فيروز…وزهرة المدائن

مراجعة على ما سبق دراسته

عمرو ماهر

تكلمنا سابقًا بالتفصيل عن زيارات فيروز الثلاثة  بصحبة الأخوين رحباني إلى القاهرة في 1955 و1966 و1976..  كما كتبنا بالتفصيل عن زيارة فيروز إلى القدس.. اليوم، وفي هذه الظروف الكئيبة التي نحياها، نزور نحن فيروز حاملة مفتاح القدس، ونتابع مقتطفات من الأرشيف الذي لم نحك عنه وله علاقة بالقضية الفلسطينية، أو كما تغني فيروز في ختام مسرحية جسر القمر:

وما زال في جسورة، بهالأرض مشرورة.. بدّن يضلّوا الناس، يجوا لعند الناس.. وتزورنا الدنيه ونزورا.. 

جاءت  فيروز إلى مصر للمرة الأولى مع الأخوين رحباني في فبراير 1955، بالتحديد بعد ثلاثة أسابيع من زواج فيروز وعاصي الرحباني.. تمت هذه الزيارة بدعوة من إذاعة صوت العرب، ليسجل الثلاثي عددًا من الأعمال لصالحها.. والحقيقة أن تاريخ الدعوة التي وجهتها إذاعة صوت العرب إلى فيروز والأخوين يسبق تاريخ 23 يناير 1955، وهو تاريخ زفاف فيروز وعاصي؛ أي أن الإذاعة المصرية وجهت الدعوة للثلاثي مما دفع بعاصي إلى التعجيل بالزواج -الذي كان سيتم عاجلاً أو آجلاً- فلم يكن من المعقول أو المقبول للآنسة الشابة الخجول المحافظة فيروز أن تقبل بالسفر إلى القاهرة، وتظل هناك لمدة طويلة دون رباط رسمي مع عاصي الرحباني.

ومن ضمن ما سجلته فيروز في هذه الرحلة عملان للقضية الفلسطينية؛ هما (راجعون) كلمات ولحن الأخوين رحباني، و(مع الغرباء) للفلسطيني هارون هاشم رشيد ولحن الأخوين رحباني، وأيضًا أغنية أقل شهرة للشاعر الفلسطيني فوزي العمري بعنوان (فوق الجبل غاد). في مغناة (مع الغرباء) يدور الحوار بين ليلى ووالدها اللاجئَين داخل معسكر البريج في قطاع غزة.

في العام التالي؛ 1956، سافر الكاتب الصحفي المصري محمد السيد شوشة إلى لبنان، ليكتب كتابًا عن فيروز بعنوان (فيروز: المطربة.. الخجول).. يستهل شوشة كتابه بالبحث عن فيروز، النجمة التي لا تهدأ ولا تستقر: هل هي في بيروت أم دمشق؟: “طرت من القاهرة إلى لبنان لأكتب لك هذه القصة عن أسطورة الغناء اليوم في لبنان المطربة فيروز.. فما إن فرغت من تأليف العدد العاشر من “أنغام من الشرق” عن أم كلثوم حتى قفز إلى خاطري اسم فيروز لتكون نجمة العدد الحادي عشر.. ولكن أين هي الآن؟”.

تحدثنا بالتفصيل سابقًا عن المخرج كامل التلمساني الذي سيترك مصر في بداية الستينيات ويستقر في بيروت ويزامل الأخوين رحباني وفيروز حتى وفاته 1972.. وكان من أهم ما جاء في كتاب شوشة هي شهادة كامل التلمساني عن فيروز، وهي الشهادة التي ترجع للعام 1954؛ أي قبل زيارة فيروز إلى القاهرة للمرة الأولى عام 1955 وقبل زواجها من عاصي الرحباني. ويخبرنا شوشة أن التلمساني كان من أوائل الذين تحمسوا لظهور فيروز على شاشة السينما. يقول التلمساني: “إنها فتاة خجول، منطوية على نفسها، لا تحب حياة الأضواء، وترى أن ميدانها هو الميكروفون وليس الكاميرا.. رغم أن لوجهها طابعه الخاص، وهو طابع جميل يزيد حلاوته شحوبه الشاعري”. 

ثمة حكاية تستعيدها الصحافة المصرية مرارًا مع ذكر فيروز، ذلك أنه في نهاية العام 1960 زار صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور منزل عاصي وفيروز، ويروي عبد الصبور كيف بدت فيروز صامتة طول الجلسة، تقوم بدور ست البيت فقط، دون أن تشارك في الحديث الثقافي الدائر بين الشاعرين الكبيرين وبين الأخوين رحباني، كأن الأمر لا يعنيها، أو كأنها لا تعرف كيف تشارك في الحديث، مثلما أحب عبد الصبور أن يوحي بذلك، وقد نشر الحكاية في مجلة روز اليوسف (يمكنك أن تقرأ ما كتبه عبد الصبور كاملاً ببحث سريع على الإنترنت). ومن وقتها تورد الصحافة هذه الواقعة باعتبارها طرفة ظريفة، غير أن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد، إذ توجد تتمة لها من الجانب اللبناني؛ فلم يمر ما قاله عبد الصبور عن فيروز بسلام، وفي الأسبوع التالي ردت صحيفة الأخبار اللبنانية بقوة على صفحتها الأولى مقالاً بعنوان “مباحثي يعض فيروز” (أي أن صلاح عبد الصبور من  مباحث عبد الناصر)، وفيه استنكرت ما قاله الشاعر المصري عن أهل البيت الذي فتح له أبوابه واستضافه. على الجانب الآخر، نشر صلاح جاهين الجميل، رفيق عبد الصبور في السهرة في بيت فيروز، هو أيضًا نصيبه من الحكاية في شقيقة روزاليوسف الصغرى، مجلة (صباح الخير)، بأن  رسم حوادث رحلته في لبنان كاملة على طريقة الكاريكاتير، ومن بينها زيارة فيروز..

في فبراير 1958 حدثت الوحدة بين مصر وسوريا، وفي سبتمبر 1961 انفسخت، وهللت صحيفة الأخبار اللبنانية-يسارية التوجه- لذلك الانفصال، وأعادت نشر قصيدة “سائليني” لسعيد عقل على صفحاتها تعبيرًا عن الفرح والمباركة،  وهي القصيدة التي غنتها فيروز في دمشق العام السابق 1960. والكل يعرف طبعًا أهمية فيروز لدى السوريين، وهكذا على سبيل النكاية، ودون أمر رسمي، بدأت أغاني فيروز تنحسر من الإذاعة المصرية. وفي عدد مجلة الإذاعة والتلفزيون الصادر بتاريخ 4 أغسطس 1962 أرسل المواطن عبد العزيز فتحي، من منطقة حدائق القبة، تساؤلًا نشرته المجلة تحت عنوان (فيروز.. فين؟). يقول المواطن عبد العزيز: “أين أغنيات فيروز؟.. للأسف لم أجد سوى ثلاث أغنيات طوال الأسبوع.. أرجو من إذاعتنا الحبيبة أن تتدارك هذه الهفوة..”.
وهكذا جاء رد الإذاعة: “أبدًا ليست هفوة كما تتصور.. كل ما أرجو هو أن تتصور رصيد الأغنيات لكل من فريد وعبد الحليم ونجاة ثم قارنه برصيد فيروز.. إن أغنياتها محدودة العدد، ولا يمكن أن نعيد إذاعتها في فترات متقاربة. ستصيبك الإعادة بالملل. وهناك اعتبار آخر.. رغم إعجابي وإعجابك بفيروز، فلا بد أن تتناسب عدد الأغنيات المذاعة مع مرتبة كل فنان.. وفيروز تأتي في المرتبة الثانية.. أما المطربون الذين ذكرتهم فهم في المرتبة الأولى..”.

وسط هذا الجو المشحون، الذي لا ذنب لفيروز أو الأخوين رحباني فيه، اختفت أو كادت أغاني فيروز عن الإذاعة المصرية بأمر غير مرئي أو رسمي. وظل الأمر على هذا الحال الغريب حتى عام 1966، حين ضجّ عاصي الرحباني وصرح للكاتب المصري محمود أمين العالم أن أغاني فيروز ممنوعة في الجمهورية العربية المتحدة،  فتناقلت الصحافة المصرية هذا التصريح واستنكرته ونفته بكل ثقة وقوة!

بالنسبة لمصر فعام 1966 هو عام فيروز بحق؛ إذ بعد تصريح عاصي الرحباني صدرت من وزارة الإرشاد المصرية دعوة لفيروز والأخوين رحباني لزيارة الجمهورية العربية المتحدة. وعادت فيروز وأخبارها لتتصدر الصحف والمجلات المصرية، ومكثت مع الأخوين في القاهرة لمدة أسبوعين تحدثنا عنهما باستفاضة سابقًا. الجديد في الموضوع أن الدعوة الرسمية لفيروز تكررت للمرة الثانية بعد شهرين من عودتها إلى لبنان. وذلك حين دعتها وزارة الثقافة مرة ثانية لحضور افتتاح العرض التجاري لفيلمها “بياع الخواتم”، لكن فيروز والأخوين اعتذروا لمشاغلهم الفنية.
وفي أعقاب نكسة 1967 واستيلاء إسرائيل على الضفة الغربية، افتتحت فيروز مهرجان الأرز للعام نفسه بقصيدة الأخوين رحباني زهرة المدائن؛ التي قُدمت للمرة الأولى، وبسبب الأحداث الحامية وقتها، صُورت كفيلم سينمائي قصير لفيروز والمجموعة في أثناء عروض مهرجان الأرز، وأخرج الفيلم هنري بركات!
وفي مصر ناشد رجاء النقاش وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة بعرض الفيلم في دور العرض المصرية، لكن هذا لم يحدث.
بتاريخ 14 نوفمبر 1967 وفي معرض مناشدته لعرض زهرة المدائن، كتب رجاء النقاش: “حول هذه المدينة، زهرة المدائن، قدمت فيروز والأخوان رحباني فيلمًا قصيرًا، وهو فيلم يعتمد على أغنية رائعة كتبها الأخوان رحباني ولحناها.. كل الذين شاهدوا هذا الفيلم بلحنه وتمثيله وكلماته بكوا بدموع حقيقية، وبكيت معهم، متأثرين بما فيه من فن هو أقرب إلى صلاة المناضلين والشهداء.. وهو خير غذاء للوجدان العربي في هذه المرحلة التي نمر بها.. إنه لون من “الخبز المقدس” الذي يجب أن نأكله في هذه الأيام.. ولن أطيل في وصف هذا الفيلم القصير الرائع، ولن أطيل في الحديث عنه، لأنه مهما وصفته فلن أعطي له صورة حقيقية تتناسب مع قيمته.. ولكنني أتقدم إلى الوزير الفنان الدكتور ثروت عكاشة بهذا الاقتراح، أو بهذا الرجاء.. أن تطلب وزارة الثقافة هذا الفيلم القصير، وتقوم بعرضه في جميع دور السينما عندنا، ولمدة تمكن المواطنين من مشاهدته.. إن هذا الفيلم القصير يعطينا الكثير!”.

بعد وفاة جمال عبد الناصر خريف 1970، وفي أثناء فترة الحداد، لم تجد جميع محطات الإذاعة المصرية سوى أغاني فيروز لتذيعها، لما فيها من صدق وبساطة وجمال شفيف.. كتب الناقد الموسيقى كمال النجمي في مجلة الكواكب بتاريخ 20 أكتوبر 1970: 

“الأغاني اختفت تمامًا عدة أيام من الإذاعات المصرية والعربية بسبب الحداد الشامل.. وانفردت مطربة لبنان فيروز بكثرة أغانيها الصالحة للسماع في هذه الظروف، دون أن تكون أناشيد وطنية أو أدعية دينية.. فأغاني فيروز التي أذيعت في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وما زالت تُذاع في ظروف الحداد، تخاطب المستمع في جميع حالاته النفسية، لأنها تخاطب الوجدان الإنساني في حالات حزنه وألمه وراحته على السواء.. والحزن عند فيروز والرحبانية ليس نابعًا من نغمة حزينة يتم تركيبها على أي كلام، وإنما هو نابع من بناء الأغنية كلامًا ولحنًا وأداءًا وصوتًا.. ولا توجد في أغاني فيروز أغنية واحدة ينقلب بها حزن المستمع إلى عويل ويأس، أو ينقلب بها فرحه إلى صخب وقلة عقل.. لهذا فكان صوت فيروز يغني في جميع الإذاعات طوال الأسابيع الماضية”.

تأخر عرض فيلم زهرة المدائن القصير  في مصر حتى 1971، وعندما عُرض في القاهرة فيلم فيروز الثاني (سفر برلك).. أجرت أجرت مجلة الإذاعة والتلفزيون قبيل عرضه حوارًا مع فيروز وعاصي، وعلى خلفية من صور للمسرحية الملحمية الدامية جبال الصوان، التي تتناول فكرة تحرير الأرض من غاصب محتل، دار الحوار الذي اهتم بقضية فلسطين.. ألح المحاور على عاصي كالتالي:

-من منكما يكتب الأغنية؟ ومن يلحنها؟
=نحن الاثنين.
-تكتبان معًا وتلحنان معا؟
=نعم.

– كيف؟

ضاق عاصي ذرعًا بالسؤال، فقال: هيك السؤال أجبنا عليه من عشرين سنة.
-ومع ذلك أريد أن أعرف الطريقة التي تشتركان بها في عمل فني واحد.. زهرة المدائن مثلاً؟
=الكلام لمنصور واللحن لي.