داخل محلات علي خليل للموبيليا في القاهرة في عشرينيات القرن السابق؛ شاب استورجي يعمل بكل جهد وإتقان، مسليًا نفسه بالغناء بصوت خافت، كأنه يغني لنفسه، يتردد الصوت بداخله أكثر مما يخرج منه، وذات مرة صادف وجود المطرب، والتاجر سابقًا، زكي مراد وهو صديق شخصي لعلي خليل، بحسه الفني وأذنه الموسيقية استرق السمع لصوت الشاب، والتفت إليه وبدأ يحاوره، ومن هنا بدأت القصة..
الاستورجي عبد الغني السيد، يقص على المطرب الكبير قصته؛ إنه لم يكمل تعليمه، وعانى من زوجة الأب، وكشف عن كتفه ليريه آثار حادثة حرق بسبب دلقها ماء ساخن عليه وهو طفل، يحكي دون أن يحاول استجداءه أو يُثير شفقته، هذا ما حدث وها أنا ذا هنا، السؤال المهم من أين أنت؟ ومن أين لك هذا الصوت العذب! أعتقد إنها كانت مفاجأة لزكي عندما عرف أن عبد الغني من حي عابدين القاهرة، هو إذن ابن هذه المدينة.
أصبح عبد الغني فردًا من أفراد عائلة زكي، يتدرب مع أبنائه ملك وسميحة وليلى ومنير، ويستمع إلى جيل العمالقة الحاضرين دائمًا في بيته. كانت تلك الفترة بمثابة فترة الدراسة والتعلم، صوت عبد الغني عذب وجميل وقادر على التلون بكل الأشكال، هو ابن مرحلة البدايات ما بعد عصر النهضة وظهور القطبين أم كلثوم وعبد الوهاب، أصغر منهم بعشر سنوات تقريبًا، لكنه وصل إلينا ابنًا لفترة الخمسينيات والثورة، لماذا حدث ذلك، وكيف أصبح عبد الغني مجردًا من المقارنات، منفردا بذاته إلى درجة النسيان، يختلط علينا صوته واسمه مع كارم محمود، ابن الجيل التالي له، جيل الأربعينيات؟
نحاول هنا فهم ما حدث على ضوء الأحداث ونغمات صوته المنفرد.
مع نهاية العشرينيات، وسفر زكي مراد لأمريكا في رحلة عمل طويلة، كان على عبد الغني أن يشق طريقه وحيدًا، فانطلق للعمل ضمن فرقة منيرة المهدية، والقصة الشائعة هنا أنه شارك بديلاً لمحمد عبد الوهاب في مسرحية كليوباترا، وأن عبد الوهاب منذ ذلك الوقت شعر بالمنافسة مع الشاب الوسيم، القادر بحنجرته الوقوف أمام أي صوت على الساحة، من المفترض أن ذلك كان في عام 1927، وأعتقد بعد قليل من البحث، أن القصة بها بعض الأخطاء، وأنها قصة ذات شكل درامي جميل أكثر منها واقعية، في ذلك العام كان عبد الغني ما يزال لم يكمل عامه العشرين. وفي كتاب مسيرة المسرح في مصر 1900–1935: فرق المسرح الغنائي؛ للأستاذ والدكتور سيد علي إسماعيل، لم يذكر أي علاقة بين كليوباترا وعبد الغني، حتى عند إعادة عرضها في مطلع الثلاثينيات كان يمثل أمام منيرة المهدية صالح عبد الحي على حد ذكره. لكن عبد الغني شارك منيرة في عام 1933، مسرحية المخلصة وأوبريت لولو. وهذا أكثر منطقية، خصوصًا في عمر عبد الغني وقتها، من الممكن أن يكون شارك ولو مرات قليلة في مسرحية كليوباترا ضمن مرات إعادة تقديمها، لكن لم تكن مشاركته في المرة الأولى عام 1927.
في التوقيت نفسه؛ في بداية الثلاثينيات، وقَّع عبد الغني عقدًا مع شركة أوديون لتسجيل الأغنيات، وفي تلك الفترة بدأ رحلة مع الملحن الشاب في ذلك الوقت القادم من المنصورة؛ رياض السنباطي. الاثنان في بدايتهما، صوت منطلق وقوي وقادر على تقديم أي لون، وملحن يتحسس خطواته الأولى بهدوء وذكاء، يترقب المشهد، عينه على الأستاذ الأكبر محمد القصبجي، والعين الأخرى تراقب الموهبة الفذة المنطلقة بسرعة رهيبة محمد عبد الوهاب. السنباطي وعبد الغني يعرفان بعضهما من خلال مسرح منيرة، فرياض هو ملحن مسرحية المخلصة التي شارك فيها عبد الغني، وكانت تلك الفترة والتجربة من أجمل ما غنى.
صوت قادر على التحرك بين المقامات بشكل سلس، وحنجرة في عنفوانها، وملحن يستغل هذه الامكانات بكل ما يملك من خبرة وأحلام، فقدم أغنيات مثل “الحب له جنة و نار، لا دمع كفى و طفى النار، شفت الأمل و الهنا، يا ناري من كثر جفاكي، قولي إيه غير حالي، هجرني محبوبي، نسيتى حبى بعد اللي كان والتي حققت نجاحًا كاسحًا في سوق الأسطوانات في تلك الفترة، ووضعت عبد الغني على القمة ضمن الكبار. وهناك أغنية غاب بدري والتي نستمع في بدايتها إلى عزف رياض، ويا آسرة قلبي يا ملاكي والتي قيل إن السنباطي كان متأثرًا بعبد الوهاب في تلحينها، وآه من العيون، وقوليلي ايه جرى لي ومطلعها يشبه مطلع لحن افرح يا قلبي، ومن الواضح أن اللحنين متأثران بالقصبجي.
نستطيع بعد سماع هذه التحف الفنية، أن ندرك نقطتين، النقطة الأولى وجود عبد الغني في برنامج اليوم الأول لافتتاح الإذاعة المصرية عام 1934 بعد محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وهو ما يؤكد على مكانته على خارطة الغناء المصري وقتها، أما الثانية فهي كيف لم يستثمر عبد الغني هذا النجاح بالشكل الأمثل، ليس النجاح الجماهيري، بل النجاح الفني؟ كيف لشخص يقدم هذه الألحان ويمتلك خامة صوتية نادرة، أن يتخلى عن تقديم ألحان تبرز صوته وجمالياته الساحرة، والسبب هنا هو تخليه عن كل المنافسات. ورؤيته للغناء؛ فهو لا ينسى أن الغناء سلوته الوحيدة من عذاب الطفولة ووحدتها، لا ينسى أن الغناء كان رفيقه وقت العمل في محلات الموبيليا، ويحب الغناء لذاته، يهرب منه وبه إلى عالم آخر، لذلك لم يكن يخطط، يسير مع الموجة السائدة بلا خطة محددة، لا يحاول الاستفادة من الأحداث ولا تسلقها، هو يحب الغناء، والعجيب أنه ينجح فيه بكل سهولة وتواضع.
شارك عبد الغني مع أم كلثوم في فيلم عايدة 1942، ولم تكن بينهما صداقة شخصية أو عداوة حتى، كان هناك حذر من ناحية أم كلثوم، لأنه صديق مقرب لمنافسها الأول محمد عبد الوهاب. وقع عبد الغني إذن بين اثنين من أكثر الأشخاص تخطيطًا لكل خطوة في حياتيهما، شخصان يحاولان كسب كل شيء لصالحهما ولصالح خلودهما، حتى وإن جاءت الرياح بما لا يتوقعان كانا قادرين على مواكبة الريح، لا السير معها فقط والبعد عن الخسارة، لكنهما كانا يجنيان الربح من هذا التغيير أيضًا، في وسط كل ذلك يجلس عبد الغني غير مكترث “أنا سعيد بما أنا فيه، فدعونا نغني ونلهو ونحب ونشرب في صحة الأيام!”، وهو من غنى “الدنيا دي بهجة وفانية والعمر دقيقة وثانية، يلا نشرب شمبانيا“.
علاقة عبد الوهاب وعبد الغني، علاقة متضاربة، بين كونها صداقة عمر، وهناك جملة كليشيه قالها عبد الوهاب أو منسوبة إليه على الأقل، “عبد الغني هزمني مرتين”؛ مرة عندما نافسني، ومرة عندما رحل عندي كصديق”. وبين كونها علاقة سيطرة من عبد الوهاب على عبد الغني لأنه منافس قوي، خصوصًا في الثلاثينيات والأربعينيات، فيقال إنه كان يجعله يتكاسل عن الحفلات وما شابه، لكن عبد الغني كان متحررًا من كل ذلك، غير مكترث لما يخطط له عبد الوهاب أيًا كان ما هو. وبعيدًا عن العلاقة الشخصية، لحن له عبد الوهاب نحو 6 ألحان، جاء أغلبها خاليًا من أي بصمة حقيقة لعبد الوهاب، أو استخدام كامل لمساحة وطاقة صوت مثل صوت عبد الغني، كما أن أغلبها لم ينل حظه من الشهرة، باستثناء أغنية “أنا وحدي مع الحرمان”، لأن لحنها جديد وسريع ومختلف عما كان يقدمه عبد الغني، وأعتقد أنها جاءت في فترة ما بعد ظهور عبد الحليم، وفترة الأغنية السريعة المطعمة بإيقاعات غربية.
كان التحرر صفة دائمة في مشوار عبد الغني، فعندما قابل الملحن محمود الشريف في حيفا بفلسطين، وجد فيه الشريف صوتًا قادرًا على تقديم الأغنية الشعبية الجديدة؛ الأغنية المطعمة بالفولكلور، والتي تناسب الموجة الجديدة من الأفلام. كان عبد الغني قد شارك في عدد قليل من الأفلام قبل ذلك، قبل حتى مشاركته في فيلم عايدة مع أم كلثوم، ومن أهم هذه التجارب فيلم “شيء من لا شيء” التي شاركته بطولته نجاة علي، وكانت فرصة له كي يجتمع صوته مع شيخ الملحنين؛ الشيخ زكريا أحمد، فقدم عدة أغنيات يمكن ضمها إلى ألحان السنباطي أيضًا، ألحان تؤكد على موهبة وقدرة صوتية وعذوبة، فقدم غني يا طير، وديالوج الصبر مع نجاة علي، وزدني حيرة يا هوايا، والتي يغني فيها جملته الشهيرة “يا حزين القلب سيبك من الضنى“.
انطلق محمود الشريف السكندري صاحب الألحان الشعبية والبصمة الفلكلورية في تقديم عبد الغني بشكل جديد في فيلم شارع محمد علي 1944، واللافت للنظر هنا، هو قدرة عبد الغني على التحول من غناء المونولوج و الطقطوقات الكلاسيكية، لغناء الشعبي البسيط، انتقال سلس، وكأنه قادم من الدلتا، ليغني ولفت عليك، مع أنه ابن المدينة، ربما كان ذلك هو السبب في قدرته على النسخ والتقليد والانتقال من لون إلى لون آخر؛ فهو لا يحمل أي إرث في ذاكرته عن شكل معين من الفن، هو ابن المدينة بكل ما فيها من تنوعات واختلافات، وكان ذلك سببًا مهمًا في تحرره من المنافسة أيضًا.
دخول عبد الغني هذه المنطقة أبعده تدريجيًّا من طريق أم كلثوم وعبد الوهاب، خصوصًا وأنه لم يستطع استثمار نجاحات السينما بشكل جيد، ولم يقدم طول تاريخه إلا ما يقرب من 16 فيلمًا فقط، ولم يستطع تقديم تجربة سينمائية مثل محمد فوزي في ذلك الوقت. والمفارقة أن محمد فوزي شارك في فيلم شارع محمد علي ملحنًا، باسمه الحقيقي؛ فوزي الحو. وبهذا كان عبد الغني من أوائل المطربين تعاونًا مع فوزي.
على الرغم من تقديم عبد الغني ألحانًا مختلفة في الفيلم بمشاركة فوزي كما أشرنا، والسنباطي في آه من العيون، لكن لا أحد يستطيع أن ينسى أو يتجاهل الأغنية الأشهر في تاريخ عبد الغني “ولا يا ولا”، الحية التي التهمت كل عصي موسى، وقدمت لنا نسخة جديدة من عبد الغني السيد، وكونت ثنائيًا عظيمًا مع محمود الشريف، فخرج من عباءة الثلاثينيات ودخل مع الأجيال الجديدة من المطربين مثل كارم محمود وعبد المطلب.
كانت تجربة محمود الشريف مع عبد الغني هي الأهم في مسيرته؛ الأغنية المصرية البسيطة، التنقل بين الشعبي والطربي والكلاسيكي بمهارة الشريف والسيد، كلا منهما وجد نفسه في الآخر، صنعا أغنيات كثيرة لا مجال لذكرها، لكن ينبغي على الأقل، الوقوف عند بعضها كي نعرف قيمة وجمال هذه التجربة وهذا الصوت الفريد المتنوع. هذا التحرر من الأضواء والمنافسة وحجز مكان في القمة، جعلت صوته منفردًا، وظهر هذا على سبيل المثال في يللي بعادك طال، قلبي يا قلبي، عالحلوة والمرة، إيه فكر الحلو بيه، أنا وأنت في الهوى، يا شاغل روحك بإيديك، الأبيض الإمارة، علشانك يا حارمني حنانك، بايعنى ولاّ شارينى، الجو اهو راق وعلشانك يا حارمني حنانك
من وجهة نظري وقع عبد الغني فريسة للانتقام، انتقام شخصي مختلط بمشاعر وطنية وسياسية، بجانب أنها موجة مر الكل بها؛ وهو الغناء للثورة بكل مراحلها وأنواعها. غنى عبد الغني كثيرًا للثورة ولرئيسها جمال عبد الناصر، أما فكرة الانتقام فجاءت نتيجة لواقعة الملك فاروق؛ الذي أجبر عبد الغني على إن يطلِّق زوجته الثانية، التي كانت ابنة أحد الوزراء. سبق للملك أن تدخل مرتين في حياة أم كلثوم الشخصية؛ مرة عندما رفض زواجها من خاله شريف باشا صبري، والأخرى عندما رفض زواجها من محمود الشريف.
أعتقد أن عبد الغني كان يغني للثورة وكأنها مكسب شخصي، لكنها أنهكته وأضاعت عليه وقتًا كثيرًا لتقديم أعمال بعيدة عن أغنيات المناسبات قصيرة الأجل.
عشر سنوات فقط عاشها عبد الغني بعد ثورة 1952، تعاون فيها مع ملحني الجيل الجديد مثل محمد الموجي في أغنيات مثل يا نسمة العصاري وعايش حلم جميل ويا بايع الصبر، ومع كمال الطويل في أنا جنبك بانسي الدنيا وأنا بستنى معادك، ومع بليغ حمدي في سحر جمالك، وأنا ماتنسيش التي هي آخر ما غنى.
لم يمهل العمر عبد الغني السيد حتى يرسخ هذه المكانة المهمة في تاريخ الأغنية المصرية، والتي تتخطى الثلاثين عامًا، في فترة هي أهم فترات الغناء في تاريخ مصر، لكنه ترك لنا أغنيات مهمة؛ ما يزيد على 880 أغنية؛ غير المشهور منها أكثر مما اشتهر به. وكي نكتشف عظمته علينا أن نبحث عنها ونستمع إليها. رحل عبد الغني عام 1962، ويقال إنه كان وسيطًا في الخلاف بين صديقته تحية كاريوكا وزوجها فايز حلاوة، وانفعل حتى سقط مغشيًّا عليه وتوفيَّ بعدها بعدة ساعات.