في هذا الليل الطويل من رحلة السفر، وأنا متجه إلى الإسكندرية، تنتابني مشاعر متناقضة.. ما بين مشاعر الأمل واليأس.. أحاسيس مرتبكة.. نبضات متسارعة من أنين مغلف بروح الموت وهو يتكتك مثل إيقاعات طبل يدندن على فواصل القضبان الحديدية.. وأنا أجلس على مقعدي في القاطرة الألمانية العملاقة، أشرب كوبًا من الشاي، مع أنفاس السجائر.. والدخان الأسود يخرج من أنفي مثل فحيح أفعى.. وعبر زجاج نافذة القاطرة أتأمل المشاهد المتتابعة للمحطات الليلية وهي تمر مثل حبات مسبحة من الكهرمان؛ محطة بدر.. الخطاطبة.. بني سلامة.. واقد.. الطرانة.. الطيرية.. أرقب بحزن أرصفة المحطات الخالية من البشر؛ بالمقاعد الخشبية وهي تحكي عن حنين إنسان ما كان يجلس عليها، وهو ينتظر أملاً.. حلم الإحساس بالمدن الليلية وهي تهرب عبر ذاكرة ليلية وسوداء كان يجعلني أنظر بعينيَّ عبر زجاج القاطرة إلى هذه الأضواء الخافتة وهي تمر بسرعة الضوء.. محطات المدن المنسية في قلب الدلتا تجعلني في حالة صمت.. صمت وأي صمت!
أحكي الآن عن خط سكك حديد القاهرة/ المناشي/ إيتاي البارود؛ الذي يبدأ مساره من محطة إمبابة.. وهو ينحني عبر مطار إمبابة للطائرات الشراعية، بعد ذلك يأخذ مسارًا مستقيمًا بداية من محطة بشتيل؛ حيث غيطان الزهور تفرش الأرض، في مشهد لن أنساه طول عمري.. حين تبدأ غيطان القمح والبرسيم والفول والقطن والبطيخ والبطاطس والبطاطا والرز والباذنجان في الانتشار من حولي..
يتوازى مسار هذا الخط الحديدي مع الخط الحديدي المتجهة إلى مدينة الإسكندرية؛ يلتقيان فقط في مدينة إيتاي البارود.. وثمة حكايات، بل وأساطير تدور في ذاتي في مساحة هذا التلاقي الحديدي.. في محطة القطا على سبيل المثال، وتحت ضوء الشمس، أنتظر القطار المقابل.. وهنا يجب أن أنوِّه إلى أن خط السكة الحديد القاهرة/ المناشي/ إيتاي البارود هو خط فردي المسار، لذا ينبغي أن أنتظر القطار المقابل كي أمر..
منذ حداثة حياتي وأنا أسافر عبر هذا الخط الحديدي.. وعادة ما يحدث التقاء ما بين القطار المتجه إلى إيتاي البارود مع القطار المتجه إلى القاهرة.. هذا اللقاء عادة تجري فيه مشاعر متناقضة خصوصًا وأنا أسير بقطار يحمل فحم كوك أو فوسفات أو منجنيز أو دولميت، أو حتى قطار يحمل الدبابات والمدافع والجنود.. والدبابات ثقيلة على القاطرة، والمدافع وهي تنام تحت شبكات التمويه الصفراء منها والزرقاء.. والليل هناك يطن بلحن الوداع الأخير، والجنود يغنون المواويل الحزينة عن بلادهم البعيدة.. وأنا في القاطرة مسافر عبر حقول نبات الصبار ثمة كيزان من التين الشوكي تنمو وسط هذا النبات الشرس.. أشم الهواء المشبع بذكريات الموت الملتصقة بالحديد المعدني للمدافع والدبابات..
عند محطة واقد أقف قليلاً قبل أن نصعد كوبري إسمنتيًّا عملاقًا.. نحن الآن في الدلتا، لكن من الناحية الغربية، وروح الصحراء تطل علينا، والكوبري الإسمنتي عالٍ وعريض.. والقاطرة تنعق من الجهد الذي تبذله صعودًا.. والدبابات من خلفي مثل ظل محارب، فارس من جنود جيش هولاكو، أو الإسكندر الأكبر؛ يبحث عن فريسة يطعنها الطعنة الأخيرة للموت.. والقاطرة تزأر مثل أسد جريح!
وأنا أيضًا بفعل الصعود الإجباري لهذا الكوبري العملاق، أنتظر الموت.. وأنظر إلى هذا الكون الشاسع من فوق الكوبري العملاق غير مصدق أن الكون متسع بهذا الشكل البديع.. وأن النجوم قريبة للغاية..
يا إلهي، ما هذا! وفي تلك اللحظة النورانية تبدو الحياة مثل قشة عشب في وجه ريح عاتية تعوي بلا رحمة.. وبمجرد أن تصل القاطرة إلى منتصف قمة هرم الكوبري إلا وتبدأ دقات قلبي، ومستوى انهيار أعصابي في العودة إلى معدلاتها الطبيعية.. حتى إنني ألاحظ أن ماكينة القاطرة يعود انتظام صوتها إلى معدلاته الطبيعية وكأننا؛ أنا والقاطرة، نشبه بعضنا بعضًا.. وكأن القاطرة أيضًا تتوتر أعصابها وتشعر مثلي بالخوف من الكوبري، ومن ثقل العربات المحملة بالعتاد العسكري..
لا أنسى أبدًا كوبري مدينة واقد.. بسبب ثقل ذاكرة الخوف، التي تتلبسني عندما أتذكره في تلك الرحلة الليلية، وكأنها حدثت بالأمس فقط.. ومع ذلك تبقي ذكرياتي في محطة القطا؛ حيث يوجد المعتقل الرهيب لا تنسى هي الأخرى..
استيقظت في الساعات الأولى من الصباح، وشاهدت شروق الشمس على الزهور الحمراء، من خلال نافذة المطبخ.. لقد صارت تلك الزهور هي الطاقة الإيجابية لي في الحياة حاليًا، مثلما كانت الزهور في محطة القطا تعطيني الأمل في الحياة.. الزهور واشجار الموز بأوراقها الخضراء الوارفة، مثل شراع مركب نيلي يسبح تحت ضوء الشمس.. وأنا أجلس على رصيف المحطة، أتامل هذا الكون المتناغم في إيقاعاته مثل موسيقا شوبان وهو في دوامة الحنين إلى ذكريات الماضي في وطنه المحتل “بولندا”.. أو وهو يبحث عن الحنين في علاقته العاطفية المتوترة مع حبه الوحيد جورج صاند.. أما أنا فكنت أبحث عن معنى آخر في حياتي المشوشة.. هل كنت أبحث عن رحيق أوراق الموز وهي تنثر هذا العبق الأخاذ من روح سكون وصمت الطبيعة؟
في محطة القطا كنت على الدوام ما أجد الشمس المشرقة بالهواء النقي المحمل بالأكسجين، وفطرة الأرض البكر.. كل مفردات الحياة هناك ساكنة؛ كراسي المحطة، السيمافورات، بلوك المحطة القديم، البلاط، رصيف التخزين المهمل، وحتى الطيور تطير في سكون.. كل الأشياء هادئة، إلا قطار السجن؛ بملامحه القاسية، وتطفو على سطح مشاعري صورة صديقي حسن كامل؛ بملامحه السمراء التي تشبه الممثل الأسطورة أحمد زكي..
لم يكن حسن كامل صديق طفولتي فقط، بل كان قريني في الحياة.. وعندما دخل إلى القبر في رحلته العدمية الأخيرة لم أصدق نفسي من هول الصدمة، فتراخت أعصابي وسقطت على أحد شواهد القبور.. ووضعت كف يدي على عينيَّ كي لا أرى آخر مشهد لصديق حياتي الوحيد في الحياة، الذي تقاسمت معه كل شيء؛ من النقود حتى الأحزان، مرورًا بالملابس والأحلام والنساء، نهاية بالحشيش.. وكان حسن بالفعل يشبه الممثل الشهير خالد الذكر أحمد زكي في كل تصرفاته، وحتى في طبقة صوته الرجولية الحنونة، وقامته الطويلة، ووجهه الأسمر وشعره الأكرت وأنفه الدقيق.. هذا غير جدعنته في أدق تفاصيل الحياة، وفوق كل هذا روحه المرحة المقبلة على الحياة.. وكان ذلك يدهشني للغاية.
حسن كامل هو أول من علمني تدخين الحشيش على الجوزة.. يومها ذهبنا إلى حي الليمون، وكنت أنا عطشجي سكة حديد، وعمري نحو 18 عامًا، وذهب هو وتقدم من تاجر الحشيش وأعطاه 3 جنيهات ونصف فأعطاه قرش الحشيش.. وقتها دخنت هذا المخدر للمرة الأولى في حياتي؛ إذ كان محرمًا في منزلنا تدخين المخدرات أو حتى شرب الخمر.. وكان حسن لا يشرب الخمر بتاتًا.. ولكنه مع ذلك كان كازانوفا بالمعني الحرفي لهذه للكلمة.. وعلى الرغم من مغامراته الهائلة في عالم النساء فإنه كان يملك سقفًا أخلاقيًّا.. لم يكن في سلوكياته يتجاوز إلى حدود الخيانة أو الغدر في العلاقات الشخصية.. كان حسن كامل سائق ميني باص، يذهب إلى ميدان العتبة، أو ميدان التحرير، من وإلى حي مصر الجديدة، لذا كان تقع في غرامه حسناوات هذا الحي العريق.. ولكن هذه حكاية أخرى.