[هناك في العالم جميع الحيطان كانت مغطاة بالكتابات المعادية “أيها اليهودي الحقير، اذهب إلى فلسطين“، وها قد ذهبنا إلى فلسطين والعالم كله يصرخ علينا “أيها اليهودي الحقير، اخرج من فلسطين“]؛ هكذا كان عاموس عوز يرى قصة حياة اليهودي؛ شريدًا، مطاردًا، لا يطاق شرقًا وغربًا، لكن هذا بالطبع ليس مشكلة الفلسطينيين.. كان أمرًا مدهشًا بعض الشيء لي أن يفتتح إلياس خوري النسخة العربية من كتاب الروائي الإسرائيلي عاموس عوز “حكايات الحب والظلام” الذي يمكن قراءته كسيرة ذاتية– صدرت الترجمة العربية عن منشورات الجمل، بترجمة جميل غنايم.. في الكتاب وصف عوز العرب بـ“الذئاب السبعين“، وذكر في أكثر من موضع مخاوف المهاجرين الذين كان النوم يجافيهم إذ لا يضمنون أن يقوم “العرب القتلة فيذبحونهم وهم نيام“! وإشارات كثيرة من هذا النوع، تتقاطع مع ما رواه عن نفسه، وما رواه الآخرون، من أن اليهود دائمًا ما اتهموه بالإرهاب ومحاباة الفلسطينيين، ولقبوه بالإرهابي، وكتبوا هذه الكلمة على جدران بيته، لكنه كان يرى أن هذا قدره، مثلما هو قدر المناضلين السابقين لزمنهم! بالإضافة لعضويته في جماعة السلام الآن، وممارسة بعض الأفعال الرمزية، كمشاركة النسوة الفلسطينيات قطاف الزيتون في 2002 مثالاً، إلى آخر كل الأفعال الودودة ظاهريًّا غير المجدية في تغيير واقع الحال.. ومن واقع كتاباته، يمكننا أن نرى أنه كان في البداية من المؤمنين تمامًا بالحلم الصهيوني، لكن بعد 1967 حدثت بعض التغيرات في رؤيته، نحت به نحو الدعوة للسلام وفتحت لديه تساؤلات بشأن الأحقية المطلقة لليهود في أرض فلسطين..
في هذا الحوار الذي أجرته معه باريس ريفيو في 1996، أجاب عاموس عوز عن الكثير من الأسئلة لكنه لم يذكر كل شيء، بل إن إجاباته فتحت أبوابًا لأسئلة أخرى، تخص علاقته بأمه وأبيه، وبالحياة في الكيبوتس، وباللغة..
كانت أمه تعاني من الاكتئاب، ومن الكثير من المخاوف، فكانت تخاف الظلام وتقضي الليل على كرسي خوفًا من سريرها، وتفاقم مرضها الذي لم يستطع الأطباء تسميته وقتها، حتى انتحرت وهو في الثانية عشرة من عمرة.. كانت أمه تقول له “سوف تكبر كجرو ثرثار مثل أبيك، لكنك ستكون رجلاً هادئًا ومنغلقًا كبئر مهجورة مثلي“، لكنه لم يكبر كبئر مهجورة، كان حسبما يرى نفسه “مجنونًا يعيش على الذكريات” ككل الروائيين، وقد اضطربت علاقته بأبيه بعد موت أمه، فتركه بعد ثلاث سنوات ليعيش في الكيبوتس، وظل هناك لخمسة وعشرين سنة، وهو يرى فرقًا ضخمًا بين سكان الكيبوتس وسكان المستوطنات، فالفرق بين سكان الكيبوتس وسكان المستوطنات– كما قال في حوار مع دويتش فيلله “كالفرق بين الليل والنهار. فسكان الكيبوتس استقروا عن قصد في البرية المقفرة، حيث لا يوجد أي سكان آخرون، على عكس ما يقوم به المستوطنون. فهم يهدفون إلى سلب أراضي الفلسطينيين“؛ لكن الحياة في الكيبوتس ظلت تطارده في رواياته وأحلامه حتى النهاية..
تحدث عوز كثيرًا عن علاقته باللغة– العبرية طبعًا– التي قال إنه ينتمي إليها أكثر مما ينتمي لإسرائيل نفسها، مع أنه اعترف، وهو اليساري صاحب الدعوة إلى حل الدولتين، وصاحب الزعم بالرغبة الحارة في السلام، أنه “يحب إسرائيل حتى في الأوقات التي لا يحبها فيها“، لكن اللغة هي الشيء الذي تكلم عنه باستفاضة في هذا الحوار، وهو ما يجعلنا نتساءل: إلى أي مدى يكون الإسرائيلي إسرائيليًّا.. إلى أي مدى كان عاموس عوز إسرائيليًّا؟
يتحدث عاموس عوز الإنجليزية بلكنة خفيفة؛ يتكلم بجمل قصيرة، ومكتملة، يستخدم فيها علامات الترقيم كما لو كان يكتب. ولد عاموس كلاوسنر 1939 لعائلة من الباحثين هاجروا من روسيا في أوائل العشرينيات واستقروا في القدس. في الخامسة عشرة غادر المنزل إلى كيبوتس/مستعمرة هولد؛ وظل يعيش حتى قبل بضع سنوات؛ حينما جعل مرض ابنه الأصغر بالربو الانتقال إلى عراد ضروريًّا؛ حيث يحسن الجو الصحراوي الجاف صحته. تأسست عراد في 1962 على أنقاض قرية تل عراد الفلسطينية.. يسكنها اليوم خليط من المهاجرين اليهود الأشكناز والأفارقة، بالإضافة إلى السكان العرب الأصليين الذين ظلوا هناك بعد حرب 1948. وهي مكان جاذب للمصابين بالربو..
درس عوز الفلسفة في الجماعة العبرية، فيما بعد حارب كجندي احتياط في حرب الأيام الستة يونيو 1967 في سيناء والجولان، وبعدها في حرب أكتوبر 1973. وإلى جانب عشرات الروايات والقصص القصيرة؛ نشر ثلاثة كتب تضم مقالات، عني غالبها بالصراع العربي الإسرائيلي. وهو أحد أوائل نشطاء حركة السلام الآن، الداعية إلى حل الدولتين؛ القائم على التعاون والقبول المتبادل، وتقسيم الأرض. وقد عرف باسم عوز– الذي يعني القوة– بعد أن نشر أعماله الأدبية الأولى.
في الكيبوتس التقى زوجته نيللي، وذلك حين كانا في الخامسة عشرة. لديهما ابنتان متزوجتان، وابن مراهق يعيش معهما “طفل شيخوختنا“. تدير نيللي مستوطنة الفنانين الدولية في عراد، وهي مؤسسة تستضيف فنانين من كل أنحاء العالم ليقيموا ويعملوا لمد ثمان أشهر.
عاموس عوز أستاذ الأدب العبري بجامعة بن جوريون في النقب. عمل أستاذًا زائرًا في جامعات ببريطانيا والولايات المتحدة. ودائمًا ما يتلقى دعوات لإلقاء محاضرات؛ حيث سافر العام الماضي إلى عدة دول أوروبية منها إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وبولندا وألمانيا وغيرها..
يرى ناشره في لندن أنه يشبه ميل جبسون! لعوز عينان فيروزيتان، وشعر قصير، وابتسامة لطيفة. أجريت هذه المقابلة في ديسمبر 1994. وقد جعلت روحه المجاملة وذكاؤه ومعرفته الوقت الذي أمضيته عنده لطيفًا.
المُحاورة: جدول سفرياتك حافل، ومع ذلك فأنت تصدر كتبك بشكل منتظم، كيف تقسم وقتك؟
عوز: القاعدة الأولى؛ لا أسافر مطلقًا ما دمت حاملاً بكتاب. لا أميل نهائيًّا للسفر بينما أكتب، حتى داخل البلاد، أحدد لنفسي سفرات لا تتعدى الثلاث أو الأربع؛ هذا هو الروتين الذي أتبعه، وطبعًا لا ينجح الأمر في كل مرة؛ وكذلك في يومي العادي، أستيقظ في السادسة وأتمشى لخمسة وأربعين دقيقة في الصحراء، صيفًا وشتاءً.
المُحاورة: هل سبق وأن تساقطت الثلوج في الصحراء؟
عوز: نعم.. يحدث ذلك كل عامين أو ثلاثة، ساعتها ينبغي أن تري انطباعات الجِمال التي تعبر الصحراء! عندها أفهم المعنى الحقيقي لكلمة الحيرة، لكن حتى لو لم تتساقط الثلوج فالجو بارد شتاءً، ويكون المكان متوحشًا في الفجر، ويبدو الأمر كما لو أن الرياح العاصفة ستطيح بالمدينة بأكملها في الصحراء. المشي وحيدًا يعدل الأمور.. إن قرأت في صحف الصباح أن بعض السياسيين قالوا عن شيء إنه لن يحدث أعرف أن هذا سيستمر إلى الأبد. إن هذه الحجارة في الصحراء تضحك منذ آلاف السنين، لكن كم يستمر السياسي.. شهرًا؟ اثنين؟ ستة؟ شيء غير مهم بالمرة. أشرب قهوتي وأنزل إلى هذه الغرفة، وأنتظر. لا أقرأ ولا أستمع للموسيقى ولا أرد على التليفون. ثم اكتب؛ أحيانًا جملة، أحيانًا فقرة، ولو كان اليوم جيدًا أكتب نصف الصفحة. لكنني أقضي هنا على الأقل سبع أو ثمان ساعات يوميًّا.
لقد اعتدت الشعور بالذنب تجاه الصباحات التي لا أنتج فيها شيئًا؛ خصوصًا عندما كنت أعيش في الكيبوتس، حيث كان الجميع يعملون إما في حرث الأرض أو حلب الأبقار أو في زراعة الأشجار.. حاليًا أفكر في عملي كما لو كنت صاحب محل؛ أفتح محلي في الصباح وأجلس انتظارًا للزبائن، فإذا حصلت على بعضهم خير وبركة، وإن لم أحصل فأنا أقوم بعملي على أي حال! لذلك تمسكت بروتين صاحب المحل هذا ولم أعد أشعر بالذنب.. أما المهام اليومية، كالرد على الرسائل والفاكسات والتليفونات أقوم بها في ساعة قبل الغداء أو العشاء. ربما يمكن للشعراء وكتَّاب القصة القصيرة العمل وفقًا لنمط مختلف. لكن كتابة الروايات عمل منضبط للغاية. كتابة قصيدة مثل علاقة لليلة واحدة؛ القصة القصيرة علاقة رومنسية؛ أما الرواية فهي علاقة زواج – على المرء أن يكون ماكرًا، وأن يقدم حلولاً وسطى وتضحيات.
المُحاورة: ماذا عن المساء، لا تبدو عراد مكانًا يصلح لحياة ليلية مثيرة، إنها تشجع على الخلود إلى النوم، حتى في هذه الظهيرة المشمسة؟
عوز: لا تصدقي ذلك! إنه مكان صغير مثير: ثلاثة مطاعم وثلاثة بنوك، ومركز تسوق جديد تمامًا، وصالون حلاقة، ومكتبة. في السنوات الأخيرة تدفق الكثير من اليهود الروس المؤهلين في السنوات الأخيرة. ونحن نقول إنه إن وصل روسي لا يحمل كمانجا؛ فهذا فقط لأنه/ها عازف بيانو. لذلك لدينا حفلات جيدة هنا. أحيانًا آتي إلى هنا بعد العشاء وأقرأ ما كتبته خلال النهار. فأمسحه بلا رحمة. لأبدأ مجددًا في صباح اليوم التالي. وأحيانا أذهب وأجلس وحدي في البرلمان المحلي: زوجين من المقاعد في المقهى؛ حيث يتجادل الناس حول معنى الحياة، أو أهمية التاريخ، أو النوايا الحقيقية لله.. هذه هوايتي المفضلة.
المُحاورة: ماذا عن علاقتك بالصحافة؟
عوز: أكتب المقالات لا لأنه يطلب مني ذلك، ولكن لأنني أشعر بالغضب؛ أشعر بأنني يجب أن أُخبر حكومتي بما يجب أن تفعله وأحيانًا إلى أين تذهب. لكنهم لا يستمعون. فأسقط كل شيء وأكتب مقالًا ينشر هنا أولاً، ثم تلتقطه نيويورك تايمز أو الجارديان البريطانية أو غيرها. أنا لست محللاً أو معلقًا سياسيًّا. أكتب انطلاقًا من إحساسي بالظلم، وثورتي عليه. ولكن لا يمكنني كتابة مقال إلا عندما أتفق مع نفسي مئة بالمئة، وهذه ليست حالتي العادية – وعادةً ما أكون في حالة عدم اتفاق جزئي مع نفسي، ويمكنني أن أشعر بثلاث أو خمس وجهات نظر مختلفة ومشاعر مختلفة بشأن القضية نفسها. عند كتابة قصة، حيث يمكن لشخصيات مختلفة التعبير عن وجهات نظر مختلفة بشأن الموضوع نفسه. ولم أكتب قط قصة أو رواية لجعل الناس يغيرون رأيهم بشأن أي شيء.. لم أفعل ذلك قط.. عندما أحتاج إلى القيام بذلك، أكتب مقالاً أو مقالة؛ حتى أنني أستخدم قلمين مختلفتين، في إيماءة رمزية: أحدهما لكتابة القصص، والأخرى لإخبار الحكومة بما يجب أن تفعله بنفسها. كلاهما، بالمناسبة، أقلام حبر جاف عادية جدًا، أغيرها كل ثلاثة أسابيع أو نحو ذلك. على عكس القصص؛ أكتب المقال دفعة واحدة، على مدى ست أو سبع ساعات متصلة. يشبه الأمر مشاجرة مع زوجتي؛ نصيح ونصرخ ثم نتصالح؛ كما لو كنا نعيش داخل أحد أفلام فيلليني، لا داخل أحد أفلام إنجمار برجمان، حين يصبح أي شيء أفضل من الصمت والعبوس وإشعار كل طرف الآخر بالذنب. في السياسة أيضًا أتصرف وفقًا لهذا المبدأ.
المُحاورة: كيف تكتب، واقفًا أمام منضدة قراءة مثل هيمنجواي، أم جالسًا، وهل تكتب بخط اليد أم على برنامج كتابة؟
عوز: أكتب بخط اليد، وهذا الجهاز على مكتبي “معالج الكلمات” للطباعة لا للتأليف. لسنوات استعملت الآلة الكاتبة المحمولة؛ كنت أكتب عليها المسوَّدات النهائية، لكي يتمكن الآخرون من قراءتها. الآن أفعل الشيء نفسه مع معالج الكلمات، ولا أقوم بأي تعديلات عليه، لكني أعيد الكتابة بخط اليد، وبعد العديد من المسودات أطبعها أخيرًا. معالج الكلمات بالنسبة لي ليس أكثر من آلة كاتبة، تعفيني من استخدام التايبكس أو المحو أو تصويب الأخطاء. أتمشي في الغرفة، ثم أجلس أمام المنضدة لتدوين جملة، وأتمشى مجددًا، وهكذا ما بين المكتب والمنضدة.
المُحاورة: اخترت أن تكتب بالعبرية، أولاً لأنها لغتك القومية، وثانيًا لأنها مربطة بهويتك..
عوز: لا. لم أختر العبرية، لقد ولدت بها، فأنا أحلم وأضحك وأشتم بالعبرية، وكما قلت دائمًا أنا شوفيني فقط فيما يخص اللغة، وحتى لو ابتعدت عن هذه البلاد فلن أبتعد عن هذه اللغة، فأنا أشعر تجاهها بما لا أشعر به تجاه هذه البلاد.
المُحاورة: السبب الآخر أن العبرية لغة مقدسة، فهي لغة الوحي، اللغة التي يتكلم بها الله، مثل العربية والسنسكريتية، إنها مسؤولية وتحدٍ أن تكتب بها. كما يقال إن العبرية الحديثة عمرها فقط مئات الأعوام، وأن الشعراء هم الذين اخترعوها؛ مثل بياليك – حاييم نخمان بياليك (1873-1934) الشاعر القومي في العبرية الحديثة له أشعار بالعبرية واليديشية، وغيره من الكتاب الأوائل.. هل كتبت بالإنجليزية من قبل؟
عوز: لا. لم أفعل، فالعبرية هي اللغة التي أفكر بها، وأحسب بها، وأمارس الجنس، إنها جزء من كينونتي، لكنك محقة، لقد كانت لغة ميتة لا يتحدث بها أحد كاليونانية القديمة أو اللاتينية. صحيح أنه كان لديها أدب قديم، وأدب في العصور الوسطى، ولكنها لم تكن لغة الحوار اليومي. كانت تستخدم في الطقوس الدينية، والتبادل العلمي بين اليهود من مختلف البلدان. كما كان لديها شعرًا رفيعًا. في العصور الوسطى كان اليهود في إسبانيا المسلمة يحبون العبرية ولكنهم لم يتحدثوا بها في الحياة اليومية.
لذا فقد أعيد إحياء العبرية منذ مئات السنين، لكن ليس انعكاسًا لقرار أيديولوجي، لا يمكن إصداره، فلا يمكنك إقناع الكنديين فجأة وبقرار بالتحدث بالكورية أو اليابانية. لقد تم إحياء العبرية هنا لأنها كانت اللغة المشتركة بين اليهود الذين جاءوا من كل أنحاء العالم. اليهود الشرقيون كانوا يتحدثون العربية والفارسية والتركية واللادينو (لغة كان يتحدث بها يهود إسبانيا)، بينما كان اليهود العربيون يتحدثون باليديشية والروسية، والبولندية؛ ومن ثم كانت اللغة الوحيدة الذين يستطيعون التواصل من خلالها– للسؤال عن مكان في الشارع، أو تأجير شقة، فقد كانت لغة الكتاب المقدس العبري.
بالنسبة لي حدث إحياء للغة العبرية عندما قال أول صبي لأول فتاة “أنا أحبك” باللغة العبرية. أم كانت الفتاة التي قالت للصبي؟ هذا لم يحدث على مدى سبعة عشر قرنًا. آمل أن يكون الفتى والفتاة أكملا طريقهما معًا، وأنهما عاشا بسعادة بعد ذلك، وهما يستحقان ذلك لإحيائهما للغة. ومع ذلك، لم يكن من الممكن أن يحدث هذا إذا لم يكن هناك بالفعل قدرًا لا بأس به من الأدب العبري، وهو أدب يحتوي– ويا للغرابة– على حساسية حديثة. أشخاص مثل بياليك، وبرينر، وبيرديتشيفسكي، ومندلي، قد لا يعنون لكِ أو لقرائك شيئًا لكنني أقف على أكتافهم.
من ناحية أخرى، فالعبرية مثل البركان، مثل الإليزابيثية الإنجليزية؛ لا أقصد أن شعرائنا جميعهم شكسبير، بل إن اللغة تنفجر مثل البركان. هذا ما يحدث طول الوقت. لذا فالكتابة بالعبرية تمثل تحديًا رائعًا.
لقد قلتِ إنها لغة الوحي، وأنتِ محقة. فكري في عزف مقطوعة من موسيقى الحجرة داخل الكاتدرائية – ينبغي أن تكوني حذرة للغاية مع الصوتيات، وإلا قد تنتجي الكثير من الأصداء غير المرغوبة. عليَّ أن أستخدم كلمات لها دلالات نبوية وباطنية لوصف خلاف بسيط على المصروف بين طفل وأبويه. لا أريد استخدام إشعياء والمزامير وجبل سيناء. لذا دائما كان علىَّ القفز وكأنني في حقل ألغام. إذا كنت تريد في بعض الأحيان أن تخلف انفجارًا، فمن السهل القيام به – عن طريق إدخال كلمة ثقيلة في وسط جملة غير منتظمة. لدي شعور بأنني أعمل على آلة موسيقية رائعة.
المُحاورة: هل تعتقد أن كان من المهم إنشاء الجامعة في بداية دولة إسرائيل للمساعدة على تحديث اللغة وجعلها مناسبة للتعبير عما تسميه “الحساسيات الحديثة“، أم أن اللغة تطورت بطبيعة الحال مع الوقت؟
عوز: كان ترسيخ اللغة العبرية مهمًا. في البداية تكونت لجنة؛ أصبحت فيما بعد أكاديمية اللغة العبرية التي أفخر بعضويتها. فهي تتعامل مع الحاجة إلى إنشاء مصطلحات حديثة. لكن بالطبع لا يمكن التحكم في اللغة، التي هي كما قلتُ مثل فوهة بركان، ولها حياة عضوية خاصة بها.
المُحاورة: هناك العديد من الكتاب العبريين المعاصرين المشهورين؛ مثل يوسف عجنون الحاصل على نوبل– شموئيل يوسف عجنون 1888-1970 إسرائيلي من أصول أوكرانية، حصل على جائزة نوبل في الآداب مناصفة مع السويدية نيلي زاكس 1966، وأ. ب. يهوشوا، وديفيد جروسمان، وآخرين. يبدو أن الكُتَّاب يؤخذون على محمل الجد في هذا البلد. في الغرب تلعب الاعتبارات التجارية دورا مهمًا. ومن ثم يبدو أن جملة شيلي أن “الشعراء هم المشرعون غير المعترف بهم في العالم” تنطبق هنا أكثر مما تنطبق عندنا؛ هل هذا هو الحال فعلاً؟
عوز: لدينا تقاليد مختلفة إلى حد ما. ففي الغرب، على الأقل في البلدان الناطقة بالإنجليزية، عادة ما يُنظر إلى الكتاب والشعراء الكبار في المقام الأول على أنهم فنانين. يمكن أن يوصفوا بأنهم جيدين، راقين، عميقين؛ ولكنهم يظلوا فنانين. حتى شكسبير الذي يعتبر رائعًا، وربما الأعظم على الإطلاق، في النهاية فنان. على النقيض من ذلك؛ في التقاليد اليهودية–السلافية، يعتبر الكُتَّاب أنبياء. وهذا عبء فظيع؛ فعلى عكس الأنبياء، لا يأتيني الوحي، ولا أعتقد أني جاهز أكثر لأكون نبيًّا –أن أتوقع المستقبل، أو أكون ضمير الشعب– أكثر من كاتب أمريكي أو بريطاني. ومع ذلك توجد توقعات كبيرة هنا بشأن ذلك، وكذلك في روسيا أو بولندا.
ربما يمكننا البدء في دراسة كلمة الخيال/fiction، التي لا توجد في العبرية. وقد اخترعت الأكاديمية كلمة “bidayon” لترجمة هذه الكلمة عن الإنجليزية، ولكن في المكتبات لن تجد لي أعمالاً ولا لأي روائي آخر تحت ذلك العنوان. ربما تجد أعمالاً بعنوان siporet، وهو ما يعني السرد النثري. هذا أكثر ملائمة؛ إذ للخيال هالة من الكذب، على عكس الحقيقة. ومن وجهة نظري هذا هراء: لماذا يجب على جيمس جويس، الذي قاسى عناءً حرفيًّا لقياس عدد الخطوات بين الحانة وصندوق البريد في زاوية الشارع، أو تولستوي الذي درس تفاصيل أدق تفاصيل معركة بورودينو، أن يعتبرا كُتَّابا روائيين/ خياليين، في حين يعتبر الصحفي الأكثر اعتيادا لاستخدام مثل هذه الكليشيهات “مرجل غليان للشرق الأوسط” كاتبًا غير روائي؟ ليس للروائي أي هدف سياسي لكنه يهتم بالحقيقة لا بالحقائق. وكما أقول في أحد مقالاتي، فإن عدو الحقيقة الأسوأ في بعض الأحيان هو الحقيقة. أنا كاتب سرد نثري siporet، لكنني لست نبيًّا أو مرشدًا، ولا أنا مخترع “للخيال“.
المُحاورة: ومع ذلك فإن كتبك متجذرة في واقع إسرائيل اليوم، وتخبر الحكومة بما هو خطأ وما هو صواب..
عوز: لأن حياتنا غارقة في التاريخ. التاريخ هنا ليس موضوعًا على شاشات التليفزيون، أو في الخارج، أو في الكونجرس، أو مجلس العموم، إنه في كل مكان، ويخترق أنسجة الحياة الأكثر حميمية. سأعطيك مثالاً: خلال حرب الخليج الأخيرة تسلمنا أقنعة الغاز ضد القنابل الكيماوية. كان لابني المصاب بالربو الذي يتنفس بصعوبة أن يرتدي واحدة. كنا نجلس، ونغلق غرفة النوم بإحكام، ونرتدي هذه الأقنعة المروعة فنبدو كالوحوش، حتى مجالنا الحميمي الخاص جدًا تم غزوه بتهديد من على بُعد ألفي ميل. لذا فكما ترى، لا يمكننا الابتعاد عن الحقائق. إنهم يستخدمون لحظات في تاريخ البلاد لقياس الوقت: تزوجت قبل حرب الأيام الستة، كما يقولون. أو ولدت ابنتي في اليوم الذي أتى فيه السادات إلى إسرائيل.
المُحاورة: بأي لغة تتحدثون في البيت، هل تتحدثان كأبوين بالعبرية أم الروسية؟
عوز: والدي أصلاً من أوديسيا، ثم هاجر إلى فيلينوس في ليتوانيا، التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من بولندا؛ أما والدتي فمن أوكرانيا. كانت لغتهما هي الروسية أو البولندية، والتقيا في القدس، وكطالب في الجامعة العبرية؛ كان والدي يعرف ستة عشر لغة ويتحدث عشرة منها، وكانت والدتي تعرف سبعة أو ثمان لغات أيضًا. كانا يتحدثان بالروسية عندما لا يريدان أن أفهمهما، وإلا استخدما العبرية فقط. كانا يخشيان أنه إذا تعلمت أي لغة أوروبية، فقد يغريني ذلك بالعودة إلى أوروبا، التي اعتبروها مميتة بالنسبة لليهود. هم أنفسهم لديهم علاقة حب وكراهية معها، كما هو الأمر في علاقات الحب دون مقابل: أحبا أوروبا، لكن أوروبا طردتهما. لقد رحلا في الوقت المناسب، وإلا فلم أكن الآن جالسًا هنا أتحدث إليك.
المُحاورة: جاء والداك من تلك المنطقة التي اعتادت على التقلب بين بولندا وروسيا؛ حيث كانت معاداة السامية أكثر ضراوة من أي مكان آخر في أوروبا. لكن أليست معاداة السامية جزءًا من نسيج الحضارة الأوروبية؟
عوز: لقد قلت إن صورة اليهودي هي جزء من الخيال الأوروبي والمسيحي بكل معنى الكلمة؛ هناك اليهودي الرائع، المحبوب الذي يكاد يكون خارقًا للطبيعة، الذي يعاني كثيرًا ويتفوق. وهناك اليهودي الفاسد الشيطاني الذي يدمر كل شيء بطرق ملتوية. القاسم المشترك بين هذين النوعين من اليهود – الجيد والسيئ – أنه لا يُنظر إلى أي منهما على أنه فرد، بل يظل كلاهما إلى الأبد ممثلين لعِرقهم.
المُحاورة: هل تعتقد أن قيام إسرائيل قد غيَّر تلك الصورة؟ ألاحظ هنا أن الناس، لا سيما الشباب الإسرائيليين، ليسوا على الإطلاق مثل اليهود الأوروبيين الذين يبدون وعيًا بأنفسهم؛ الناس هنا مثل أي شخص آخر في العالم.
عوز: لا أدري، لا أعرف. كان ذلك بالتأكيد أحد أغراضها. لقد حان الوقت لفصل العلاقة بين اليهود وأوروبا المسيحية وخلق علاقة مختلفة أكثر توازنًا؛ علاقة جوار، كأن تدعو أحد لشرب فنجان قهوة، لا علاقة دائمة بين الضيف والمضيف، وهذا أمر سيء لكل من الضيف والمضيف. حتى عندما يصبح الضيف عضوًا بارزًا في الأسرة، يتزوج من الابن أو ابنة المضيف. وحتى عندما أصبح اليهودي أكثر طلاقة في اللغة والتقاليد والثقافة في البلاد من “السكان الأصليين“.
المُحاورة: أعمالك متجذرة في إسرائيل، من القصص الأولى والرواية التي صورت حياة الكيبوتس، إلى آخر ما صدر بالإنجليزية. ولهذا السبب تثير الجدل؛ بمعنى أن البطل الرئيسي في كتبك هو أرض إسرائيل. وموقفك هو أن الوطن لا يمكن أن يكون ممنوعًا على الفلسطينيين بعد الآن، كما لا يمكن أن يكون ممنوعًا على اليهود. فما الحل؟
عوز: لا يزال العرب ينفقون ما بين عشرين وخمسة وعشرين مليار دولار على التسلح كل عام. لماذا؟ النقطة أن الفلسطينيين موجودون هنا، ولن يرحلوا. والإسرائيليون هنا، ولن يرحلوا أيضًا. شعبان يدعيان ملكية قطعة الأرض نفسها، المنزل نفسه. ولا يمكنهما مشاركتها، لذلك يجب عليهما تقسيمها. أعتقد أنه من المُلح أن يقوم الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بإجراء انتخابات حرة تحت إشراف دولي، ويجب أن يمثل كل من ينتخبهم ويدير حكومتهم. ستكون هذه هي المرة الأولى التي يكون لديهم فيها حكومة تمثيلية شرعية.
المُحاورة: ماذا لو جلبت الانتخابات الحرة المتطرفين إلى السلطة؟
عوز: حتى حماس قد تصبح جزءًا من الآلية السياسية الديموقراطية وتتصرف بمسؤولية، أو قد نعود إلى المربع الأول، ولدينا معرفة واضحة بعدم وجود فرصة للقيام بأعمال تجارية معهم. إذا حدث ذلك، فسنضطر إلى المضي قدمًا في تقسيم أحادي الجانب، قائلين: ألا تريدون التفاوض معنا؟ جيد جدًا، سنقسم: أنت تأخذ هذه غرفة النوم، ونحن نأخذ الأخرى، تأخذ هذا الحمام ونأخذ الآخر.. وهكذا.. مثل تقسيم شقة، وتحويلها إلى منزل شبه منفصل.
المُحاورة: الآن هناك مسألة حقوق الإنسان؛ اليسار يتهمك بعدم اتخاذ موقف قوي بشأن هذا وإدانة معاملة الفلسطينيين من قبل القوات الإسرائيلية المحتلة.
عوز: إنها مسألة تشخيص. الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس قضية حقوق مدنية، بل نزاع دولي. فلم نقم بالسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة من أجل حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية (لم يكن لديهم الكثير من حقوقهم الإنسانية)، ولا من أجل منحهم حقوقهم الإنسانية. لقد غزونا الضفة الغربية وقطاع غزة لأن إسرائيل تعرضت لهجوم في عام 1967، وهُددنا بالاندثار. حالما يتم الحفاظ على أمننا، يجب أن نبتعد عن المناطق الفلسطينية ونتركها. حقوق الإنسان الفلسطيني مشكلة فلسطينية.
المُحاورة: لكن معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين في أثناء الانتفاضة هي ما يشغل ذهن المهتمين بحقوق الإنسان في إسرائيل.
عوز: من الوهم الاعتقاد بأنه يمكن أن يكون هناك احتلال عسكري وردي. إنها مثل الاغتصاب الودود – هذا تناقض في المصطلحات. لقد استثمرت كل طاقتي في إيجاد طرق لإنهاء الاحتلال، لا لتحسينه، لأنني لا أعتقد أنه لو كان الاحتلال أفضل حالاً، فإن ذلك سيحل أي شيء. لا نحتاج إلى تحسين الطريقة التي نحكم بها؛ نحن بحاجة إلى التوقف عن حكمهم أصلًا. لذلك كان موقفي من بعض النواحي أكثر راديكالية من موقف حقوق الإنسان. فطالما اعتبروا هذه القضية صراعًا بين مجتمعين، أو طبقتين اجتماعيتين، بينما كنت أعتبره دائمًا نزاعًا دوليًّا بين دولتين مختلفتين. لذلك لم أهدر أي وقت في محاولة تقديم مفاهيم أمريكية يسارية معينة، مثل اعتبار الفلسطينيين أميركيين سود، أو اقتراح أن كل ما نحتاج إليه هو نظام من الحافلات الصفراء والاندماج. لا أضيع الوقت في هذه الأمور غير المناسبة.
المُحاورة: تقصد مثلما يفعل نعوم تشومسكي ومثقفين يساريين آخرين؟
عوز: لطالما كان تشومسكي دوجمائيًّا بشأن الصراع في الشرق الأوسط. قبل بضع سنوات في ألمانيا التقيت بعض المثقفين اليساريين الذين كانوا مؤيدين لصدام حسين بحماس. وتساءلت لماذا؟ قالوا لأنه يمثل دولة فقيرة من العالم الثالث تقف في وجه الهيمنة الأمريكية. شرحت لهم أن صدام يمثل بلدًا أكثر ثراءً من السويد. فسألوا: كيف ذلك؟ قلت إن من حيث دخل الفرد فالعراق أكثر ثراءً من السويد. قالوا لكننا نرى العراقيين يعيشون في أكواخ، وفي فقر مدقع. قلت إنه إذا قررت السويد أن تمتلك ثالث أكبر جيش في العالم فإن السويديين أيضًا سيعيشون في أكواخ. وقلت لهم إنهم في الحقيقة يحبون صدام لأنه صديق للقذافي الذي هو صديق لفيديل كاسترو الذي كان في يوم من الأيام متزوجًا من تشي جيفارا، وكان تشي هو يسوع المسيح، ويسوع هو الحب، لذلك علينا أن نحب صدام.
المُحاورة: ومع ذلك، فالفكرة أنه إذا جلس الأشخاص العاقلون من الجانبين معًا، فسيتمكنون من إيجاد حل. هل قابلت حنان عشراوي مثالاً؟ إنها تبدو شخصًا ذكيًّا وعاقلاً جدًا.
عوز: لقد التقيت بمئات الفلسطينيين، ليست بالضرورة لقاءات قائمة انسجام القلوب، ولكن على أساس براجماتي. إنه اعتقاد خاطئ آخر للغرب؛ فهم يفترضون أن الإسرائيليين والفلسطينيين بحاجة إلى التعرف على بعضهم بعضًا بشكل أفضل. أحصل على دعوات من مؤسسات حسنة النوايا في أمريكا للذهاب لقضاء عطلة نهاية أسبوع رائعة مع عدد من الفلسطينيين لكي نتعرف عليهم ونحب بعضنا، ومن المتوقع أن يزول النزاع! مثل مجموعات العلاج الجماعي أو استشارات الزواج! كما لو كان الصراع العربي الإسرائيلي مجرد سوء فهم. خذ عندك: لا يوجد سوء فهم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كلانا يريد قطعة الأرض نفسها، لأننا نعتبرها ملكنا. هذا ينص على فهم تام، والصراع المرير. كما قلت؛ إنها العدالة ضد العدالة – مأساة مثالية. ويجب حلها من خلال حل وسط مؤلم، وليس من خلال تناول القهوة معًا. لا تستطيع أنهار القهوة أن تطفئ مأساة شعبين فيما يتعلق بالبلد الصغير نفسه الذي يعتبره الطرفان وطنهما الوحيد. نحن بحاجة لتقسيمه. نحن بحاجة إلى التوصل إلى حل وسط مقبول من الطرفين.
المُحاورة: ماذا كنت تقرأ عندما كنت طفلاً ومراهقًا؟
عوز: بعض هؤلاء الكتاب العبريين الذين ذكرتهم سابقًا، كانوا قبل مئة عام كانوا مترجمين ملتزمين أيضًا، يترجمون الكُتَّاب الروس العظماء في القرن التاسع عشر الذين كانوا مصدر إلهام للكثير منهم، وكذلك المؤلفين الألمان والفرنسيين والإنجليز والاسكندنافيين. كنت أقرأ بنهم؛ إذ لم يكن هناك شيء آخر للقيام به.
المُحاورة: من المؤلفون الذين أثَّروا فيك أو استفزوك خلال مسيرتك؟
عوز: عندما كنت في التاسعة أو العاشرة، قرأت كتبًا صهيونية عن أمجاد الممالك القديمة في إسرائيل. وقررت أن أصبح إرهابيًّا ضد الانتداب البريطاني. فقمت ببناء صاروخ عابر للقارات من حطام ثلاجة وبقايا دراجة نارية. كانت خطتي أن يستهدف هذا الصاروخ قصر باكنجهام، وإرسال رسالة إلى ملك إنجلترا أقول فيها: إما أن تخرج من بلدي أو تموت! كنت طفل انتفاضة ضد البريطانيين – رميت الحجارة على الجنود البريطانيين وصرخت، وعدت إلى البيت. لذا فإن قراءاتي الأولى كانت قومية، بروح العالم الثالث؛ الحرب من جل الحرية، قرأت كتبًا مثل الكتاب الإيطالي Risorgiment، و De Amicis’s Heart، وهي كتب عن الأطفال الصغار الذين ينقذون بلادهم ببعض الأعمال البطولية أو التضحيات الذاتية. في وقت لاحق اكتشفت الروس، وخصوصًا دوستويفسكي، وتولستوي، وقبل كل هؤلاء تشيخوف. شعرت بأن تشيخوف كان يجب أن يكون من جوارنا في القدس؛ لم يسبق لأحد أن التقط هؤلاء الإصلاحيين المشلولين الذين يستخدمون الكلمات الكبيرة كما يفعل.
المُحاورة: ماذا عن الكُتَّاب الأمريكيين؟ غالبًا ما تم تشبيه أعمالك بفوكنر، لأنه كان متجذرًا في الجنوب الأمريكي، في منطقته الخاصة، في مقاطعة يوكناباتوفا، ومع ذلك لديه جاذبية عالمية.
عوز: هناك ثلاثة كتَّاب أميركيين أصبحوا مهمين للغاية بالنسبة لي: ميلفيل، وشيروود أندرسون، وفوكنر، بهذا الترتيب. أنا معجب بكتاب أميركيين آخرين، لكن هؤلاء الثلاثة من سأختارهم في الأدب الأمريكي.
المُحاورة: متى قررت أن تصبح كاتبًا؟ بعد أن فجرت قصر باكنجهام؟
عوز: لم يكن هناك تناقض بين النشاطين: يمكنني أن أكون إرهابيًّا وأكتب. كان أبي يكتب منشورات غير شرعية ضد عدوان ألبيون، ناعتا البريطانيين بكل اسم في منشوراته، نقلاً عن شيللي وكيتس وبايرون لإثبات مدى نفاقهم وظلمهم. وفي الوقت نفسه كان محبًا للإنجليز كما توضح الحكاية التالية؛ في عام 1947 كان هناك حظر تجول، وتفتيش للمنازل. وطلبت منظمة يهودية سرية من أبي إخفاء زوج قنابل مولوتوف في منزلنا. كانت مهمة محفوفة بالمخاطر، إذ كان الإعدام هو عقوبة الأنشطة الإرهابية، وكانت شقتنا صغيرة وتغص بآلاف الكتب؛ المهم، أخفى والدي المتفجرات خلف بعض الكتب على الرف، وأخبرنا عنها كي لا نستخدمها بطريق الخطأ. وصل البريطانيون – ما أزال أعاني من ذكرى الحادث– وكانوا يرتدون سراويل كاكية قصيرة تصل إلى ركبهم، وجوارب كاكية تصل إلى ركبهم، أما المنطقة بين الجورب والسروال فكانت مكشوفة؛ بيضاء كالثلج على جبال الألب. كان الضابط مهذبًا للغاية، واعتذر بشدة عن التسبب بإزعاجنا، ثم بدأ البحث مع اثنين من الجنود؛ كنا مرعوبين. من الواضح أنهم اعتقدوا أن والدي كان مغرمًا جدًا بأن يكون إرهابيًّا، ففتشوه تفتيشا دقيقًا. وبينما كانوا يستعدون للذهاب أدلى الضابط بملاحظة مهذبة حول الكتب، وسأل عما إذا كان هناك أي كتب إنجليزية مثيرة للاهتمام. سأله والدي: ماذا تقصد يا سيدي؟ بالطبع لدينا كتب إنجليزية! وبدأ في سحب الكتب الإنجليزية الكلاسيكية واحدًا بعد آخر. تحفزت أنا وأمي، فقد يعرضنا هذا لأن تنفجر الكتب بينما كان يتباهى. لكننا نجونا لأنه أخفى المتفجرات وراء الكتب الروسية – مع الأناركيين وإرهابيي روسيا في القرن التاسع عشر – باكونين، ونيشاييف، وكروبوتكين، ودوستويفسكي.
المُحاورة: ماتت أمك عندما كنت في الثالثة عشرة، وغادرت المنزل إلى الكيبوتس في الخامسة عشرة. لماذا؟
عوز: لقد تمردت على أبي وأجواء الكتب في البيت. كنت أرغب في حياة مختلفة. ظننت أنني سأقوم بالثورة التي تحدث عنها والدي لكنه لم يفعل أي شيء لخلقها. لم أُعطَ صورة توضيحية عن المدرسة أو الجامعة – كنت أريد أن أكون سائقًا للجرارات؛ مثل تلك الموجودة في الأفلام السوفيتية؛ أعمل طول اليوم، وأشرب وأمارس الجنس بحرارة مع الفتيات طول الليل في الكيبوتس. حدث ذلك، إلى حد ما، لكن ما لم يحدث كان الابتعاد عن الكتب.
المُحاورة: متى بدأت الكتابة؟
عوز: كنت دائمًا أكتب، منذ أن تعلمت الأبجدية في سن الخامسة. اخترعت القليل من القصص، وكتبت في مرحلة المدرسة، وعندما كنت سائق جرار في الكيبوتس، وعندما كنت في الجيش. ثم جاءت نقطة التحول عندما أدركت أنني ولدت لأكتب، وقررت أن أكون كاتبًا. تم نشرت بعض القصائد والقصص القصيرة التي كنت قد كتبتها في أثناء عملي في حقول القطن، وقد استقبلت استقبالاً حسنًا. لذلك تقدمت بطلب للحصول على إعارة لمدة يوم واحد في الأسبوع من العمل في المزرعة للكتابة. وهو ما قد يمكن أي واحد أو وواحدة أن يدَّعي أنه فنان ويطلب إعفائه من الأعمال اليدوية. كان على اللجنة أن تقرر من هو فنان أصيل ومن ليس كذلك، قالوا إذا منحنا عوز إجازة ليوم واحد، فكيف نرفضها لأي واحد آخر؟ كان هناك رجل عجوز – في مثل عمري الآن– قال ربما يمتلك هذا الشاب موهبة، ربما له مستقبل تولستوي، لكنه صغير جدًا. دعوه يعمل في الحقول حتى يبلغ الأربعين، ساعتها سيكون لديه ما يكتب عنه. لحسن الحظ لم ينفذ اقتراحه، وقيل لي إنني أستطيع الحصول على يوم واحد في الأسبوع، بشرط أن أعمل بشكل مضاعف في أيام أخرى، وهو ما فعلته. لكنني كنت بالغ التركيز –أفكر فيما سأكتبه طول فترة عملي في الحقول. وفي أيام الكتابة أكتب اثنتي عشرة ساعة، وأحيانًا خمسة عشر ساعة في اليوم.
المُحاورة: وكانت النتيجة هي أولى المجموعات القصصية “حيث عوت الذئاب“. هل قررت كتابة قصص قصيرة قبل التعامل مع الرواية، كنوع من التدريب، كما يفعل الرياضيون؟
عوز: كنت بحاجة إلى تقدير سريع، كنت صغيرًا جدًا ولم يكن لدي الصبر والحكمة للعب مباريات طويلة. قررت أن أكتب قصصًا قصيرة، لأنها حرفة توصلك إلى هناك في وقت قصير، كان من الممكن أن أخلق القصة في رأسي، ثم أجلس وأكتبها في يوم واحد. بالمناسبة، لم يعد بإمكاني القيام بذلك. لدي وتيرة مختلفة.
المُحاورة: هل تعتقد أنك ستعود إلى هذا النوع؟
عوز: ربما. أفعل هذا من وقت لآخر حتى الآن، ولكن ليس بالطريقة نفسها، كنت أكتب تحت وطأة الإيقاع الجنسي للمراهقين، الذي كان قوة محركة هائلة، وتعطش شديد للتحقق الفوري. الآن أكتب المسودة الأولى، ثم أعيد كتابتها، ثم أعود إليها وأعمل على بعض النقاط فيها، أضيف كلمة هنا أو هناك، وأحذف الزيادات.
المُحاورة: بعد كتابك الأول التحقت بالجامعة، لماذا اخترت دراسة الفلسفة تحديدًا؟
عوز: أرسلتني الكيبوتس إلى الجامعة لأنها كانت بحاجة إلى مدرسين؛ قال لي والدي: أنت لم تقرأ قط إعلانًا في الصحف يطلب فيلسوفًا! فظننت أني سأدرس شيئًا لا يريده أحد.. لكنني كنت محظوظًا، لحقت بنهاية جيل عظيم من أساتذة الفلسفة في جامعة القدس، كانت روح مارتن بوبر لا تزال هناك، وكذلك جريشوم سكولر وبرجمان وغيرهم. كانت القدس معقلاً للفكر الأوروبي في ذاك الوقت القادم من ألمانيا وبراغ.. ولكوني قاصًا تعاملت مع الفلسفة بنوع من التبسيط، وعندما يتكلم المدرس في محاضرة الأخلاق عن اللقاء الأول بين دافيد وروث أجدني أسرح بخيالي وأتخيل لقاءهما.. لكني على كل استطعت الحصول على درجات تمكنني من إنهاء دراستي.
المُحاورة: ماذا كان المنهج؟ ماذا درست؟
عوز: درست أفلاطون وأرسطو والقديس أغسطس وتوما الإكويني، لكني تخصصت في سبينوزا.
المُحاورة: سبينوزا أحد أعظم المفكرين السياسيين، هل تعتقد أن السياسة ما جذبك إليه؟
عوز: ليس بالضبط.. لقد صنع سبينوزا قصور الثلج من المنطق الخالص الذي يبلور المشاعر، وقد فتنني ذلك وقتها. كان الأمر مثل الموسيقى، وكان سبينوزا الأقرب للموسيقى الكلاسيكية من أي فيلسوف آخر. كان يحفزني جدًا مثل باخ.
المُحاورة: في كتاب السلام الشامل قلت إن سبينوزا ليس ضد الأمل، بل على العكس يؤكد على “فكرة الحرية الإنسانية“، فنحن أحرار في قبول “القوانين الكامنة وراء الحتمية” وهذا موقف وجودي مثير للاهتمام.. كان لك محادثة طويلة مع بن جوريون الذي كان سبينوزا ملهمًا له أيضًا، هلا وضحت ذلك أكثر؟
عوز: ما قصدته أن هناك توازنًا تامًا عند سبينوزا بين الإدراك والعمل، وأن هذا الإدراك لا يؤدي إلى السلبية والقدرية – لا ينبغي أن تتجاهل عقلك من أجل فعل شيء. يعتقد معظم الفلاسفة أن عليك التخلي عن شيء من أجل شيء آخر: إما العقل أو العاطفة، إما هذا أو ذاك..
كنتُ جنديًّا شابًا وقرأت شيئًا كتبه بن جوريون عن سبينوزا، فكتبت له رسالة اعترضت فيها بشدة على تفسيره للفيلسوف. ولدهشتي استدعاني سكرتيره إلى مكتبه في اليوم التالي في الصباح المبكر. تخيل أنك استدعيت من قبل الملكة أو رئيس الولايات المتحدة. كان بن جوريون يتمتع بمكانة هائلة وجاذبية، على الرغم من أنه كان رجلاً ضئيل الحجم برأس ضخم، وبعد مناقشة حامية مزق حجتي إلى أشلاء، كان حادًا مثل شفرة الحلاقة.
المُحاورة: اعترف سبينوزا بألوهية المسيح، فحرم من قبل المؤسسة الدينية اليهودية، إذ كانت خطيئة الردة واحدة من أبشع الخطايا في اليهودية. لا أعتقد أن تحوله إلى المسيحية كان تكتيكيًّا – فقد آمن بها فعلاً. ما رأيك في ذلك؟ هل أغرتك المسيحية؟
عوز: سبينوزا لم يتحول إلى المسيحية. لقد طرده الزعماء الدينيون اليهود في أمستردام، لكنه لم يصبح مسيحيًّا قط. أما بالنسبة لي فإن يسوع يدهشني؛ فهو أحد أعظم اليهود على مر العصور، لكنني لم أقع تحت إغراء المسيحية. يسوع نفسه، لم يصلب نفسه، ولم يره أحد في حياته داخل كنيسة، وربما إن عاش فترة أطول لبقي على مسافة منها.
المُحاورة: بالعودة إلى كتاباتك الخاصة. غالبًا ما تكون الأعمال الفنية الأكثر رسوخًا هي الأكثر كونية. الروس العظماء هم مثال على ذلك: لا يمكن أن يكون دوستويفسكي، أو جوجول، أو تشيخوف، أي شيء سوى روسي، لكننا جميعًا نرى أنفسنا في شخصياتهم ومآزقهم. لكن في رواياتك يحصل المرء على الانطباع بأن البطل الحقيقي هو إسرائيل؛ الأرض، والشعب، والتاريخ. إحدى رواياتك المفضلة في الغرب، صديقي ميخائيل“My Mechael”، التي تحكي فيها قصة العلاقة بين حنا وهي امرأة إسرائيلية، ورجلين عربيين في أعقاب أزمة السويس، تقرأ تعبيرًا عن الصراع العربي الإسرائيلي. هل كتبتها بوعي لتجسيد هذه الفكرة؟
عوز: كما تعلم، إذا كنت تعيش وتكتب في جزء مضطرب من العالم، فسيتم تفسير كل شيء بطريقة مجازية. إذا كتبت قصة عن أم وأب وابنتهما، فقد يقول أحد النقاد إن الأب يمثل الحكومة، والأم القيم القديمة، والابنة الاقتصاد الممزق! إذا كُتبت موبي ديك في أمريكا الجنوبية اليوم تحت اسم فارجاس يوسا، فسيقول الناس إنها تدور حول الديكتاتورية. وإذا كتبتها نادين جورديمر في جنوب أفريقيا فستفسر على أنها عن الصراع بين السود والبيض. في روسيا سيكون المقصود بالحوت هو ستالين، وفي الشرق الأوسط ستكون الرواية عن الإسرائيليين الذين يطاردون الفلسطينيين أو العكس. هذا إذن هو الثمن الذي تدفعه للكتابة في مكان متأزم. لكني دائمًا أبدأ بمجموعة من الشخصيات. ثم أروي قصتهم. ولم أكتب قط عن أي رمز سياسي أو رواية أفكار.
المُحاورة: ومع ذلك قلت إن الصراع العربي الإسرائيلي مأساة، لأن كليهما على حق في مطالبته بالأرض “إنها عدالة ضد العدالة“.
عوز: نعم، قلت هذا في مقال. لكن رواياتي ليست عن العدالة. سأخبرك قصة من تراث الحاسيديم تعود للعصور الوسطى، عن حاخام كان عليه، بصفته قاضيًا، أن يحكم بين امرأتين تدعيان ملكيتهما لعنزة واحدة. فاستمع بعناية إلى صاحبتي الادعاء، ثم قرر أنهما على حق. قالت زوجته: روجي العزيز.. هذا مستحيل، لا يمكنك أن تقسم عنزة؛ فإما أنها تنتمي إلى X أو إلى Y، لا يمكن أن يكونا على حق. هرش الحاخام رأسه وقال: عزيزتي.. أنت أيضًا على حق! أنا هذا الحاخام.
إذا كان عليَّ أن أخبرك عن ماهية عملي بكلمة واحدة، سأقول إنها “العائلة“. العائلة أكثر المؤسسات غموضًا وغرابة، المليئة بالمفارقات والتناقضات. لقد كنا نسمع نبوءات عن موت العائلة لعدة قرون؛ وانظري كيف نجت من الأديان والأيديولوجيات والأنظمة والتغييرات التاريخية. الأب والأم والأخوة والأخوات وما يدور بينهم. هذه الفكرة تجعلني أدرك أن العديد من الصراعات في العالم يمكن تصورها في إطار الأسرة: دوران دائم للحب والكراهية والغيرة والتضامن والسعادة والبؤس. هذا التناوب تقريبًا موجود في رواياتي؛ عائلة يتنافس فيها الجميع مع الجميع، والجميع على حق، تمامًا كما في قصة الحاخام والعنزة. الابن على حق لأن الأب مستبد، والأب على حق لأن الابن كسول وعديم الاحترام، والأم على حق لأن الابن والأب متشابهين تمامًا ويستحقان بعضهما بعضًا، والابنة على حق، إذ لا يمكن أن تستمر في هذه الأجواء فغادرت المنزل. ومع ذلك، كلهم يحبون بعضهم بعضًا. لذلك أرى الصراعات الدولية أحيانًا من منظور الأسرة.
المُحاورة: يقول تولستوي إن جميع العائلات السعيدة متشابهة، أما التعساء فتعساء بطرق مختلفة..
عوز: مع احترامي لتولستوي أعتقد أنه العكس. هناك نصف دستة من الأسر المتطابقة التعسة، ولكن كل أسرة سعيدة – وهذا أمر نادر حقًا– هي فريدة من نوعها. أنا مفتون بالعائلات السعيدة.
المُحاورة: هناك تغيير ملحوظ في رواياتك القليلة الماضية، سواء في الشكل أو في المضمون. على سبيل المثال، روايتك ما قبل الأخيرة التي صدرت في إنجلترا “الصندوق الأسود” مكتوبة وكأنها رسائل. لماذا قررت فجأة الكتابة بهذا النمط؟
عوز: حدث هذا مصادفة. كنت أقصد أن أبدأ الرواية برسالة من امرأة إلى زوجها السابق الذي طلقته قبل سبع سنوات، ولديهما ابن تخلى الزوج عنه تمامًا، وتريد الزوجة السابقة ترتيب لقاء بينهما. لذا فكرت في أن أبدأ برسالتها إليه. لكن بعد ذلك رد الزوج على الرسالة، وتوالت المراسلات بينهما. وتدريجيًّا كتبت شخصيات أخرى، واستمر الأمر خارج نطاق سيطرتي حتى النهاية. من الخطأ الاعتقاد بأن الروائي هو الله؛ وأنه يستطيع أن يفعل كل ما يريد. في مرحلة ما تأخذك الشخصيات. يستطيع الروائي أن يضع قدمه ويقول: لن أذهب في هذا الاتجاه، لكنه لا يستطيع أن يخبر شخصياته كيف تفعل ذلك، وكيف تنسل من قصصه. تطورت الصندوق الأسود إلى رواية مراسلات لأن الشخصيات أرادتها بهذه الطريقة. لا بد لي من إضافة أنه شكل صعب بشكل مروع، خصوصًا وأن الناس الآن يستعمون التليفون فقط ولا يكلفون أنفسهم عناء الكتابة، وهو ما يمكن أن يجعل هذا الشكل قليل المصداقية. في هذه الحال؛ وحين لم تتحدث الشخصيات مع بعضها بعضًا، كانت كتابة الرسائل هي الحل. أعني من يكتب الرسائل الآن؟ زوج وزوجة متشاجران ولا يتكلمان؛ يتركان ملاحظات صغيرة على الثلاجة أو لوح ما. الأبناء الذين سافروا لكنهم يكتبون إلى والديهما لطلب المال. لذلك تصبح الرسائل وسيطًا للحميمية والانفصال في الوقت نفسه. كما أنها طريقة جيدة لطرح الأفكار دون مقاطعة، مثلما يحدث في المناقشات العائلية. كما قلت، أبدأ دائمًا بمجموعة من الشخصيات.
المُحاورة: جانب آخر جديد ظهر في آخر رواياتك وهو الإيروتيكا. هل لأنك وصلت إلى منتصف العمر وهي المرحلة التي يبدأ المرء عندها في طرح أسئلة حول المفاهيم الأساسية للحياة؟
عوز: لقد كانت الإيروتيكا موجودة دائمًا في أعمالي. لا يوجد الكثير من المشاهد الجنسية الصريحة، ولكن هناك كهرباء مثيرة. لا أعتقد أن هذا شيء بدأ يظهر فجأة في كتبي الأخيرة.
المُحاورة: كم من الوقت يستغرق ظهور رواياتك في الغرب بعد نشرها في إسرائيل؟
عوز: عادةً ما يستغرق الأمر عامين لترجمة كتاب، وفقًا للسرعة التي يعمل بها مترجمي نيكولاس دي لانج. سوف أصدر رواية جديدة “لا تسمها ليلة“؛ وهي عن الحب في منتصف العمر وعدم الإنجاب. وتدور أحداثها في بلدة صحراوية صغيرة لا تختلف عن مدينة عراد. عن شخصين متوسطي العمر عاشا معًا لسنوات طويلة ولكن ليس لهما أطفال. لكنني لا أحكي لك الحدوتة بأكملها!
المُحاورة: ماذا عن الرواية التي تكتبها الآن؟
عوز: لا أتحدث أبدًا عن هذا الأمر – يجب على المرء ألا يعرّض الحمل للأشعة السينية؛ فقد يتسبب في تلف الجنين.
المُحاورة: ما تزال صغيرًا ولديك الكثير لتقدمه. هل فكرت يومًا في الموت؟
عوز: أنا في السابعة والخمسين، وهذا في إسرائيل يعني أني لم أعد صغيرًا. هذا يعني أنني أكبر من بلدي. بالطبع أفكر في الموت. لم أكن لأتمتع بالحياة السعيدة إذا لم أفكر في الموت كل يوم. أفكر في
الموت، ولكني أفكر أكثر في الموتى. التفكير في الموتى يجعل المرء يستعد لموته. لأن هؤلاء الموتى موجودون فقط في ذاكرتي، وافتقادي لهم، وقدرتي على إعادة بناء لحظات ماضية، واسترجاع لمحات دقيقة حدثت منذ خمسين سنة.. في أحد الأيام قضيت ساعات طويلة في إعادة بناء حلقة من طفولتي مدتها عشر دقائق: غرفة بها ستة أشخاص، وأنا الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة. من كان يجلس أين؟ من كان يقول ماذا؟ ثم فكرت سأبقي هؤلاء الناس أحياء طالما استطعت، في قلبي أو رأسي أو كتابتي. إذا أبقاني شخص ما حيًّا بهذه الطريقة بعد موتي فستكون صفقة عادلة.
المُحاورة: بعد الخمسين يمكن أن يأتي الموت في أي لحظة.. ينبغي أن نكون مستعدين كما قال هاملت.
عوز: أُفضل أن يأتي الموت بعد خمسين سنة من الآن. أحب الحياة والاستمتاع بها بشكل هائل، ولكن جزءًا من هذا الاستمتاع هو أن حياتي عامرة بالموتى والأحياء؛ فإن جاء الموت الليلة فسيجدني غاضبًا وغير راغب، لكنه سيجدني مستعدًا.