قبل أن تقرأ
لم يمر تصوير هذا الفيديو على خير؛ فبينما كنا نحاول تصوير ميدان التحرير، ظهرت فجأة عناصر من الشرطة؛ نظراتهم مذعورة، وأياديهم تسبق ألسنتهم، يريدون الحصول على الكاميرا، وإيقاف التصوير، وبعد فشلهم لم تكن هناك سوى كلمة “ممنوع”! ومن تكرارها بدت وكأنها تميمة، وليست مجرد أمر من المسيطرين على المكان.
كيف تمنع التصوير في “ميدان“؟ هذه واحدة من العجائب التي ولدتها ثورة 25 يناير 2011، إذ تحول “التحرير” إلى منطقة يضيع العابرون فيها أمام إجراءات “حائرة “، كيف نسيطر على قلب المدينة؟ من الأسوار الحجرية إلى بوابات الحديد، ومن نشر فرق الشرطة العلنية والسرية، إلى إحاطة أرصفة المشاة بسياج فولاذي يمنع اللقاء. على أي عابر للميدان أن يتمهل ولو قليلاً.. لا بد أن يمر عابر المدينة لاهثًا.. ولا يلتفت.. لا يتأمل.. لا بد من ترسيخ فكرة أنه يعبر ممر لعنات.. لا لقاء ولا تفكير.. فقط الخوف. حتى الآن ما تزال “الدولة” حائرة في ميدان ضاعت سلطتها عليه أكثر من مرة؛ أقواها كان منذ 8 سنوات كاملة.
شوارع مكتظة بالسيارات، العديد من الإشارات المزودة بكاميرات المراقبة، مارة قاصدين مجمع التحرير، أو إحدى المقاهي المجاورة، نقاط ارتكاز أمنية، ودوريات متحركة، وفي المنتصف سارية لعلم مصر، وأشخاص ينتظرون… هذا هو حال ميدان التحرير بعد مرور ثماني سنوات على ثورة الخامس والعشرين من يناير.
مُسح الجرافيتي عن الحيطان، وبنيت سارية لعلم مصر في وسط الميدان، ثم تباعًا زادت عسكرة ميدان التحرير، بالوجود الدائم لقوات الأمن المركزي خلف مجمع التحرير عند شارع القصرالعيني، فضلًا عن الدوريات شبه الدائمة شرقي الميدان في مدخل شارع قصرالنيل، ناهيك بوضع حواجز، وأسوارأسمنتية في الشوارع المحيطة –شارع محمد محمود والشيخ ريحان والفلكي–، كما شهد ميدان التحرير تطويرًا من جانب تنظيم المرور فقط ؛كالإشارات العديدة التي وضعت، وفي المقابل لم يتم تطوير الميدان بشكل يسمح بالجلوس أو التمشية –كوضع مقاعد للراحة– إلا القليل منها، وهو ما أصبح مألوفًا في أغلب شوارع مصر.
بالإضافة إلى إغلاق محطة مترو السادات، لمدة عامين متصلين منذ أغسطس 2013 حتى يونيو 2015 مما كان يعوق الانتقال من وإلى الميدان لفئة كبيرة من الناس. وأخيرًا أُغلقت المقاهي بمحيط الميدان التي كانت تعرف بتجمع النشطاء فيها كمقاهي البورصة وغيرها.. تم ذلك كله بالتوازي مع تشريعات حدت من مساحة العمل في المجال العام؛ وذلك من خلال قانون التظاهر وقانون مكافحة الإرهاب.
هذه التغيرات التي طرأت على الميدان أسهمت في إعادة ترسيم العلاقة بين الدولة والمواطنين، وتجلت في نزع الشعور الذي خلقته الثورة لدى المواطنين أن ميدان التحرير مكانهم، أو بصورة أوسع أن الفضاء العام ملك لهم، وهو ما تؤكد عليه الدولة بإغلاق قوات الأمن ميدان التحرير في ذكرى الثورة، واحتلال مدرعات الأمن المركزي والجيش مساحة الميدان، بدلًا عن احتلال المواطنين لها، وفي هذه الحال عادة ما تُتبع استراتيجية الإقصاء بحسب عالم الأنثروبولوجيا ليفي شتراوس “إذ يتم تقيؤ الأغيار، والسماح لأفراد بعينهم دخول فضاءات معينة دون سواهم“ إذ يتحول ميدان التحرير إلى مكان طارد، لفئة معينة، فليس مسموح للمتظاهرين المعارضين للنظام، دخول الميدان في الاحتفالات، بينما يسمح بل يتم حشد المؤيدين للنظام دخوله دون سواهم.
في البدء كانت السيطرة
“بالنسبة للمدن يمكن تخطيط مساحاتها المفتوحة من ميادين وغيرها، على النحو الذي يتحكم في التفاعلات التي تحدث بين الأفراد الموجودين فيها، وذلك من خلال تقسيم الشوارع على النحو الذي يتحكم في أجساد البشر“.- ميشيل فوكو
يعتبر تخطيط المساحات العامة في الدولة التعبير المادي عن التوجه السياسي للنظام الحاكم، أي أنها تستطيع التحكم في أشكال وأحجام التجمعات الموجودة، كالتظاهرات وغيرها–، وعادة ما يصاحب تخطيط المساحات العامة مجموعة من التشريعات التي تدعم عملية السيطرة على التصميمات المادية.
من أشهر الأمثلة على إعادة بناء وتخطيط المدن، على النحو الذي يعوق حدوث تجمعات كان إعادة إعمار فرنسا بعد ثورة 1848 في عهد نابليون الثالث، والتي تم تنفيذها من خلال “هوسمان“-جورج هوسمان (1809-1891) معماري ومهندس وضع تخطيط مدينة باريس في القرن التاسع عشر، وهو ما عُرف بالمخطط الهوسماني؛ ويكيبيديا-. فبحسب ديفيد هارفي –عالم الجغرافيا –أنه في إطار إعادة إعمار فرنسا تم تحويل الشوارع الضيقة إلى شوارع واسعة” boulevards” ، مما يصعب على المتظاهرين وضع حواجز بينهم، وبين قوات الأمن، وبالتالي ييسر من فض التظاهرات. مع توضيح أن هوسمان شارك أيضًا في وضع رؤية لتخطيط القاهرة الخديوية– والتي تتضمن ميدان التحرير– بطلب من الخديو اسماعيل. وهنا يظهر سؤال، هل عمران ميدان التحرير مكان مثالي جاذب للتظاهرات؟ أم أنه على العكس من ذلك، مكان طارد ومعد للانتظار والمرور بدلًا عن التجمع؟
ميدان التحرير غير المكتمل
“إن منظومة السلطة أداة احتكار للرمز على المساحتين الجغرافية والوجدانية” – بيير بورديو
يُوصف ميدان التحرير من حيث التصميم بأنه مكان غير مكتمل، بسبب تتابع الخطط المختلفة لتطويره والتي تزامنت مع التحولات السياسية التي مرت بها البلاد، إلا أن أيا منها لم يُنفذ بشكل كامل، ويعني ذلك أنه عمران غير واضح، يتسم بالمراوغة، مما يجعل منه مكانًا غير طيع لإسقاط نظريات بعينها عليه، فهو مكان طارد للتجمعات والتظاهرات في بعض الأحيان، وجاذب ومثالي في أحيان أخرى.
بحسب مصطلح عالم لاجتماع “زيجمونت باومان“، والذي يذكر في كتابه “الحداثة السائلة” أن هناك نوعًا من الفضاءات العامة غير الاجتماعية تكون طاردة للأشخاص، إذ لا يبقى به الأشخاص كثيرًا، فيمروا مرور الغرباء، ويعبروا الميدان، ثم يمضون إلى طريقهم، فلا يوجد في الميدان مقاعد للجلوس، أو مظلات من أشعة الشمس“.
بعد بناء مجمع التحرير في الجانب الجنوبي من الميدان الذي بدأ في العمل آواخر 1951. تحول الميدان إلى مكان يقصده المئات يوميًا لقضاء مصالحهم، مع عدم الارتباط نهائيًّا بالمكان حيث يخدم مجمع التحرير يوميًّا المئات من الأشخاص الذين لن تربطهم بالميدان أي ذكرى إلا إنهاء أوراق لمصلحة ما.
وللإمعان في “طرد” الناس من ميدان التحرير استحدثت قوات الأمن المركزي والتي أنشأت بموجب القرار رقم 1010 لسنة 1969 لتكون مهمتها الأساسية مكافحة الشغب، والتظاهرات التي أسهمت في عدم وجود تجمعات أو تظاهرات في الميدان، وإن وجدت فليس لفترات طويلة وانما يتم طردها سريعًا.
بعد ذلك، وفي عهد السادات أصبحت اتسعت سياسات تحجيم حركة المواطنين، وتقييد دخولهم للفضاءات العامة؛ إذ استمر فض التظاهرات بكفاءة وفاعلية، ناهيك بقيام الحكومة بإغلاق المساحة الخضراء التي كانت موجودة أمام المتحف المصري في الجانب الشمالي من الميدان. وهو ما استمر في عهد مبارك وإن كان بشكل أكثر توغلًا، نتيجة لدولة الاستثناء الدائمة التي أنشأها من خلال قانون الطوارئ، فبحسب علي الرجَّال –الباحث في علم الاجتماع– انعكست تداعيات الأمنية على المعمار، وهيكلة المجتمع، وهندسة المساحات فيه” فبداية كان هناك توجه عام بقتل أي مساحة لحرية الحركة بإغلاق الحدائق العامة، كما أن التظاهرات لم تكن قادرة على الصمود لفترات طويلة، نتيجة التخوف من القبض والاعتقال وكانت قوات الأمن تسعى بشتى الطرق إلى منع تجمع المتظاهرين داخل ميدان التحرير بشكل خاص، ففي الأغلب كانت التظاهرات عند نقابة الصحفيين، أو الاستاد، أو الأزهر.
وبسبب أن عملية التأثير والتاثر عملية متبادلة بين من المدينة ومن يستخدما ويمر بها أي بين الحكومة والشعب فقد يؤثر الأفراد “العاديين“ في الأماكن/المساحات المادية التي يمرون بها سواء عن قصد، أو بشكل عفوي.
حيث يقوم قاصدي منطقة وسط البلد بمقاومة عفوية –إن صح التعبير– وذلك بخلق مساحة تجمع للترفيه من خلال الجلوس حول منطقة مجمع التحرير حتى مع قلو المقاعد. يدعم هذه المساحة نشاط تجاري –نصبة شاي– للمهمشين من أبناء الطبقة الأكثر فقرًا التي لا يتوفر لها مكان في التحرير إلا على الرصيف أو على الأرض في المساحة الخضراء.
المراوغة نحو الحرية
قدم آصف بيات –أستاذ علم الاجتماع– في كتابه “الحياة سياسة” تساؤلًا حول ما أسماه “شوارع الغضب“، “لماذا توجد شوارع وميادين على وجه التحديد تصبح مكانًا متميزًا للاحتجاج؟“، ووضع لها عدة معايير أهمها؛ أن يكون لها أهمية رمزية تاريخيًّا، وأن تكون مجاورة لمسجد كبير أو محلات لبيع الكتب، فضلًا عن وجود أماكن ترمز إلى السلطة ومؤسساتها، وهو ما ينطبق على ميدان التحرير إذ كانت به ثكنات الجيش البريطاني، والتي تحولت إلى مبنى جامعة الدول العربية، فضلًا عن مبنى الاتحاد الاشتراكي العربي– التنظيم السياسي الحاكم في مصر في عهد ناصر، الذي تحول لاحقًا إلى الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يمثل نظام مبارك، بالإضافة لوجود مجلس النواب.
والميدان يقع في وسط مدينة القاهرة، وبحسب نزار الصياد– أستاذ العمارة والتخطيط العمراني في جامعة كاليفورنيا– في كتابه “القاهرة، وتاريخ المدينة“-صدرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة، بترجمة يعقوب عبد الرحمن– يربط الميدان بين ما يزيد على عشرين شارع، بالإضافة إلى وجود كوبريين اثنين يؤديان إليه، مما يجعل منه نقطة التقاء مناسبة للمتظاهرين، ولا يوجد شارع رئيسي طويل ومستقيم، يسهل من خلاله على قوات الشرطة إغلاقه، ومحاصرة التجمعات، وهي كلها عوامل أسهمت في اعتباره نقطة جذب للاحتجاجات، بل والثورات على مدار تاريخ مصر الحديث، بداية من ثورة 1919، مرورًا بتظاهرات الجلاء عام 1946، وتظاهرات 1972 احتجاجًا على الأحكام المخففة الصادرة بحق ظباط الطيران المتسببين في هزيمة 1967، وصولًا إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير. لذلك فهو يعتبر ذو رمزية في الخيال المصري.
الميدان يفاجئ الجميع
وفقًا لمها عبد الرحمن في كتابها “ثورة مصر الطويلة” كان الحدث الاستثنائي في 20 مارس2003 حيث استطاع المتظاهرين الوصول إلى الميدان، وقد تجاوز عددهم 40 ألف، وكان ذلك تزامنًا مع غزو العراق، والذي اعتبره البعض بمثابة “بروفة لثورة الخامس والعشرين من يناير“.
مع ثورة الخامس والعشرين من يناير “تحولت ملكية الفضاءات العامة من الدولة إلى الناس” بحسب هاجر عطوة –باحثة في مركز تكوين للدراسات والتنمية العمرانية–، فقد كان للسيطرة المبالغ فيها على المساحات العامة مردود عكسي، إذ تم احتلال عدد كبير من ميادين المحافظات من قبل المواطنين كميدان الأربعين في السويس، والقائد إبراهيم في الإسكندرية، وميدان التحرير في القاهرة، والذي تحول إلى رمز للحرية والثورة. وهو ما تجلى في الحوائط التي زينتها رسومات الجرافيتي المعبرة عن الثورة والحرية، والشهداء.
كما أصبح الرؤساء والوزراء يستمدون سلطاتهم من دعم الميدان، فقد أطل علينا “عصام شرف” –أول رئيس وزراء بعد الثورة– في ميدان التحرير عند تعيينه. وهو ما تكرر أيضًا بعد انتخاب محمد مرسي رئيسًا للجمهورية، حيث ألقى خطابه الأول من ميدان التحرير في وسط المتظاهرين. بشكل أو بآخر اكتسب الميدان قوة نابعة من الثورة ومتمثلة في سلطة الشعب.
بعد وقت من الرومانسية الثورية تحول الميدان لمكان آخر بفعل السياق الذي قدمنا الحديث عنه، إلا أن أهم ما حوَّل رمزية الميدان هو سارية علم مصر تأكيدًا على هيبة “الدولة” أو النظام السياسي الناشئ بعد الثالث من يوليو استطاعت السارية ملأ الكعكة الحجرية حسب وصف أمل دنقل في قصيدته عن ميدان التحرير، وهو ما لم تنجح فيه مختلف الأنظمة التي مرت على مصر. بداية من تمثال الخديو إسماعيل الذي ظلت قاعدته دون تمثال، بالنظر إلى وصول التمثال بعد حركة الضباط الأحرار في 1952. ثم فكرة بوضع نصب تذكاري لحركة الجيش في 1952، وبعد ثورة يناير عادت الكعكة الحجرية إلى موضع اهتمام الدولة، وقدمت مقترحات عديدة لبناء نصب تذكاري لشهداء الثورة، ولم تدخل أي منها حيز التنفيذ، إذ لم يكن بالإمكان توحيد رمز يعبر عن المتظاهرين فتُرك الميدان خاليًا بما يشعر بالبراح الذي حلم به الجميع أما بعد الثالث من يوليو تم بناء نصب تذكاري صرحت الحكومة وقتها أنه تخليد لذكرى ثورتي يناير ويونيو، إلا أنه هدم على أيادي عدد من المواطنين.
كل المحاولات كانت فاشلة، وحدها السارية كان الأقوى؛ فوفقًا لما صرح به محافظ القاهرة “كان من المناسب لنا وضع العلم في هذا المكان لأنه يوحِّد ويجعل الناس يشعرون بالوطنية.” لم تلق السارية أي مقاومة من قبل المواطنين. هل السبب أن النصب التذكاري هذه المرة كان علم مصر، لهذا قد يكون من الصعب هدمه أو الاعتراض عليه؟
أو ربما التخوف الأمني هو السبب الوحيد وراء ذلك؟ لا نعلم.. لكن المعلوم من التاريخ بالضرورة أن ميدان التحرير يحمل المفاجآت للجميع.
أقدم صورة لميدان التحرير – 1896