ما رأيك في السترات الصفراء الباريسية؟
تخيل كم مرة طرح السؤال هكذا مجردًا، وبطريقة مشجعي كرة القدم المحترفين؛ سؤالهم يحمل الإجابة وينشغل، لا بالفهم، بل بإثبات “صواب” تشجيعهم لرأي بعينه، وتحليل قائم على فرضيات ومناهج تربي مشجعين لا عقول حرة..
لكن الموضوع واضح بما يكفي؛ ناس تواجه سلطة منحازة ضد مصالحهم. ثورة فقراء على رئيس هو في الواقع “صديق الأغنياء”..
ربما.. هذه إجابة تعني عادة أن الوضوح القديم لم يعد صالحًا لتفسير اللحظات المركبة، والمعقدة بما يكفي لإعادة النظر في المفاهيم المستقرة. فأصحاب السترات الصفراء أنفسهم يعاد تشكيلهم على الهواء مباشرة، وتنمو حركتهم بإيقاع متصاعد، لا يمكن فهمه بالغطس في أواني المعاني القديمة.
لا يمكن إسقاط مفاهيم باريس الثورة الفرنسية على باريس السترات الصفراء؛ هذا بديهي، لكن البداهة ليست حلاً لفقر المعاني، بل مقتل، كما كانت في تجربتنا مع الثورات/الانتفاضات/الربيع العربي، ما يزال التفكير في اللحظة الكبيرة التي خرج الناس فيها يعمل بمنطق يحولها إلى ميلودراما عادية تستدعي البكاء والجروح النرجسية بعد فقدان الطريق إلى يوتوبيا النهايات السعيدة..
هذه مقدمة طالت على ما نريد تقديمه قبل نص الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين.. الشهير بتفكيك المفاهيم المستقرة.. لعبته الكبرى هي النظر في التفاصيل الصغيرة ليعيد بناء طرق للتفكير في المطلق.. وهو يرى أنه ليس مؤرخًا بالمعنى التقليدي، بل يعمل على نماذج من التاريخ؛ وهذا مطلوب في لحظة تحتاج إلى طرح الأسئلة المهمة، والمنسية في الوقت ذاته.. والواقع أنه ليس من السهل تصنيف كتب أجامبين على أنها كتب تاريخ، بل هي مزيج من التاريخ والفلسفة وعلوم اللغة والقانون.. ذهبنا إلى نص أجامبين لأننا لا نريد التفكير في عالم يتغير، ومدينة لم تعد كما كانت، بعقول تاهت في محطات قديمة..
أجامبين معنا ونحن نفكر في انتفاضة “السترات الصفراء” الباريسية؛ التي يراها البعض صدى متأخرًا لخروج قطاعات كبيرة من سكان دول العالم العربي لإعلان القطيعة مع العقد القديم مع السلطة.. بينما يرى بعض آخر أنها بداية العنف المضاد لعنف سياسات النيوليبرالية.. يشغلنا الجدل؛ فنسأل في بدايته عن تأثير مفهوم الشعب على الشعور بالإذعان الدائم للسلطة التي من المفترض أنها تتحدث باسمه؟ ولماذا يرتبط هذا المفهوم بالبؤس والمعاناة كلما قيل؟ وهل هو توصيف متخيل، أم حقيقة سياسية؟
ولد جورجيو أجامبين في روما 1942؛ وهو فيلسوف ومؤرخ إيطالي، حصل على الدكتوراه في القانون من جامعة روما عام 1965. وأشرف على ترجمة الأعمال الكاملة لفالتر بنيامين من الألمانية إلى الإيطالية؛ وهو عمل استغرق نحو 15 عامًا إذ كان معظمها أعمال لم تنشر في حياة بنيامين. يعمل حاليًا أستاذًا لفلسفة الجمال بكلية العمارة في فينيسيا. من كتبه “اللغة والموت” و “حالة الاستثناء” و”الإنسان المقدس “Homo Sacer
إن أي تأويل للمعنى السياسي لكلمة “شعب” ينبغي أن ينطلق من الواقعة المميزة في اللغات الأوروبية الحديثة المتمثلة في أن هذه المفردة تشير أيضا إلى الفقراء والمعدمين والمستبعدين. فالمفردة ذاتها تحيل إلى الذات السياسية المؤسِّسة مثلما تحيل إلى طبقة المستبعدين عمليًّا، إن لم يكن قانونيا، من المجال السياسي.
إن المفردة الإيطالية popolo، والفرنسية peuple، والإسبانية pueblo، فضلاً عن الصفات المقابلة لها popolare ،populaire ،popular، والمفردتين اللاتينيتين المتأخرتين popularis، populous، اللتين اشتقت منهما جميع تلك المفردات، تشير جميعها، على مستوى اللغة الدارجة كما في المعجم السياسي، إلى مجموع المواطنين بوصفهم جسدًا سياسيًّا موحدًا، كما في مصطلح “الشعب الإيطالي” أو giudice popolare، تمامًا مثلما يشير إلى الطبقات الدنيا، كما في التعبير homme du people (رجل الشارع)، وrione popolare (حي الطبقة العاملة)، وfront populaire (الجبهة الشعبية). حتى المفردة الإنجليزية people- التي ينطوي معناها على درجة أقل من التمايز– لا تزال تحتفظ بمعنى “العامة” في مقابل الأغنياء والطبقة الأرستقراطية.
وهكذا يمكننا أن نقرأ في الدستور الأمريكي بلا أي تمييز “نحن، شعب الولايات المتحدة..”؛ لكن عندما يستحضر لينكولن في خطاب جيتيسبرج “حكم الشعب، بواسطة الشعب، من أجل الشعب“، فإن التكرار يضع، بطريقة ضمنية، شعبًا آخر في مقابل الشعب الأول. إن المدى الذي بلغه هذا الالتباس في تجذره حتى في أثناء الثورة الفرنسية (أي في ذات اللحظة التي شهدت إعلان مبدأ سيادة الشعب) يمكن إدراكه من الدور الحاسم الذي لعبه فيها شعور ما بالتعاطف تجاه الناس الذين كان ينُظر إليهم كطبقة مستبعدة. وكما تذكرنا حنا آرندت:
لقد وُلد تعريف الكلمة ذاته من رحم التعاطف، وأصبحت المفردة مرادفًا للمعاناة والتعاسة؛ les malheureux
le peuple, les malheureux m’applaudissent (الشعب، هؤلاء التعساء يصفقون لي) كما اعتاد روبسبيير أن يقول؛ le peuple, toujours malheureux (الشعب التعيس/ الشقي دائمًا وأبدًا)، كما سيقول سييه نفسه، والذي يعد أحد أقل رموز الثورة عاطفية وأكثرهم رصانة.
هذا المعنى المزدوج نجده أيضًا لدى جان بودين– وإن كان بمعنى مختلف– في فصل “كتب الجمهورية الستة” الذي يعرف فيه الديمقراطية أو Etat Populaire: في حين أن popolo minuto (من مصطلحات الثورة الفرنسية و يمكن ترجمتها بالبسطاء) هم أولئك الذين تقتضي الحكمة إقصاؤهم من مجال السلطة السياسية، فإن peuple en corps هم المخولون بممارسة السيادة.
إن التباسًا دلاليًّا بمثل هذا الثبات والانتشار لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة: إنه يعكس قطعًا التباسًا متأصلاً في طبيعة ووظيفة مفهوم “الشعب” في السياسات الغربية. وبكلمات أخرى، يبدو الأمر كما لو أن ما نطلق عليه شعبًا ليس في واقع الأمر ذاتًا موحدة، بل بالأحرى تذبذب جدلي بين قطبين متقابلين: فمن جهة، هناك “الشعب” People باعتباره كلا وجسدًا سياسيًّا متكاملاً، ومن جهة أخرى، هناك الشعب people باعتباره مجموعة فرعية وكثرة متشظية من الأجساد المحرومة والمستبعدة؛ فمن ناحية، هناك مفهوم شمولي يدعي/ يزعم الإحاطة الكاملة دون أن يبقي شيئًا خارجه، ومن ناحية أخرى، هناك مفهوم إقصائي يعرف الجميع أنه لا يقدم أي أمل؛ الدولة الكلية المؤلفة من المواطنين المندمجين أصحاب السيادة في طرف، وإقصاء للبائسين، المقهورين، والمسحوقين – سواء في أحياء الفقراء أو معسكرات الاعتقال– في الطرف الآخر.
ما من سبيل للعثور في أي مكان على مرجع مفرد ومتماسك يحيل إليه مصطلح “الشعب“: وشأن الكثير من المفاهيم السياسية الأساسية (مثل Urworte لدى آبل وفريند أو العلاقات التراتبية لدى دومو)، فإن “الشعب” مصطلح ثنائي القطب يشير إلى حركة مزدوجة وعلاقة مركبة بين حدين. لكن هذا يعني أيضًا أن تنظيم الكائنات البشرية في كيان سياسي يتأتى من خلال صدع جوهري، وأنه يمكننا التعرف بسهولة في مصطلح “الشعب“على زوج مفاهيمي حددناه في السابق باعتباره المقولة الحاسمة في البنية السياسية الأصلية: الحياة العارية (الشعب people) والوجود السياسي (الشعب People)، الإقصاء والإدماج، zoe وbios. إن مصطلح الشعب ينطوي بداخله دائمًا الصدع السياسي–الحيوي الجوهري. إنه ذلك الجزء الذي لا يمكن إدراجه ضمن الكل الذي يشكل جزءًا منه، مثلما هو ذلك الجزء الذي لا يمكنه أن ينتمي إلى الكل الذي يندرج بالفعل ضمنه على الدوام.
ومن هنا تلك التناقضات والمعضلات التي يولدها مثل هذا المفهوم في كل مرة يتم استدعاؤه ليلعب دورًا على المسرح السياسي. إنه هذا الشىء المطابق لذاته دائمًا، مثلما هو أيضًا ذلك الشىء الذي لايزال يتعين عليه أن يحقق ذاته؛ إنه المصدر الخالص للهوية الذي يتعين عليه أن يطهر نفسه ويعيد تعريفها بصفة مستمرة وفقًا للإقصاء، واللغة، والدم، والحدود الجغرافية. إنه ذلك الذي يجد في نقيضه عين الجوهر الذي يفتقر إليه، ومن ثم فإن تحققه يتطابق مع إلغائه الخاص، وعليه دائمًا أن ينفي ذاته من خلال نقيضه من أجل أن يكون. (ومن هنا تلك المعضلات النوعية الخاصة بحركة العمال التي تولي وجهها شطر الشعب وفي الوقت نفسه تستهدف إلغاءه).
إن مفهوم الشعب– والذي يتم التلويح به على الدوام بوصفه اللواء الدامي للمقاومة والراية الخفاقة للثورات والجبهات الشعبية– دائمًا ما ينطوي على صدع أكثر جوهرية من ذلك الذي يفصل بين العدو والصديق، حرب أهلية لا تنقطع تعمل، في آن معًا، على شطر هذا المفهوم بصورة أكثر جذرية من أي صراع، وتحافظ في الوقت نفسه على وحدته وتوطيده على نحو أكثر رسوخًا من أي هوية. والحال، إن ما يطلق عليه ماركس الصراع الطبقي– والذي يشغل مكانًا مركزيًّا في فكره، حتى وإن لم يمنحه تعريفًا متماسكًا قط– ليس إلا هذه الحرب الطاحنة التي تقسم كل شعب والتي سوف تصل إلى نهايتها فقط عندما يتطابق الشعب Peopleمع الشعب people في المجتمع اللا طبقي أو في المُلك الألفي للمسيح، وفقط عندما لا يعود للشعب أي وجود فعلي.
وإن كان الأمر كذلك (إن كان مفهوم الشعب يحمل في باطنه بالضرورة الصدع السياسي–الحيوي الجوهري) فبوسعنا أن نقرأ من جديد بعض الصفحات الحاسمة من تاريخ القرن العشرين. فمع أن الصراع بين الشعبين كان قائمًا على الدوام، فالواقع أنه يشهد في يومنا هذا تسارعًا مباغتًا ونهائيًّا. ففي روما القديمة، حظي هذا الصدع الداخلي الذي ينطوي عليه الشعب بالاعتراف القانوني من خلال تمييز واضح بين populous وplebs، حيث كان لكل منهما مؤسساته وقضاته– تمامًا مثلما كان التمييز بين الحرفيين والتجار في العصور الوسطى يتطابق مع التمييز الدقيق والواضح بين شتى الفنون والحرف. لكن مع منح السيادة حصريًّا للشعب، بداية بالثورة الفرنسية، أمسى “الشعب” حضورًا مربكًا، وبدا الفقر والإقصاء للمرة الأولى فضيحة لا تطاق بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وفي العصر الحديث، نجد أن الفقر والإقصاء ليسا مفهومين اجتماعيين فحسب، بل أيضا مقولتين سياسيتين بارزتين. (إن النزعتين الاقتصادية و“الاشتراكية” المهيمنتين فيما يبدو على السياسات الحديثة، تنطويان فعليًّا على معنى سياسي أو، بالأحرى سياسي–حيوي) ومن هذا المنظور، فإن عصرنا هذا ليس إلا محاولة منهجية لا تهدأ لرأب هذا الصدع الذي يقسم الشعب من خلال اجتثاث شعب المستبعدين من جذوره. وقد جمعت هذه المحاولة، وفقًا لوسائل وآفاق مختلفة، بين اليمين واليسار، الأقطار الرأسمالية والاشتراكية، والتي توحدت جميعها على وضع خطة لإنتاج شعب واحد غير منقسم. إنها خطة عقيمة محكوم عليها بالفشل لكن مع ذلك تم تطبيقها جزئيًّا في جميع الأقطار التي شهدت عمليات تصنيع. إن التأثير الهائل الذي يحظى به الهوس بالتنمية في هذا العصر يعود إلى تطابقه الكامل مع الخطة السياسية–الحيوية التي تستهدف إنتاج شعب بلا صدع.
في ضوء هذا، تكتسب إبادة اليهود في ألمانيا النازية معنى جديدًا على نحو جذري. فباعتبارهم شعبًا رفض الاندماج في الجسد السياسي الوطني (يُفترض، في الواقع، أن إدماجه كان في الواقع إدماجًا زائفًا فحسب)، فإن اليهود هم بامتياز ممثلو “الشعب” ويكادون يكونون رمزه الحي، رمز لتلك الحياة العارية التي تخلقها الحداثة بالضرورة داخل نفسها، والتي لم يعد بمقدورها تحمل وجودها على أي نحو من الأنحاء. علينا إذا أن نفهم الغضب الساطع الذي حاول به الشعب الألماني Volk- الذي يمثل بامتياز مفهوم الشعب باعتباره جسدًا سياسيًّا متكاملاً – إبادة اليهود نهائيًّا، باعتباره، على وجه الدقة، المحطة النهائية لذلك الصراع الطاحن الذي يقسم الشعب Peopleوالشعب people.
ومع الحل النهائي– الذي شمل الغجر وعناصر أخرى غير قابلة للإدماج لسبب أو آخر– حاولت النازية، عبثًا وعلى نحو غامض، أن تحرر المشهد السياسي الغربي من هذا الشبح الذي لا يطاق لكي تنتج، في نهاية المطاف، الشعب الألماني Volk باعتباره الشعب الذي استطاع مداواة الصدع السياسي–الحيوي الأصلي. (ولهذا السبب كان الزعماء النازيون يكررون بمنتهى الإصرار أنهم بإبادة اليهود والغجر كانوا بالفعل يعملون أيضًا لمصلحة الشعوب الأوروبية الأخرى).
يمكننا إذًا إعادة صياغة الفرضية الفرويدية حول العلاقة بين الهو والأنا، لنقول إن السياسة الحيوية الحديثة تقوم على مبدأ مفاده “حيثما توجد الحياة العارية، يجب أن يكون “الشعب“” ما دمنا سنضيف على الفور أن هذا المبدأ صحيح أيضًا في صيغته العكسية، والتي تنص على “حيثما يوجد “الشعب“، هناك يجب أن توجد الحياة العارية“.
والحال، فإن الصدع الذي كان يُعتقد أن إبادة “الشعب“، أي اليهود، الذين يعدون رمزًا له، قد داوته، قد أعاد إنتاج نفسه مجددًا، محولاً بهذه الطريقة الشعب الألماني بأكمله إلى حياة مقدسة منذورة للموت، وإلى جسد بيولوجي ينبغي تطهيره إلى ما لا نهاية (عن طريق إبادة المختلين عقليًّا، والمصابين بأمراض وراثية). وعلى نحو مشابه، وإن كان بطريقة مختلفة، فإن الخطة الرأسمالية–الديمقراطية لإبادة الفقراء في يومنا هذا لا تعيد فحسب إنتاج شعب المستبعدين داخلها بل تعمل أيضًا على تحويل جميع شعوب العالم الثالث إلى حياة عارية. والحال، فإن سياسة بوسعها أن تنجح في الوصول إلى تسوية مع الصدع السياسي–الحيوي الجوهري للغرب، هي فقط التي سيكون باستطاعتها أن تكبح هذا التذبذب وتضع حدًا للحرب الأهلية التي تقسم شعوب الأرض ومدنها.
- النص من كتاب “The Coming community المجتمع القادم” ؛والمنشور هنا نسخة منقحة من الترجمة التي صدرت ضمن مجلة ” عالم الكتاب” العدد 85