصل مرض السُّل عن السرطان إلى ما بعد 1882 عندما اكتُشِفَ أن السُّل هو عدوى بكتيرية. هذا التقدم في التفكير الطبي مكَّن للاستعارات الرائدة في المرضين لتصبح واضحة المعالم، وفى الجانب الأكبر متعارضة ( بين السل والسرطان). أمكن للتصورات الخيالية الحديثة حول مرض السرطان إذًا البدء في التشكل. سيرث الخيال منذ عشرينيات القرن العشرين معظم مشكلات المعالجة الدرامية المؤسسة على تصورات عن مرض السُّل، الا أن المتخيل المختلف تمامًا عن كل من المرضين الاثنين وأعراضهما جاءت تقريبًا متعارضة بطرق مختلفة.
فُهم مرض السُّل كمرضٍ يُصيبُ عضوًا واحدًا هو الرئة، بينما أُدرك السرطان كمرضٍ يصيب أي عضوٍ، بل ويمكنه الوصول إلى كامل الجسم. عُرف السُّل بمرض التباينات الحادة: من شحوبِ الوجهِ إلى الأحمر المتورد، إلىفرط النشاط بالتناوب مع الوهن. يتضح المسار المتقطع للمرض بواسطة ما يعرف بالأعراض النموذجية للسل، والكحة، وحالة المصاب المحطم بالسعال، يعود للحركة بارتياح، ينتعش تنفسه، ويتنفس بشكل طبيعي، ثم يعود إلى السعال مرة أخرى. السرطان مرضٌ في حالةِ نموٍ غير طبيعية(مرئي في بعض الأحيان، أكثر خصائصه داخلية) وأخيرًا، نموٌ مميتٌ ذو إيقاعٍ منتظمٍ راسخٌلا يتوقف. على الرغم منوجود فترات يتوقف فيها الورم (فترة سكون)، لا ينتج السرطان تباينات من نوع التناقض في السُّلوكيات–النشاط المحموم أو الاستسلام العاطفي–التي يعتقد إنها تابعة لنموذج مرض السُّل. وفي حين أن شحوب المسلول مؤقت، فإن شحوبَ مريض السرطان ثابتٌ لا يتغير. يجعل السُّل الجسم شفافًا. الأشعة السينية أداة التشخيص القياسية تسمحُ للمرءِ، غالبًا منذ المرة الأولى، رؤية الداخل، ليصبح شفافًا لنفسه. في حين أن المفهوم عن مرض السُّل منذ وقتٍ مبكرٍ أنه غنىٌ بالأعراضِ المرئيةِ (الهزال التدريجي، والسعال، والوهن، والحُمى)، ويمكن أن يكتشف فجأة، وبطريقة دراماتيكية (دمفي المنديل)، أما في حالة السرطان يُعتقد على نحوٍ خاصٍ أن الأعراضَ الرئيسيةَ تكونُ غير مرئيةٍ–حتى المرحلة الأخيرة، بعد فوات الأوان. غالبًا يكتشف المرض عن طريقِ المصادفةِ، أو من خلال فحصٍ طبيٍ روتينيٍ، يمكن أن يكون المرض في حالة متقدمةٍ إلى حد بعيد دون أية أعراضٍ ملموسةٍ.يمتلك المرء جسدًا غامضًا يتحتم عليه حمله إلى متخصصٍ ليكتشف ما إذا كان يحتوي على سرطان. فما لا يمكن للمريض إدراكه سيحدده الاختصاصي بواسطةِ الأنسجةِ المأخوذةِ من الجسمِ. مرضى السُّل ربما يرون أشعتهم السينية أو حتى يمتلكونه؛ فقد كان المرضى بالمصحة في الجبل السحري(الرواية الأكثر شهرة للروائي الألماني توماس مان) مثلاً يحملونها في جيوبهم الأمامية. مرضى السرطان لا ينظرون في فحصِ الأنسجةِ المستأصلة من أجسادهم.
كان من المعتقد لفترة طويلة أن السُّل يسببُ نوباتٍ من النشوةِ، ويزيدُ الشهيةَ، ويفاقمُ الرغبةَ الجنسيةَ. جزءٌ من النظام المحدد للمرضى في الجبل السحري هو الإفطار الثاني، يُؤكل بحيويةٍ بالغةٍ. أما السرطان فيُعتقد أنه يشلُ الحيويةَ، يجعلُ الأكلَ محنةً، ورغبةً مميتةً. لقد تُصُوِر مرض السُّل كمنشطٍ جنسيٍ، ومانحٍ لقدراتٍ غير عاديةٍ في الاغراء، بينما اعتَبَر السرطان بمثابةلاغٍ للجنسِ–لكن من خصائصِ السُّل أن العديدَ من أعراضِهِ مُضَللٌ–الحيويةُ التي تظهرُ في التوردِ الخفيفِ للخدين وكأنها احدى علامات الصحةِ، وهي من أثرِ الحمى–وربما يكون الارتفاع المفاجئ في الحيوية علامةً على الاقترابِ من الموتِ. (هذا التدفق للطاقةِ عمومًا سوف يكونُ ذاتي التدمير، وربما يدمر الآخرين أيضًا:في هذا النحو تذكر أسطورة من أساطير الغرب الأمريكي بطلها دوك هوليداي Doc Holliday (هو جون هنري .. مقامر محترف ومقاتل وطبيب أسنان أمريكي ، إنضم لمليشيا المأمور الأمريكي وايت إيرب الذي كان ينفذ القانون بأيديه ،وتحول دوك هوليداي معه إلي قتال قتلة ،واشتهر بقدرته الإستثنائية علي ضرب النارولد في 14اغسطس 1851 و توفي على سرير في غرفة بأحد الفنادق بمرض السل وهو في السادسة والثلاثين من عمره)..الأسطورة وصفت دوك هوليداي بأنه:رجل العصابات المسلول وقد تم تحريره من القيود الأخلاقية بسبب ويلات مرضه.
وحده السرطان يمتلكُ الاعراضَ الحقيقيةَ.أما مرضُ السُّل هو التفككُ، والتكاثرُ، والتجريدُ، هو مرض السوائلِ–يدخلُ الجسمُ في دورةٍ من البلغمِ، والمخاطِ، والبُصَاقِ، وأخيرًا الدمُ–والهواء، الحاجة إلى الهواءِ الأفضلِ. مرض السرطان هو التَفَسُخ، أنسجة الجسمِ تتحولُ الى شيءٍ عسيرٍ. أليس جيمس Alice James(صاحبة اليوميات الشهيرة في القرن التاسع عشر، و شقيقة الروائي هنري جيمس و الفيلسوف و عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس) تكتبُ في يومياتِها في 1892 قبل سنةٍ على وفاتِها بسببِ السرطان، تتحدث عن “أحجارِ الجرانيتِ غير المقدسة في ثدييَّ.. هذه كتلةٌ حيةٌ، جنينٌ يمتلكُ إرادتَه الخاصة“. نوفاليس Novalis ( شاعر وكاتب ألماني إسمه الحقيقي فريدرديش فرايهير فون هاردنبرج ولد في 1772ومات في1801 ) في مدخلٍ مكتوبٍ لمشروعِ موسوعتِهِ 1798 يُعَرِّف السرطانَ جنبًا الى جنبٍ مع الغرغرينا باسم “الطفيليات الكاملة–تنمو، وتُستَولد، وتُوَّلِد، ولها هيكلها الخاص، يُفرز، يأكلُ“.
السرطان حملٌ شيطانىٌ. لابد أن القديس جيروم St. Jerome كان يفكر في السرطانِ عندما كَتَب َ“المرء ببطنه المتورمة حامل بموته الخاص“.
3
ومع أن الهزالَ هو جزءٌ من مسارِ كلا المرضين فإن لخسارةِ الوزنِ بسبب السُّل مفهومٌ مختلفٌ تمامًا عن خسارةِ الوزنِ بسبب مرضِ السرطان. في مرض السُّل الشخص “يُستَهلك” يُحرق. في السرطانِ المريض “يُنْتَهك” بواسطة الخلايا الدخيلة، التي تَتَضَاعفُ، وتتسببُ في ضمورٍ، أو انسدادٍ في وظائفِ الجسم. مريضُ السرطان “يذبلُ“ (كلمة أليس جيمس) أو “يَنْكَمِشُ“ (كلمة فيلهلم رايتش Wilhelm Reich’s).
السُّل مرض الزمن. يُسَّرِع الحياة، يُسَلِّطُ الضوءَ عليها، يُرَوحِنِهَا. وهي في كل من الإنجليزية والفرنسية Consumption استهلاكٌ “خاطفٌ“. للسرطانِ مراحل بالأحرى بدلاً عن السرعِة. هو في (النهاية) “محطةٌ“. السرطانُ مخادعٌ يعملُ ببطءٍ: من التعبيرات الشهيرة في كتابةِ النعي هي أن شخصًا ما “توفى بعد مرض طويل“. كل وصفٍ لمرضِ السرطان يَسِمَه بالبطءِ، وهكذا تم استخدام الصفةِ مجازًا. كتب ويكليف Wyclif سنة 1382 (مترجمًا جملة من تيموثاوس الثانية2:17) “وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَآكِلَةٍ“ note number=”4″] [/fnote] ومن بين أبكر الاستخدامات التصويرية للسرطان هي استعارة “الكسل” و“التراخى“؛ مجازًا السرطان ليس مرض الزمنِ، ولا من أمراضِ الفضاء. تُشير الاستعارات الرئيسية إلى انتمائِه إلى الطوبوغرافيا (السرطان “ينتشر” أو “يتزايد” أو يكون “منشرًا” يتم “استئصال” الأورام جراحيًّا) وهي النتيجة الأكثر رعبًا، موتٌ غير مكتملٍ هو تشويهٌ أو بتر جزءٍ من الجسمِ.
غالبًا ما يُتَصَوّر السُّل كمرضٍ من أمراضِ الفقرِ والحرمان–من الملابسِ الرقيقةِ، الأجسام الهزيلةِ، والغرف الباردةِ، قليلة النظافة، وعدم ملائمةِ وكفاية الطعامِ. ربما لا يكونُ الفقرُ حرفيًّا مثل “ميمي“ في ” لا بوهيم” ( أوبرا كلاسيكية من تأليف جياكومو بوتشيني )، أو مثل درن مارجريت غوتيه في “غادة الكامليا” التي كانت تَعِيشُ في الترفِ بينما هي في الداخلِ مجرد متشردةٍ. على النقيضِ، السرطان هو مرضُ حياةِ الطبقةِ المتوسطةِ، وهو مرضٌ مرتبطٌ بالثراءِ، والوفرةِ. الدولُ الغنيةُ لديها أعلى معدلاتِ الإصابةِ بالسرطانِ، ويُنظر إلى ارتفاعِ معدلِ الإصابةِ بالمرضِ كنتيجةٍ في جزءٍ منها الى اتباع نظامٍ غذائيٍ غنىٍ بالدهونِ والبروتيناتِ، من التدفقاتِ السامةِ للمجتمعِ الصناعي الذي يخلقُ الثراء. يُعرَف علاج السُّل بتحفيز الشهيةِ، ويُعرَف علاج السرطانِ بالغثيانِ وفقدانِ الشهيةِ. ناقصو التغذيةِ وأسفاه يغذون أنفسهم دون جدوى. والمتخمُون بالطعامِ غير قادرين على الأكلِ!
كان يُعتَقَدُ أنه يمكن مساعدة مريضِ السُّل حتى الشفاءِ من خلال تغيير البيئة. وكان هناك قناعة أن السُّل مرضٌ مبللٌ، مرضُ الرطوبةِ والمدنِ الباردةِ. داخلُ الجسمِ صار رطبًا (“الرطوبة في الرئتين” كانت عبارةً أثيرةً) وكان لزامًا أن تجف. كان الأطباء عادة ما ينصحون بالسفرإلى الأماكنِ المرتفعةِ، الجافةِ–الجبال، والصحراء. لكن لا يعتقد أن تغييرًا فيما يحيط من الممكن أن يساعد مريض السرطان. المعركةُ كُلُها داخلَ جسدِ الإنسان. قد يكونُ المعتقدُ على نحوٍ متزايدٍ أن شيئًا ما في البيئة يُسببُ السرطانَ. ولكن حالما يتواجد المرض لا يمكن عكس اتجاهه، أو تحجيمه بالانتقال الى بيئةٍ أفضل، أقل تحفيزًا للمرضِ.
كان من المتصور أن السُّل غير مؤلمٍ نسبيًا. بينما يُعتقد أن السرطان ذو ألمٍ حادٍ ودائمٍ. يُتَخَيّلُ أن السُّل يوفر موتًا سهلاً في حين أن السرطان بصورةٍ مثيرةٍ هو الفرد التعس. لأكثر من مئة عامٍ ظل السُّل الطريقةَ المفضلةَ لإضفاءِ المعنى على الموتِ –داءُ التهذيبِ المصفى. أدبُ القرن التاسع عشر وقد شٌحِن بأوصافٍ ميتاتٍ بهيجةٍ بالسُّل، تصيب لاسيما الشباب. مثل إيفا الصغيرة في “كوخ العم توم” وبول ابن دمبى وولده في“دمبى وولده“ وسيمك في “نيكولاس نيكلبي“ حيث وصف ديكنز السُّل (“كمرض رهيب“ صفى الموت ونقاه من الجانب العام.. حيث النضال بين الجسد والروح تدريجي، وهادئ، ومهيب، ونتيجته مؤكدة، يومًا بعد يومٍ، برهة بعد الأخرى، يذوى الجانب المميت بعيدًا، لتُنبِت روحُ الأملَ والتفاؤل البراق)
على النقيضِ من هذه الميتات النبيلة الرائقة بمرض السُّل بكل خسته، يأتي الموتُ الفاجع بالسرطان لوالد “يوجن جانت“ في رواية توماس وولف “النهر والزمن“ وكذلك الأخت في فيلم برجمان “صرخات وهمسات“. وبينما صُور موت مريض السُّل بجنون، أكثر جمالًا، أكثر وجدانيةً، رُسم موتُ الشخصِ المصاب بالسرطان مستذلاً بالخوفِ والمعاناةِ. كمن سُرقت كل قدراته على السمو الذاتي.
هذه هي التناقضات المستمدة من الأساطير الشعبية عن كلا المرضين، العديد من مرضى السُّل ماتوا بألمٍ فظيع، وبعض الناس يموتون بالسرطانِ يشعرون بالقليل من الألمِ، أو دون أية ألمٍ. الفقراءُ والأغنياءُ على حدٍ سواء أصيبوا بالسُّل، والسرطان. ليس كل من مرض بالسُّل قد عانى من السعالِ، ولكن الأساطير تستمر، ليس فقط لأن السُّل الرئوي هو الشكل الأكثر شيوعًا لمرضِ السُّل، بل أيضًا لأن أغلب الناس تفكر في السُّل كمرضً يصيب عادةً عضوًا واحدًا مقارنة بالسرطانِ. هذا بسبب الأساطير حول مرضِ السُّل، والتي جعلته لا يناسب الدماغَ ،ولا الحنجرةَ، ولا الكليتين، ولا مواقع أخرى حيث يمكن لبكتريا الدرن أن تستقر أيضًا. لكن لدينا علاقة وثيقة مع التصور التقليدي (التنفس، الحياة) المرتبط بالرئتين.
بينما يأخذُ مرضُ السُّل مميزات الرئتين، اللتين هما ضمن الجزء العلوي من الجسم، الجزء المُرَوحَنْ من الجسد. فالسرطان سيء السمعة، لشهرته بمهاجمة أجزاءٍ معينةٍ من الجسمِ (القولون، المثانة، المستقيم، الثدي، عنق الرحم، البروستاتا، الخصية) وهي أجزاء يكون من المحرج الاعتراف بها. الإصابة بورم عمومًا يثير بعض مشاعر العار، ولكن التراتبية الهرمية لأعضاء الجسد، تؤدى الى الاعتداد بسرطان الرئة ليكون أقل عارًا من سرطان المستقيم. هناك نوعٌ واحدٌ من السرطان لا يأخذ شكل الورمِ يحتلُ الآن في الخيال التجاري، الدور الذي كان يحتكره السُّل، كمرضٍ رومانسيٍ، والذي يقطع حياة شابة (بطلة قصة حب إيريك سيجال تموت بسرطان الدم-“الأبيض” أو شبيه السُّل، شكل من المرض، حيث لا يمكن معه لجراحة البتر أن تكون هدفًا–وليس سرطان المعدة أو الثدي) مرض الرئتين مجازًا هو مرض الروح، أما السرطان فمن الممكن أن يضرب في أي مكانٍ، إنه مرض الجسد، بعيدًا عن أي كشوفٍ روحيةٍ، ويظهر أن الجسد، بكل حزنٍ، هو مجرد جسد. مثل هذه الأوهام تزدهر إذ يعتقد أن السرطان والسُّل أكبر كثيرًا من الأمراضِ القاتلة أو “التي كانت” قاتلةً. يُعرف المرضان بالموتِ نفسه. في نيكولاس نيكلبى، كتب ديكنز عن السُّل: مرض حيث الحياة والموت يمتزجان على نحوٍ غريبٍ، فالموت يأخذ وهج الحياة ورونقها، الحياةُ هزيلةٌ وشكلٌ مروعٌ من الموتِ، مرضٌ لم يتمكن الطبُ من علاجه قط، ثروةٌ لا ترد، يمكن للفقر التباهي بالإعفاء منها.
مثل هذه الأوهام تزدهر لأنه يعتقد أن السرطان والسُّل أكبر كثيرًا من الأمراضِ القاتلة “أو التي كانت” قاتلةً. المرضان يعرفان بالموتِ نفسه. في نيكولاس نيكلبى، ناجى ديكنز السُّل: مرض حيث الحياة والموت يمتزجان على نحوٍ غريبٍ، فالموت يأخذ وهج الحياة ورونقها، الحياةُ هزيلةٌ وشكلٌ مروعٌ من الموتِ، مرضٌ لم يتمكن الطبُ من علاجه قط، ثروةٌ لا ترد، يمكن للفقر التباهي بالإعفاء منها.
في أكتوبر 1917 كتب كافكا الى ماكس برود “توصلت الى التفكير أن مرض السُّل.. ليس مرضًا خاصًا، أو ليس مرضًا يستحق اسمًا خاصًا به، ولكنه فقط جرثومة الموت نفسها، مكثفة..”.
السرطانُ يلهم تأملاتٍ مماثلةٍ، وقد سبق جورج جوردك Georg Groddeck صاحب وجهات النظر البارزة عن مرض السرطان في كتابه “كتاب الأنا 1923″ فيلهم رايتش، فقد كتب “كل النظرياتِ التي طُرحت، والمرتبطة بمرض السرطان. واحدة فقط في نظري صمدت في مواجهة مرور الزمن، أعني، أن السرطان يقود إلى الموت خلال مراحل محددة، أي أن ما ليس مميتًا ليس سرطانًا. من هذا ربما تستنج أنى لا أملك أية أملٍ في طريقة علاجٍ جديدةٍ للسرطان.. إن الكثير من الحالات فيما يسمى بالسرطان“.
برغم كل التقدم في معالجة السرطان، لا يزال كثير من الناس يؤيدون معادلة جوردك. السرطان= الموت. ولكن الاستعارات المحيطة بالسُّل والسرطان تكشف الكثير عن فكرة المهووسين، وكيف تطورت من القرن التاسع عشر (حين كان السُّل هو أكثر الأسباب شيوعًا للموت) حتى وقتنا الحالي “حيث السرطان أكثر الأمراض إثارة للفزع“.
عمد الرومانسيون الى التفسير الأخلاقي للموت، بطريقة جديدة: مع الموتِ بالسُّل الذي يبدد إجمالي الجسد، تتحول الشخصية الى أثير، بوعي موسعٍ. كان هذا ممكنًا على قدم المساواة من خلال التصورات عن السُّل لأجل تجميل الموت. ثورو الذي كان مريضًا بالسُّل، كتب سنة 1852 “الموت والمرض جميلان في كثير من الأحيان، مثل الوهج المحموم للتآكل“. لا أحد يتصور السرطان على هذا النحو، مثلما كان يُتَصَوّر السُّل كحالةٍ زخرفيةٍ، في الغالب، كموتٍ غنائيٍ. فالسرطان موضوعٌ نادرلا يزال مخزيًا للشعرِ، ويبدو أنه من غير المتصور تجميل هذا المرض.
أدرجت الكاتبة النص باللغة اللاتينية كالآتي
``Whan the blode is made thynne, soo folowyth consumpcyon and wastyng.``
ورد المصطلح المشار اليه ضمن النص التالي
``A canker is a melancolye impostume, eatynge partes of the bodye.``
أدرجت سوزان سونتاج نص عبارة القديس جيروم باللغة اللاتينية بعد أن ترجمتها الى الإنجليزية وهذا نص العبارة باللاتينية
(``Alius tumenti aqualiculo mortem parturittr)
اعتمدت في ترجمة هذه الآية رقم 17 من الاصحاح الثاني من الكتاب المقدس على نص ترجمة فان دايك
Van Dyke المعتمدة من قبل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الإسكندرية-مصر، ونص الآية كاملة وفقا لهذه الترجمة (وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَآكِلَةٍ. الَّذِينَ مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَفِيلِيتُسُ،)