لماذا قُتِل جمال خاشقجي وقطعت جثته؟ لماذا يسجن ويطارد مئات الصحفيين؟ إنها شهوة الانفراد بموقع الراوي الوحيد؛ يتم القتل والقمع باسم الناس أو الوطن أو الدين.. وهذا ما يضيف إلى شهوة القتلة في التوحش.. أثقال الخديعة.. “إننا نعيش عصرًا جديدًا من عصور أوبريان” تقول الكاتبة الكندية مارجريت أتوود، وهو لمن لا يعرفه جلاد الحزب؛ الذي كان يمثل في رواية جورج أورويل الشهيرة 1984 اليد القاتلة التي تعاقب الخارج عن الإذعان المطلق للحاكم أو سلالته أو جماعته أو طبقته، أو غيرها من أشكال تسلط أمراء الحرب والثروة على شعوب يريدونها عمياء، خرساء، لا تعرف سوى طريقة الدوران في ماكينات البحث عن لقمة العيش. إنها عبودية جديدة لا بد فيها من تقطيع جثث الصحفيين، أو مطاردتهم كالمجرمين والخونة، كي تختفي كل رواية غير رواية أسياد السلطة.. لم يعد هذا مجرد خيال روائي يحمل نبوءة، بل هو واقع ننكره أحيانًا ونتواطأ معه أحيانا أخرى.. لكننا في النهاية نعيشه بكل حضوره المعتم.
ننشر في “مدينة ” مقال مارجريت أتوود الذي يشتبك مع سؤال: لماذا تشتعل الان شهوة قتل الصحفيين؟
مارجريت أتوود: كاتبة وشاعرة وناقدة، وناشطة نسوية واجتماعية، ولدت في أونتاريو/ كندا 1939.. حازت على العديد من الجوائز عن رواياتها ودواوينها الشعرية.. وترجم لها إلى العربية– على غير العادة– الكثير من رواياتها: قصة الخادمة، والبنيلوبية، والقاتل الأعمى، والدمية، وعين القطة.
في رواية جورج أورويل 1984؛ يقول جلاد الحزب أوبريان، لضحيته البائسة ونستون سميث: “كم عدد أصابع يدي التي أرفعها؟“؛ والإجابة الصحيحة ليست أربعة، ولا خمسة؛ الإجابة الصحيحة هي ما يقول أوبريان إنها كذلك. هكذا يتصرف الشموليون وأمراء الحروب والسلطويون من جميع الأنواع على مر العصور؛ الحقيقة هي ما يقوله هؤلاء الناس، لا ما تعلنه الوقائع. فإن حاز الشموليون السلطة تمامًا، وصممتَ أنتَ على ذكر عدد الأصابع الحقيقي، فستسجن، أو تقطع رأسك. أما إذا كان الشموليون في مرحلة التكوين، فعلى الأقل ستتهم بالترويج لأخبار مضللة.
حاليًا، نجد أنفسنا نعيش في عصر جديد من عصور أوبريان– أوبريان إحدى شخصيات رواية 1984، أحد أعضاء الحزب المسؤولين عن استجواب المارقين– كم عدد الصحفيين ورواة الحقيقة في العالم الذين قتلوا أو أعدموا بعد إجراءات شبه قانونية، أو سجنوا أو تم نفيهم؟ متى سنبني نصبًا تذكاريًّا عليه أسماؤهم؟ لماذا قد يهتموا؟ لأن معرفة ما تفعله السلطة باسمنا، إن كانت ديمقراطية، أو باسم بعض المفاهيم المجردة؛ كالوطن، والدم، والأرض، والآلهة، والفضيلة، والملكية، هي الطريقة الوحيدة التي يمكن لمواطني أي مجتمع أن يبدأوا بها في محاسبة السلطة.
إذا كان المجتمع يطمح لأن يكون شيئًا عدا مجتمع عبودي، فإن الصحافة الحرة المستقلة، التي يملك صحفيوها الحق في التنقيب عن الحقائق، هي خط الدفاع الرئيسي ضد تعديات السلطة المتنامية التي ترى أن الفائز يحوز كل شيء. نحن نعيش في خضم حرب تُشن ضد هذا النوع من الصحافة؛ الصحافة القائمة على تقديم البراهين وقول الحقيقة كاملة. في الولايات المتحدة اعترف الرئيس أنه سرَّب معلومات غير حقيقية ليوقع بالصحفيين في المصيدة؛ كان هدفه الأساسي إرباك الجمهور، فلا يعود يعرف ما عليه أن يصدق، وفي النهاية لن يصدق شيئًا على الإطلاق.
في بلد يفتقر للمثل العليا، ستكون حرية الفاسدين ومنتهكي القانون مطلقة. من يستطيع الاعتراض على هؤلاء الذين يبيعون وطنهم، إن لم يتبق لديهم إلا القليل من أوطانهم؟
لم تغب الإشارات المرسلة من الولايات المتحدة إلى بقية العالم عن الأنظمة السلطوية في كل مكان؛ فعندما يتعلق الأمر بالصحفيين المزعجين الذي يلعبون دورًا في غسيل الملابس المتسخة علنًا، يمر كل شيء بسهولة. لكن حاليًا على الأقل هناك بعض الضغوط؛ وباعتبارهم ” شخصية العام” 2018، حددت مجلة تايم TIME أسماء أربعة صحفيين ومنظمة صحفية عانوا من جراء قول الحقيقة. أهم هذه الحوادث مقتل صحفي واشنطن بوست جمال خاشقجي. وفي الفلبين أدينت الصحفية ماريا ريسا، وهُددت بالحبس بسبب كتاباتها ضد رئيس الدولة المعروف بالتخلص من معارضيه السياسيين. كذلك كان الصحفيان وا لون، وكياو سو أو يقومان بعملهما لصالح وكالة رويترز، فاعتقلا لحديثهما عن المجاز التي تحدث بحق الروهينجا في ميانمار.
كما أطلق مسلح النار على مبنى مؤسسة كابيتال جازيت– أنابوليس، في ميرلاند، فأردى خمسة صحفيين قتلى. وقد قالت مجلة تايم عنهم “إنهم يمثلون معركة يخوضها عدد لا يحصى في كل أنحاء العالم“.. بحلول 10 ديسمبر 2018، كان قد قُتل ما لا يقل عن 25 صحفيًّا، جميعهم يخاطرون برواية حقيقة ما يحدث في هذا العصر.
إن كبت حرية الكتابة والكُتَّاب هو، بطبيعة الحال، مصدر قلق للكُتاب أنفسهم؛ فدائمًا ما يبدأ الشموليون حكمهم بمطاردة الكتاب والفنانين، وذلك لسببين: أنه لا يوجد ما يحميهم نسبيًّا. فلا توجد جماعة ضخمة من الزملاء الكُتاب يستخدمون حراسًا شخصيين، كما أن لديهم طبعًا سيئًا وهو أنهم لا يتوقفون عن العمل. ولما كنت واحدة منهم؛ فقد اهتممت دومًا بمحاولات فرض الرقابة على أعمال الكُتاب وحرمانهم من الحرية والحياة.
بدأت مشاركتي النشطة في هذا المجال في السبعينيات، خلال حقبة حكم بينوشيه في تشيلي، فقد قتل العديد من الصحفيين والفنانين في تلك الفترة؛ من بينهم الشاعر التشيلي المهم بابلو نيرودا– هناك شكوك أن نيرودا قتل مسمومًا في عهد بينوشيه– وفي الثمانينيات ساهمت في تأسيس مركز القلم PEN في كندا “بالإنجليزية” وترأسته في عاميه الأولين.. وشهدت توسعه ووضعه الدفاع عن الصحفيين وحريتهم في صدر أنشطته.
لقد ذهبت الأيام التي كان كل ما علينا الدفاع عنه هو حق الروائيين في قول كلمة Fuck في كتبهم. يبدو الآن أنه المسألة تتعلق بحق الصحفيين المستقلين في أن يوجدوا أصلاً. تتجاهل الديمقراطيات أن هذه الأزمة هي مسؤوليتها: إذا خسرنا الصحافة الحرة، فسنتوقف عن أن نكون ديمقراطيات.
* نُشر هذا المقال تحت عنوان “خسارة الصحافة الحرة تعني التخلي عن كوننا ديموقراطيات”في موقع ليترري هب Literary Hub، بتاريخ 20 ديسمبر 2018.