كيف يمكنك الإمساك بشخصية فريد شوقي بعيدًا عن العناوين والتسميات الشائعة سهلة الاستدعاء عند ذكر اسم الرجل؟ فهو الملك، وشجيع السيما، وأحيانًا هو الرجل ذو الألف وجه؛ لغزارة أدواره، ففريد شوقي وحده شارك في عدد من الأفلام تزيد عن الإنتاج السينمائي للدول العربية مجتمعة.
لا أظن أن هناك ممثلاً مصريًّا تعامل مع السينما مثلما تعامل معها فريد شوقي.. الرجل الذي لا يرفض دورًا، ولا يفلتر، ولا ينتقي، فقط هو يمثل في كل مراحله العمرية، ويطرق جميع الأنواع والأدوار، بمنطق هيا بنا نمثل
ثم نرى النتيجة فيما بعد، كما قال بنفسه في أحد لقاءاته إنه في إحدى الفترات كان يحكم على الفيلم بعد مشاهدته.
فريد شوقي بلا شك امتداد لأنور وجدي؛ أحد صانعي السينما القلائل في مصر، فهو أو وجدي ليسا مجرد ممثلين خرجا من خشبات الفرق المسرحية المصرية في بداية الأربعينيات؛ بل أنتجا وألفا، وأخرج وجدي معظم أعماله.
بأي حال من الأحوال فريد شوقي ليس جان بريميه، ولم يكن ولم يحاول، على الرغم من أن عماد حمدي مدير الحسابات باستوديو مصر كان يُقدَّم في فترة ما على أنه جان بريميه؛ أو المعادل الذكوري لفاتن حمامة. وهو الفنان الرصين صاحب الأدوار الرصينة.. لو تفرَّست في ملامح وجه ملك الترسو الطويل مع الصلعة الخفيفة التي أخفتها الباروكة الأفضل في تاريخ السينما سوف تجده وجهًا غير معبر، جامدًا، ربما وجه لواء شرطة كأخيه التوأم، أو وجه مجرم عتيد الإجرام، أو مدير شركة قاسٍ… لم يكن قط وجه بطل شعبي … أظن أن ملامحه تلك هي التي عطلت تدشينه بطلاً، وحصرته طويلاً في أدوار عضو العصابة، أو الرجل النذل أو الوصولي، حتى أتت له الفرصة أن ينتج لنفسه بعد تراكم طويل وصبر يحسد عليه، وهنا صبغ فريد شوقي نفسه، ونفخ في روحه، وعثر على الصيغة المناسبة ليتعمد بطلاً شعبيًّا في فيلم حميدو، الذي تحوَّل لأيقونة شعبية وبوب كالتشر Pop Culture للبطل الشعبي الروبن هودي الخارج على القانون أحيانًا، المنحاز للضعفاء غالبًا.
بعد أدوار كثيرة أداها فريد شوقي بتكنيك الفنان الموظف الذي صُبَّ في قالب جصي كتماثيل الردهات في القصور العتيقة، متجمدًا عند تعبير واحد بحركة حاجب مخيفة، ليظهر في خلفية المشاهد يخدِّم على أبطال آخرين،
مثل يوسف وهبي وأنور وجدي في دور الأنتي هيرو، وقد أجاد لعب هذا الدور حقًّا في صراع في الوادي. ولكن الملاكم الصلب صاحب البنية القوية كان يعرف أن الجماهير سئمت أفلام القصور، وأفلام الوعظ، وأفلام الكباريهات، تزامنًا مع روح الثورة، ثورة يوليو، التي دفعت أبواقها لهبًا في عروق المجتمع المتعطش إلى بطل شعبي جديد مثل أدهم الشرقاوي. بطل رومانتيكي لا يعتمد على الوسامة، ولا على الشعر المصفوف الذي قد يطير أحيانًا في مشاهد المعارك؛ كما كان يحدث مع أنور وجدي وكمال الشناوي.. وإنما يعتمد على الخشونة الممزوجة بالجدعنة والتهكم واللزمات المتكررة التي يخرج الجمهور من ظلام الصالة يرددها في الشوارع والحارات مثل “يا عدوي!”.
القارئ المتفحص لثنايا مذكرات الملك التي أملاها على الصحفية إيريس نظمي، سيتعجب من رجل تموضع كبطل لا يهاب أحدًا، متحديًا الجميع في اختياراته لأدواره التي صنعت شعبيته، بينما هو في الحقيقة إنسان محب ينهار ويبكي بسهولة شديدة كأنه صنع من ورق.. يتحدث بلا أي خجل عن لحظات بكي فيها عندما تركته هدى سلطان، وكيف كان يطاردها من مكان إلى مكان ويسمع إهاناتها له ويستعطفها بكل رخيص وغالٍ كي تعود إليه، وهي ترفض بكل غطرسة، بل وتقول له، كما قال هو بالحرف “امشي من هنا أحسن أهزأك“. تحمل مذكراته لوعة المجروح، واعترافًا صريحًا بالانهزام أمام طغيان هدى سلطان بعبارات مترعة بالمرارة، كأنها غمست في خل مركز بنسبة 100%.. يحكي كيف نمت الغيرة في قلبه من المشاهد الجريئة التي أدتها هدى أمام رشدي أباظة في فيلم امرأة على الطريق، وكيف أنه لم يحتمل مشاهدة الفيلم الذي أنتجه بماله الخاص. وكيف أن هدى سلطان تركته يطاردها من مسرح إلى منزل إلى لوكيشن تصوير عندما شك أنها تعيش قصة حب مع المخرج حسن عبد السلام، الذي تزوجته فور رفع فريد شوقي للراية البيضاء وتوقيعه على أوراق الطلاق.
لم يكن فريد شوقي مهتمًا بالحياة الاجتماعية، كان يدفن نفسه في عمله، وفي الويسكي؛ الذي كان يُصرِّح دومًا أنه سلواه وملاذه ومهربه من عنت الحياة.. يحكي أمام المذيعة ليلى رستم أنه كان يكافئ نفسه بعد أيام العمل الشاقة بثلاثة كؤوس أو أكثر من الويسكي، بينما يحكي لإيريس نظمي أن طلاقه من هدى سلطان جعله يعب من الويسكي عبًّا لمدة شهر كامل.
لم يكن الملك الشعبي يحب حياة السهر على الرغم من حبه للشراب، وكان متشبثًا بتلابيب الحياة الأسرية المستقرة، بل إن من أسباب نشوب معارك حامية الوطيس بينه وبين هدى سلطان كان إصرارها على السهر كل ليلة في منزل نعيمة عاكف، بينما هو يبحث عن الكومفرت زون العائلي.
دفن فريد ضعفه الإنساني، الذي لم يخجل في الاعتراف به، في العمل المستمر.. لن تجد سنة واحدة في حياة فريد شوقي الفنية تخلو من عمل سينمائي أو تليفزيوني.. كان قادرًا رغم تعاقب الزمن وتغيُّر الأمزجة وتلون الشاشة على أن يبعث من رماده مرة ثانية ويدق وتدًا في الأرض.
فريد شوقي في مراحله الأولى كان سنيدًا لأساتذته يوسف وهبي وأنور وجدي، يرفع حاجبًا ويخفض الآخر، ويحدِّق في الشاشة كي يخيف المشاهد ويزرع في قلبه الرعب.. كان قبضاي من رجال العصابات مثل محمد صبيح وعلي طبنجات ومحسن حسنين. لكن مرحلة صناعة فريد شوقي البطل الشعبي تنسب لفريد نفسه في المقام الأول، وهو من قال “كل نجاحاتي التجارية صنعتها بنفسي مؤلفًا ومنتجًا، مثل حميدو وسوق الخضار وجعلوني مجرمًا وكلمة شرف وشاويش نص الليل ورصيف نمرة 5 والأسطى حسن.. إلخ“.
فريد شوقي كان يتعامل مع السينما بصدر مفتوح، كأن التمثيل عادة يومية تشبه الخروج من الفراش.. ففي أثناء مرحلة البطل الشعبي الذي يضرب كل كاركترات الفيلم، وهو يشارك في أفلام مثل بداية ونهاية وباب الحديد، وأحيانًا يختار قصصًا طريفة وذات مدلول مختلف مثل طريد الفردوس لتوفيق الحكيم، ويا للعجب، فعلى الرغم من المآخذ التي تجدها على أداء فريد شوقي النمطي في أفلامه التجارية فإنه حين يخلع رداء البطل ويصبح كاراكتر يؤديه بمهارة شديدة؛ مهارة هي خلاصة وعصارة الفتى الذي تشرَّب الفن حتى النخاع، فقد عُجِن وخُبِز وفُرد وثُني في مدارس عديدة، كمدارس يوسف وهبي والريحاني وأنور وجدي ومعهد الفنون المسرحية. فهو خريج أول دفعة في المعهد، كما أعطاه عمله في مصلحة المساحة خبرة بطبقة الأفندية البيروقراطيين، وكذلك هناك أبوه؛ الخطيب المفوَّه الذي كان يلقب ببلبل الوفد، لأنه كان يخطب في مناسبات الحزب، وهو من منح لفريد قوة الأداء.
يكفي فريد شوقي أنه استطاع إقناعك في عدة مواضع بأنه كوميديان يملك أدوات للإضحاك في المسرح والسينما، في أعمال مثل 30 يوم في السجن، والدلوعة، وشارع محمد علي. صحيح أنه لم يكن فارسير، ولكنه لم يكن عبئًا على المشهد الكوميدي.
فريد بحق ملك التراكم المعرفي وتراكم الخبرات.. فنان استوى ببطء، مثلما تطبخ قطعة اللحم، فتحول إلى جزء أصيل من كتلة السينما المصرية في جميع تجلياتها وميتامورفواتها؛ فتجده يظهر في قطع لامعة مثل السقا مات، وإسكندرية ليه، وقلب الليل. حتى عندما تدهورت الصناعة، وقلَّ الكواليتي كان فريد شوقي حاضرًا في كل الأشكال والأنماط والقوالب. بسهولة تجد فريد شوقي الذي ينتزع البكاء بتراجيدياته السبعينية الفاقعة في أفلام مثل وبالوالدين إحسانًا، ولا تبكي يا حبيب العمر. كما تجده جراند في أفلام تجارية مدوية النجاح، مثل الباطنية مع نادية الجندي، لكنك تجده بعدها مشاركًا في أفلام الموجة الجديدة في الثمانينيات ملتزمًا بقواعد الممثل الحرفي، لا يسرق لقطات زائدة، ولا يفرض نفسه، أو يعطي كتفًا لممثل في أفلام مثل طائر على الطريق، وخرج ولم يعد لخان.
ولأن فريد شوقي أسطى ومعلم الصنعة السينمائية في مصر فكانوا يتعاملون معه وكأنه البطريرك الذي يبارك أي تجارب سينمائية أو أفلام، وكأنه تميمة.. ولا أظن أن فريد رفض دورًا في حياته، وإلا لما ظهر في أواخر أيامه في أدوار تسند فنانين مثل حلمي عبد الباقي والشحات مبروك ويوسف منصور، وهي أفلام تشبه إلى حد كبير ما صنعه فريد في تركيا وفي لبنان في السنين العجاف التي عانتها السينما المصرية بسبب الحروب.
وعلى الرغم من التفاوت الملحوظ في مستوى أفلام الملك، فقد ظل متشبثًا بالوجود، وهنا من الممكن أن نستعير عنوان فيلمه “بطل للنهاية” فقد ظل فعلاً بطلاً حتى النهاية؛ وقف على المسرح بطلًا في أواخر أيامه، كما نجح تلفزيونيًّا لأنه انغمس في العمل والإنتاج، فتحوَّل إلى ماكينة هادرة، حتى وفاته كانت سينمائية؛ فشهد الرجل بأم عينيه مشهد وفاته، عندما أعلن عنه بالخطأ في التلفزيون المصري، فكان سعيد الحظ بأن رأى توافد المحبين على بيته، ويطمئن على البروفة الجنرال للرحيل.
في صحتك يا ملك.