في هذا الكتاب الصغير، والفاتن، والمحكم البناء، يلقي الفيلسوف الألماني ذو الأصول الكورية بيونج شول هان نظرة نقدية شاملة على المجتمع المعاصر، في محاولة للإجابة على سؤال مُلح: لماذا لا يشعر الكثير والكثير من البشر في المجتمع المعاصر، رغم كل ما يتسم به من تطور ورفاهية، بالسعادة والرضا عن حياتهم؟
هذا الكتاب الذي صدر في عام ٢٠١٠، وفيه يتناول هان هذه التيمة بالتفصيل. ويستهله بطرح فكرة مجتمع يقوم على مفهوم المناعة، حيث تدور الحياة فيه حول ثنائيات الذات والآخر، والمألوف والغريب. وهكذا، يتصرف كل من المجتمع والأفراد كما تتصرف أجسادنا حين ترصد مصدرًا محتملًا للعدوى، إذ تبادر بعزل مصدر التهديد والقضاء عليه. وهكذا، فكل ما لا يشكل جزءً من الكل، يُعد، تلقائيًا، جزءً من هذا التهديد. ونلاحظ في هذا القسم من الكتاب أن المؤلف يستخدم الفعل الماضي، لأنه يعتقد أن هذا المفهوم ينتمي إلى القرن العشرين وأننا قد تجاوزناه بالفعل.
ومن ثم، فإن الفكرة المركزية في هذا الكتاب هي أن القرن الواحد والعشرين جلب معه إشكالية مختلفة كل الاختلاف. فالتهديد الذي نتعرض له اليوم لم يعد يأتينا من الخارج، بل من الداخل، بمعنى أنه متأصل في بنية نسيج مجتمعنا المعاصر. فبينما كان التركيز في الماضي على “لا يمكنك” و”ينبغي أن”، فإننا نعيش اليوم في عصر “تستطيع”. واختفت مفاهيم “التحريم، والوصايا، والشرع”، وحلت محلها مفاهيم “المشروع، والمبادرة، والتحفيز.” بيد أن المشكلة، أن هذا التغير الذي يبدو في ظاهره محملًا بوعود التغيير والانعتاق، لا يعدو في حقيقة الأمر أنه ينقل مركز التحكم والسيطرة من الخارج إلى الداخل.
وهذا يعني أننا حين نعجز عن الوفاء بواجب التطوير المستمر للذات والارتقاء بها، تخور قوانا وتنطفئ. وإذ يأتينا الدمار من داخلنا، فإن أجهزتنا المناعية لا تجد شيئًا تهاجمه.. ربما كان هذا التوصيف قاسيًا بعض الشيء، لكن أي إنسان اختبر العمل يومًا في أحد تلك الأماكن ذات الإيقاع اللاهث والضغوط التي لا تنتهي، يعرف جيدًا هذا الشعور الأشبه بالركض على آلة الجري بلا توقف وبلا نهاية تلوح في الأفق وحيث السبيل الوحيد لالتقاط الأنفاس هو الانهيار والسقوط أرضًا من فرط الإعياء.
*بيونج-شول هان
فيلسوف ومُنظر ثقافي ألماني-سويسري من أصول كورية. وُلد عام 1959 في كوريا الجنوبية، ودرس علوم التعدين في جامعة سيول. وفي العام 1980، سافر إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة والأدب الألماني وعلم اللاهوت الكاثوليكي في فريبورج وميونيخ، حيث حصل في العام 1994 على درجة الدكتوراه عن مارتن هيدجر. وعمل لفترة أستاذًا بجامعة برلين، ولا يزال حتى اليوم يُلقي بعض المحاضرات هناك من حين لآخر. من أهم مؤلفاته: “المجتمع المُنهك” و”مجتمع الشفافية والسياسات النفسية: النيوليبرالية والتقنيات الجديدة للقوة”، و”عبق الوقت: أطروحة فلسفية عن فن التلكؤ”.
ما بعد مجتمع الانضباط: لماذا لا يشعر الناس بالسعادة!
لم يعد مجتمع اليوم هو عالم فوكو الانضباطي، عالم المستشفيات، ومصحات الأمراض العقلية، والسجون، والثكنات، والمصانع. فقد حل محله منذ وقت طويل نسق آخر، هو مجتمع ستديوهات اللياقة البدنية، وأبراج المكاتب، والمصارف، والمطارات، ومعامل الهندسة الوراثية. ذلك أن مجتمع القرن الواحد والعشرين لم يعد مجتمع الانضباط، بل بالأحرى مجتمع الإنجاز. كذلك، لم يعد أبناؤه ذوات-امتثال، بل ذوات-إنجاز، يستثمرون في أنفسهم. وتبدو اليوم جدران مؤسسات الانضباط، التي تفصل بين الطبيعي وغير الطبيعي، شيئًا عفا عليه الزمن. ومن ثم لم يعد بمقدور تحليلات فوكو للقوة أن تفسر التغيرات النفسية والطوبولوجية التي حدثت مع تحول مجتمع الانضباط إلى مجتمع الإنجاز. كما أن مفهوم “مجتمع السيطرة”، المستخدم على نطاق واسع، لا يفي هذا التغير حقه، كونه، بدوره، متخمًا بالسلب.
إن مجتمع الانضباط هو مجتمع سلب، يتحدد بما يتسم به التحريم من سلب. وصيغة النفي التي تحكمه هي “لا يمكنك.” وعلى المنوال نفسه، ثمة تلازم بين ما يتسم به “الإكراه” من سلب وبين الفعل “يجب.” فمجتمع الإنجاز منخرط على نحو متزايد في عملية تهدف إلى استبعاد كل سلب، في حين تتكفل إزالة القيود على نحو متزايد، بإلغائه تمامًا. فصيغة الإيجاب الخاصة بمجتمع الإنجاز هي الفعل “تستطيع”، بلا قيد أو شرط. وتلخص صيغة الجمع منه، “نعم، نستطيع”، التوجه الإيجابي لهذا المجتمع. حيث تحل المشروعات، والمبادرات، والتحفيز، محل التحريمات، والوصايا، والقانون. فمجتمع الانضباط لا يزال محكومًا بـ
“ممنوع”، وما يتسم به من سلب ينتج مجرمين ومجانين. وبالمقابل، يخلق مجتمع الإنجاز مكتئبين وفاشلين.
بيد أنه على أحد المستويات، ثمة استمرارية في هذا التحول النوعي من مجتمع الانضباط إلى مجتمع الإنجاز. ومن الواضح أن “اللاوعي الاجتماعي” مسكون بدافع تعظيم الإنتاج إلى الحد الأقصى. لكن بعد مستوى معين من الطاقة الإنتاجية، تصل تكنولوجيا الانضباط –أو، بالتعاقب، استراتيجية التحريم السلبية- إلى حدها الأقصى. ولزيادة الطاقة الإنتاجية، يُستبدل بنموذج الانضباط نموذج الإنجاز، أو، بتعبير آخر، استراتيجية “تستطيع” الموجبة؛ ذلك لأنه بعد بلوغ مستوى معين من الطاقة الإنتاجية، يحول الطابع السلبي للتحريم دون الاستمرار في التوسع. فإيجابية “تستطيع” أكثر نجاعة بكثير من سلبية “ينبغي،” ومن ثم ينتقل اللاوعي الاجتماعي من “ينبغي” إلى “تستطيع.” إن ذات-الإنجاز أسرع من ذات-الامتثال وأعلى منها إنتاجية. بيد أن “تستطيع” لا يلغي “ينبغي.” إذ تظل ذات الامتثال ذاتًا منضبطة، وقد أتمت الآن مرحلة الانضباط. وهكذا، يرفع “تستطيع” مستوى الطاقة الإنتاجية، وهو هدف تكنولوجيا الانضباط، أي فرض “ينبغي.” ففيما يتعلق بزيادة الطاقة الإنتاجية، لا يوجد انقطاع بين “ينبغي” و”تستطيع”، إنما الغلبة للاستمرارية.
يحدد آلان إهرنبرج منشأ الاكتئاب في التحول من مجتمع الانضباط إلى مجتمع الإنجاز:
بدأ الاكتئاب صعوده حين تحطم نموذج الانضباط الخاص بالسلوكيات، وقواعد السلطة، واحترام التابوهات، والذي أعطى الطبقات الاجتماعية، وكذلك كلا الجنسين، مصيرًا معينًا، على صخرة قواعد السلوك التي تحثنا على اتخاذ مبادرات فردية، وذلك بإلزامنا بأن نكون أنفسنا…. والفرد المكتئب عاجز عن الوفاء بهذا الواجب؛ وأنهكه الإلزام بأن يكون نفسه.
بيد أن إهرنبرج ينظر، على نحو إشكالي، إلى الاكتئاب من زاوية نظام عمل الذات فحسب، حيث الفرض الاجتماعي الذي يلزم الفرد بالانتماء إلى نفسه فحسب هو السبب في إصابته بالاكتئاب. فالاكتئاب في نظر إهرنبرج هو التعبير المرضي عن إخفاق إنسان عصر الحداثة المتأخرة في أن يصير نفسه. بيد أن الاكتئاب ينشأ أيضًا من الروابط المُفقَرة، والتي تعد السمة المميزة لتشظي الحياة الاجتماعية وتفتتها المتزايدين. بيد أن إهرنبرج لا يولي أي اهتمام لهذا الجانب من الاكتئاب. ويغفل أيضًا عن العنف “المنهجي” المستوطن في مجتمع الإنجاز والذي يؤدي إلى الاحتشاءات النفسية. فليس الفرض الذي يلزمنا بأن نكون أنفسنا فحسب السبب الوحيد للاكتئاب المُنهِك، إنما أيضًا “الضغط من أجل الإنجاز.” وهكذا، في هذا الضوء، لا تعبر متلازمة الإنهاك عن الذات المرهقة بقدر ما تعبر عن الروح المنهكة والمتعبة. فبحسب إهرنبرج، يتفشى الاكتئاب حين تندحر وصايا وتحريمات مجتمع الانضباط أمام المبادرة والمسؤولية الذاتية. لكن الحقيقة أن ما يُمرض الفرد ليس الزيادة المفرطة في المسئولية والمبادرة، بل فرض الإنجاز: الوصية المقدسة الجديدة لمجتمع العمل في عصر الحداثة المتأخرة.
ويسوي إهرنبرج، خطأً، بين النمط الإنساني السائد في يومنا هذا وبين “الإنسان سيد نفسه” لدى نيتشه:
لقد صار الإنسان سيد نفسه لدى نيتشه، إنسانه الخاص، ظاهرة جماعية، حيث لا شيء فوقه يستطيع أن يخبره بما يجب أن يكون عليه، ذلك لأنه هو المالك الوحيد لنفسه.
لكن في الحقيقة، كان نيتشه ليقول إن ذلك النمط البشري الذي بصدد التحول إلى حقيقة جماعية ليس الإنسان سيد نفسه بل “الإنسان الأخير،” الذي لا يفعل شيئًا سوى “العمل”. هذا النمط البشري الجديد، المنكشف أمام فيض الإيجاب بلا أي وسائل دفاعية في حوزته، إنما يفتقر افتقارًا تامًا للسيادة. فالكائن البشري المكتئب “حيوان كادح” يستغل نفسه، ويفعل ذلك طوعًا دون أي إكراهات من الخارج. إنه وحش مفترس وفريسة في آنٍ واحد. ورغم أن “الذات”، بالمعنى القوي للكلمة، لا تزال تمثل مفهومًا مناعيًا، فإن الاكتئاب يروغ من كل المخططات المناعية. إذ يتفجر في اللحظة التي لا يعود عندها “باستطاعة ذات-الإنجاز أن تستطيع.” إن الاكتئاب، أولًا وقبل كل شيء، إعياء خلّاق وقدرة مُنهَكة. والشكوى التي يضج بها الفرد المكتئب، “لا شيء ممكن”، يمكن أن تحدث فقط في مجتمع يعتقد أن “لا شيء مستحيل.” يؤدي “عدم الاستطاعة على الاستطاعة” إلى توبيخ ذاتي مدمر وعدوان موجه للذات. إذ تجد ذات-الإنجاز نفسها في صراع ضد نفسها، ويُثخن المكتئب بالجراح جراء حرب مستبطنة. وهكذا، فإن الاكتئاب داء مجتمع يعاني من إفراط في الإيجابية، ويعكس صورة بشرية تشن حربًا ضد نفسها.
إن ذات-الإنجاز متحررة تمامًا من أي هيمنة خارجية تجبرها على العمل، ناهيك عن استغلالها. فهي سيدة نفسها وحاكمها المطلق، ومن ثم لا تخضع لأحد، أو، حسبما يقتضي الأمر، لا تخضع سوى لنفسها فحسب. فهي تختلف عن ذات-الامتثال في هذا الشأن. بيد أن غياب الهيمنة لا يؤدي بالضرورة إلى الحرية، إنما، بدل ذلك، يجعل الحرية والإكراه متطابقين. وهكذا، تُسلم ذات-الإنجاز نفسها إلى “حرية قهرية”، أي إلى “الإكراه الحر” على تعظيم الإنجاز إلى الحد الأقصى. لكن تتزايد حدة الإفراط في العمل والأداء حتى يتحول إلى استغلال الذات لذاتها، وهو أكثر نجاعة من استغلال الآخرين لها، كونه مصحوبًا بشعور بالحرية. فالمستغِل هو، في الوقت نفسه، المستغَل، ولا يعود بالإمكان التمييز بين الجلاد والضحية. وهكذا، تنتج مثل تلك الإحالة الذاتية حرية متناقضة، تتحول فجأة دون سابق إنذار إلى عنف جراء البُنى القهرية الكامنة بداخلها. والاعتلالات النفسية في مجتمع الإنجاز إنما هي تجليات مرضية لمثل تلك الحرية المتناقضة.
- فصل من كتاب بيونج شول هان “السياسة النفسية: النيوليبرالية والتقنيات الجديدة للقوة”
- الغلاف: تفصيلة من لوحة مكتب الضبط، فرانز فالكنهاوس Franz Falckenhaus