“اختفت أرض النوبة الممتدة من أسوان في مصر إلى دنجلة في السودان بعد أن غمرتها بحيرة ناصر، أكبر بحيرة اصطناعية في العالم، المتشكلة من بناء السد العالي في أسوان” احتاج هذا البناء الضخم، إلى عقد لإنجازه وهو «جهد مصر الحديثة الطموح لتسخير النيل لغايات زراعية وصناعية»، وقد كان الإغراق التام للأراضي النوبية الثمن الذي دفعته مصر لهذا التطوير المستعجل لمواردها، وإثره تحولت النوبة، المشهورة على امتداد العالم كأرض غنية بالمواقع الأثرية، إلى جاذب للاهتمامات واسعة النطاق والخطط لإنقاذ معالمها. وفيما علماء آثار ومهندسون يعملون ضد عجلة الزمن للحفاظ على هذه المعالم، وفنانون ومصورون يخلّدون للأجيال المقبلة الأرض المختفية، كان هناك كثيرون يزورون الموقع لإلقاء نظرة على النوبة القديمة».
باشرت ماجدة صالح – أول راقصة باليه مصرية وأول عميدة لمعهد الباليه– كتابة أطروحتها العام 1977، عندما سافرت على امتداد النيل لمشاهدة وتسجيل ما أسمته الرقصات الإثنية(التقليدية) التي اعتقدت أنها آيلة للاندثار. توقفت في مدن عدة في الطريق، في النوبة، وفي سيوة، وفي مرسى مطرح ومدن أخرى. ودونت الرقصات باعتماد نظام الـ labanotation. وهو نظام خاص بتدوين الرقصات. كذلك قاربت كل مكان من ناحية الوصف الجغرافي، وعملية انزياح الصفائح التكتونية على مدى السنين، مشكّلةً خصوصية أفريقيا الشرقية، وجغرافية وادي النيل، وكيف أن البحيرات الصناعية أغرقت المعالم القديمة واندثرت مدن وجماعات بأسرها. على خلفية هذا المنظر تابعت مجرى المياه جنوبًا. كانت شغوفة بما يتعلق بنقل المعرفة المتعلقة بالجسد بواسطة مؤسسة الرقص الحديثة التي تنتمي إليها، وقلقة من أن يختفي هذا النوع من الرقصات بدوره شيئًا فشيئًا، تمامًا مثلما اختفت النوبة. الراقصات اللواتي حفظن هذه المعرفة في أجسادهن التي كانت تتقدم في السن، ومعرفة الرقص تموت عندما تموت أجساد الراقصات، وتتحول إلى كتلة صماء. شيئًا فشيئًا يدب الوهن في العضلات، وتترهل، وتفقد العظام رشاقة التمفصل.
ونجد هنا وصفًا موجزًا من أطروحة ماجدة: «سمعت من معالج فيزيائي أن راقصة يمكنها أن تستلقي على ظهرها وبكوب ممتلئ من الماء، أو تقف على جزء من بطنها، فيما الجزء الثاني على كوب فارغ، وأنها بحركة شد العضل، يمكنها أن تنقل المياه من كوب إلى كوب، لتفرغ الممتلئ ويمتلئ الفارغ»؛ يبدو أن ماجدة كانت تبحث عن أرض الواقع للجسم الأفقي، في محاولة للخروج من الهندسة العمودية للباليه، من أجل أن تدخل إلى هندسة أخرى، الأرض المسطحة. عملها الإثنوجرافي يمكن أن يقرأ رد فعل على الانقطاع عن الرقص الشعبي، الذي فرضه الباليه بادعائه أنه الرقص الوحيد الذي يحدِّث الأجساد.
«الصناعة الأجمل في بلدنا» عنوان مقال يتحدث عن مدرسة رقص «إذا مررتم بمحاذاة مبنى صناعي، لا تحسبوه مصنع تعدين أو مصنع سيارات! صحيح أنه مستودع كبير، لكنه لا شيء مما تتوقعونه. إنه مكان حيث الأجساد تتدرب على الرقص بطريقة معينة للانضمام إلى الفرقة الوطنية».
النوبة
نار حجر خشب سماء ماء
أجساد بالجملة تأتي لتعلِّم الرقص سواء تحولن إلى راقصات باليه محترفات أم لا. على الجسد الجديد أن يتعلم رقص الباليه. تعود المجلة التي عثرت فيها على هذه الصور إلى 1958 وطبعت في القاهرة. في ذلك الوقت كان النشر قد أمّم، وكانت المقالات تعكس بالتالي مشروعًا دولتيًّا معينًا. وغالبًا لم تكن مدرسة الرقص بمنأى عن هذا المشروع، وكذلك الأجساد الجديدة التي ترقص الباليه. هذه الأجساد الحديثة للراقصات ستتحول إلى أجساد تمثيلية للبلد بحدوده الوطنية. الأدائية المحددة أو حركة الرقص تصير لها حيثية تمثيلية لبلد مخطط بالأيادي والأصابع البشرية. الأيادي الاستعمارية. يمكن قراءة عمل ماجدة الإثنوجرافي كرد فعل على القطيعة التي حدثت مع الرقص الفولكلوري، من خلال ما فرضته مدرسة الباليه؛ من خلال الترويج للباليه على أنها الرقصة التي سوف تحدِّث الأجساد. لكن بحملها الرقصات إلى داخل مؤسستها الحديثة من خلال التدوين والتسجيل والأرشفة والحفظ وبناء التراث، ربما كانت تظن أنها تحفظ الرقصات من النسيان أو الغرق تحت المياه، مياه البحيرة أو مياه النهر، مياه مؤسسة الرقص الحديثة، لكن حفظ الرقصات أيضًا بالتحديث الكولونيالي، من شأنه أن يصنف هذه الرقصات على أنها بدائية. يبدو الأمر إذن، كما لو أن ماجدة تحارب في معركتين.
في بداية أطروحتها تكتب «الأنصار المبكرون للمذهب التحديثي اعتقدوا أنه، بما أن الرقص نُظر إليه كجواب بدائي، فإن له معنى أهم لدى المجتمعات البدائية، وسوف يتم هجره مع الدخول في كنف الحضارة. هذه النظرية صارت ممجوجة، وصار هناك تشديد على أنه ليس ثمة شيء اسمه «رقص بدائي» وأن هذا “مصطلحًا بلا معنى“.
كانت تريد تحرير الرقص من النظرة الكولونيالية، وتمييز مقاربتها عن المقاربة الكولونيالية الإثنوجرافية، بالتأكيد على «البلدي»، و«البلدي» في أسلوب فهمها، يعني الانتماء إلى الدولة – الأمة نفسها، وعدم تمييز أي طبقة، أو إثنية، أو جندر، وأي نمط مختلف من السياسات أو غير المواطنين. نظرتُ إلى حركة «دوران الورك» بين مدونات ماجدة، ووجدت تفسيرات عديدة؛ منها أنها تنظر عن قرب إلى الحركة الحوضية الأفقية. «ما هو دوران الورك؟ من أجل القيام بذلك على الشخص التعامل مع حوضه كمركز للجسم، وتحريره من أطرافه (الساقين والجذعين) بخلق حركة فك ارتباط بين الحوض والجذع، إلى حد أن كل واحد منهما يعمل وحده، مستقلاً عن الآخر. يتوقف الجسد عن أن يكون كلاً مجملاً. يتحول إلى جسد من أجزاء متعددة تتبع حركة الحوض. ليس كحركة الطيران حيث العمود الفقري يكون في المركز والجسد يعمل ككل».
ماجدة صالح
ربما كانت ماجدة معنية بنقل حركة الحوض ودوران الورك بكل تنويعاتها. وكانت هذه طريقتها في احتساب تمرينها هي كراقصة باليه مع العمود الفقري في الوسط، وإعادة مركزة الجسد حول الحوض. فقد ولجت مضمارًا جديدًا في التمثل من خلال اعتمادها نظام رودلف لابان في تسجيلها لحركة الرقص. ربما كان مقصدها من منهجها الذي لا يكترث بالجندر أن تحرر جسد المرأة الراقصة، وجسدها–هي– ضمنًا. لكن هذا النظام في تسجيل الإيماءات يساعدها أيضًا على اختراع تركيب خيالي جديد عن التراث، وتركيب خيالي جديد عن الأمة. تركيب خيالي يحملها مجددًا نحو الأرض، ويقوض خيالية الطيران الذي تدرَّب جسدها عليها. في الواقع، كانت حركتها بسيطة للغاية. تحول المواضع: تخرج من المشهد وتصير جزءًا من المشاهدين. تنزل عن المسرح وتجلس مع المشاهدين لتتفرج على الرقصات الإثنية، لتتفرج على نفسها وهي ترقص. تحط رحالها في المشاهدين وتترك المقام الرسمي للتمثل. لم يعد فضاء الرقص على المسرح من الآن فصاعدًا. جغرافية النيل تسمح لفضاء جديد بأن يتفتح، ولرقص جديد بأن يشق الطريق، رقص ما بين الإثنوجرافي والراقصة، بين الراقصة والراقصة، بين المسافر والمنظر الطبيعي، بين الراقصة والمصور. ربما رقص قتالي.
«هدف لعبة القتال بالنسبة للاعب أو المقاتل أن يبحث عن فتح باب في دفاعات الخصم أو النقيض، يمكن أن تأتي الضربة منه، فيما يحافظ هو على مناعة دفاعاته. ينجز ذلك بتمايل دائري للعصا حول الجسد، لحماية الرأس والعنق والجذع والظهر والركبتين، فيما المتعاركان يدوران حول بعضهما ويؤديان إيماءات ماكرة، وتوجهات ومراوغات، تتضمن قفزات وتبديلات مفاجئة في المستويات والاتجاهات، وتوجيه ضربات مدوية في بعض الأحيان بالعصا، على عصا الخصم؛ فلو أن عدوّين حقيقيين صادف أن التقيا، لربما تحولت هذه اللعبة إلى تصادم عدائي بين نقيضين، وبين أنصار كل منهما في مسار من العنف. في الواقع، بالنسبة إلى مشاهد، لتخيل القتال حتى الموت، فإن كل ما يحتاجه أن يتخيل حركة إيقاع اللعبة المنمطة هذه، تتسارع فجأة» هناك دائمًا نوع من الشغل الإثنوجرافي، عندما يشاهد الواحد منا عرضًا راقصًا. أو فقط مشاهدة تشريحية. الفارق بين العرض الراقص والشغل الإثنوجرافي أن الجسد ينتزع من السياق ويوضع على خشبة.
الإثنوجرافي «حضور»، لكن الحضور الذي يشاهد عرضًا راقصًا، ليس مشكَّلاً بالضرورة من إثنوجرافيين. أو ربما الحضور يتفرج فحسب على تفصيلات الجسد وتمفصلات الهيكل العظمي. هو أمر مختلف أن تتبنى النظرة الإثنوجرافية كما فعلت ماجدة، أو أن تنظر إلى الجسد المشار إليه نظرة تشريح. في الواقع هذا هو الفارق بين المشاهد، والمراقب، والحضور، والشاهد، والإثنوجرافي، أو ربما كان الإثنوجرافي كل هؤلاء دفعة واحدة.
كيف يمكن تعلم الرقص؟
كيف يمكن للواحد منا تعلُّم الرقص؟ بالمراقبة، والمتابعة، والتقليد، واستيعاب القوى التي تدفعك عموديًا أو أفقيًّا، ليست فقط القوى العضلية، بل أيضًا القوى الأرضية؛ الجاذبية، والوزن، والحركات، والتراب، والمنزلقات، والمرتفعات، والهزات الأرضية، والطين، والعظام، والتمفصلات، والتيارات، والمياه.
يعني تعلُّم الرقص أن الأرض والجسد البشري كيانان لا يفترقان في حركتيهما، وأن التباين بين الطيران والهبوط يصير بلا جدوى، الأرض والسماء، العمودي والأفقي، الدماء والعظام، العضلات والسوائل. في كل طيران هناك هبوط، في كل هبوط هناك ارتطام بالأرض، في كل ارتطام هناك طيران جديد. لربما توجب عليَّ أن أتبع ماجدة في رحلتها على ضفاف النيل وأمضي في الرحلة التي أعادتها إلى الأرض. وبقيامي بذلك، لست أبحث لا عن مكان خارج الحداثة ولا عن معالجة القطيعة التي اختارتها ماجدة. فالأطروحة تنتمي في المقام الأول إلى المؤسسات الحديثة التي سمحت بها. أنا أبحث بالأحرى عن حركة جيولوجية معينة سمحت لماجدة بأن تعود مجددًا إلى الأرض، وهي تتبع مجرى المياه، بأسلوب جعلها تكثف حركتها وتبسط أفقيتها. فمن أجل أن يشرع الواحد منا أفقيته، عليه المحافظة على عمودية قوية يشعر من خلالها بوزنه وهو يقف بقدميه على الأرض، يشعر بالثقل. أستطيع تحريك القدمين بصعوبة. تبعت هذه الصفائح التكتونية التي دفعتها إلى رحلتها. لو أننا نتخيل القوة التي تنتج من حركة هذه الصفائح. لو أننا نتخيل هذه الصفائح تتحرك بشكل سريع أو نتخيل زلزالاً. هذا ما جعل ماجدة تتحرك “وبدلاً عن أن أتحداهم وأتحدى قانون الجاذبية، سوف أدعهم يجعلوني أتحرك“.
كانت محاولة ماجدة للخروج من الدولة القومية عن طريق اتباع النهر الذي يمر عبر القارة خارج حدود البلاد، محاولة فاشلة. فقد كان النهر بالفعل قد أُمم منذ سنوات عدٓة حينما ابتدأت ماجدة رحلتها. وقد قررت أن تسافر على امتداد نهر النيل لأن هذا هو المكان حيث استقر الناس منذ قرون بحسب ماجدة «هذا هو التكوين (الطبيعي) للبلاد» وهذا قد يكون واقعًا؛ ولكنه لا شك سردية ناصرية بامتياز؛ فكلامها يأتي بنفحة وطنية قوية. لهجة ما بعد الاستقلال الناصرية التي استخدمت لبناء الدولة، تأتي من خلال عبارات ماجدة وحركات الباليه: plié, chasse, pas de deux, pointedemi pointe, grand écart, tendu. ويسمع صدى أيديولوجية الدولة في رحلة ماجدة على طول نهر النيل، وفي مدوناتها للرقصات الإثنوجرافية. ويتسرب هذا الصدى إلى حركة النيل وتدفقاته وإلى الانعكاسات والجداول، والبحيرات والبرك، والسدود التي يصنعها الإنسان، والتيارات المتقطعة، والمياه السطحية والجوفية. بين حركة راقصة الباليه وتدفق المياه المؤممة هناك حركة الأرض التي، ربما تخرج عن حدود الدولة وضوابطها. وهنا لا أقصد الصفائح التكتونية فقط، بل أيضًا التدفق داخل الطبقات الجيولوجية العديدة التي تتشكل تحت الأرض. ليس الهدف إقامة مقارنة بين جسد راقصة الباليه الأنثى وتدفق مياه النيل، بل هو طرح للنظر إلى الطريقة التي تم فيها تأميمهما في المشروع «الدولتي» في مرحلة ما بعد الاستقلال، وإعادة استعمارهما في فترة ما بعد الاستعمار من قبل الدولة نفسها.
باليه الدولة
الجسم هو جسم من ماء! جوف الأرض، دوران جوف الأرض. دوران الأرض، ليس حول الكواكب الأخرى ولكن حول نفسها! ماذا لو تصورنا حركة تلك الصفائح التكتونية تتسارع.
«تدفقت الأنهار في هذا الجزء من شرق أفريقيا غربًا إلى حوض نهر الكونغو العظيم. ثم، قبل ستة ملايين سنة، كانت الصفائح التكتونية العظيمة التي تشكل القشرة الأرضية، قد تحولت وأخذت في تقسيم شرق أفريقيا. وحصلت تصدعات كبيرة دفعت بالصخور إلى الأعماق، وشكلت وديانًا سحيقة. وارتفعت ترسبات من باطن الأرض إلى سطحها، مكونة جبالاً بركانية كجبال فيرونغا التي حولت تدفق مياه النهر من الشمال إلى بحيرات كيفو وتنجانيقا في الجنوب. كما كونت القوى التكتونية التضاريس على طول الصدع، وتحولت المياه التي كانت تتدفق غربًا إلى الكونغو أو شرقًا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، تدريجيًّا نحو الشمال. وقد استغرقت هذه العملية وقتًا طويلاً»
قد يصل معدل تحرك نهر النيل أفقيًّا إلى 9 كيلومترات كلّ ألف سنة، علمًا بأن هذا المعدل يشمل تغيرات في المسار في مناطق الجزر. ويعتمد اتجاه حركة النهر على انحنائه، حيث تميل الانحناءات إلى التدفّق مع التيار نحو الخارج، باستثناء الأماكن التي يكون الانحناء فيها مقيّدًا بطرف الصحراء. تضع هذه الملاحظات قيودًا على هندسة حركة النيل، لكنّها لا تضع أي قيود زمنية. هذا ويدمّر تغيّر مجرى النهر كل المستوطنات على الجانب المعرّض للتآكل ولا يحفظ إلاّ المواقع إلى جهة الترسّبات. وتشير هندسة الهجرة ومعدلاتها إلى أن رأس دلتا النيل كان يتدفق جنوبًا في الماضي. وقد كان معدل التدفق في العصور القديمة عاليًا، وهناك العديد من التفرعات.
تابعت الراقصة. كان من الصعب اتباع ترددها المقصود. يمينًا، يسارًا. اعتقدت أنها تتجه يمينًا عندما بدَّلت واتجهت يسارًا في الاتجاه المعاكس، ثم عادت، وبشكل غير متوقع، فاتجهت يمينًا. كانت لعبة تمايل في الاتجاهات. بدت تتعثر كما لو أنها بصدد السقوط، ولم تفعل. في الواقع ستتهاوى. تتعثر. ثم تمسك نفسها ولا تسقط، وفجأة تسقط، ونراها مطروحة على الأرض. في هذا الالتواء تبعتها من الخلف ومن الأمام، من الخلف ومن الأمام، إلى أن تعلمت الحركة. أعدتها عدة مرات وتعلمتها بشكل جيد، ودائمًا كنت أجد نفسي وقد تجمدت قواي. فالتهاوي يتطلب الكثير من العضلات المتمرسة. لكي تترك نفسك تسقط بقرار منك، فهذا يتطلب العديد من العضلات والمتانة. دونما تردد اتبعت طريقتها. تهاوينا، ولم أكن قوية كفاية لأسقط. تفاديت السقوط.
السقوط ليس انهيارًا: بمعنى انهيار صورة طيران الراقصة. الدولة الأمة كما تتراءى في صورة راقصة الباليه وهي تطير هي دولة قوية، مفتولة العضلات، تتحدى الأرض، مع الجسد الإنساني في المركز، تتطلب المزيد ولا تريد التهاوي، لا تريد السقوط على الأقل داخل الإطار.
ربما يتعثر المرء ويسقط، ولكن يمكنه الوقوف مرة أخرى إذا كان يرغب في ذلك. يمكن أن ينظر إلى الأرض من منظور الأرض، من منظور الأرض والسطح، من منظور الغلاف الجوي، ومن منظور الذات. ربما كان يعني ذلك، أن المرء لا يستطيع تخيل نفسه في مكان آخر، أي ليس في وضعيّة عموديّة وقوفًا أو مشيًا أو طيرانًا، بل في وضعيّة الاسلتقاء أو الانزلاق. يمكن للمرء أن يسقط عدة مرات كما هو مطلوب أو مفروض. يمكن للمرء أن يسقط مرارًا وتكرارًا، إذا كانت الأرض تستطيع أن تتلقاه..
سقوط لا انهيار، بمعنى أن الأرض تسقط على نفسها. أو أن الأرض تذوب من تلقاء نفسها. سقوط لا ينهار، بمعنى الأرض التي تقع في السقوط التلقائي. انهيار يمكن أن يكون بطيئًا، كما حصل على مر الزمن وببطء. انهيار يمكن أن يكون مفاجئًا، يعني دائمًا أنه وصل إلى نقطة اللا عودة. وهذا يعني أن العضلات قد وهنت. وأن النوبة أصبحت غارقة تحت بحيرة ناصر.
الدولة القومية، كما رأينا في صورة تحلّق راقصة الباليه، قوية العضلات، وتتحدى الأرض. الجسم البشري هو في وسطها، وأصبحت عثرة، لا تسقط؛ على الأقل ليس داخل الإطار.
كان هذا في العام 1958،وفي 1966 نالت ماجدة وسأم الإستحقاق من جمال عبد الناصر. وقعت أحداث السقوط بعد 1967. وبعد عشر سنوات، في 1977، بدأت ماجدة صالح رحلتها ، لتتجاوز صورة ” السقوط ” قائلة إنها تتطلع لرواية أخرى للأمة وتمثيل آخر للدولة .
الترجمة إلى العربية : الكاتب وسام سعادة.
النص: ورقة في مؤتمر “العودة إلى الأرشيف في أعقاب الثورات العربية ” – برلين – اكتوبر 2018، و سبق نشر نسخة من نفس النص ضمن مجموعة مطبوعات “قوام العالم” متحف سرسق، بيروت.
المراجع: أطروحة ماجدة صالح “مصر ترقص، توثيق الرقص الإثني في مصر”، 1977.