الناس يموتون كل يوم، لكن لا تموت كل يوم كتلة من اللهب، حتى وإن أخذت نارها في الخفوت منذ فترة.. هذه المدينة تمشي بعينيها وراء النار.. وراء مشعلي النار.. ومشعلو النيران لا يعرفون سوى التعامل مع الحقيقة، حتى وإن كانت الحقيقة غريبة.. نعم هناك حقائق غريبة، في هذه المنطقة الرخوة من العالم، لا يحب الناس الحقائق، ولا يعترفون حتى بأحقيتهم العلنية في الحياة، في المتعة، في النبش بأصابع ذهبية، في الثمالة.. الناس هنا إن رغبوا أخفوا، وإن دفعوا مقابل متعتهم خبئوها في أكياس سوداء..
لهذا ثار الكلام، والكلام سهل، ليس كالفعل، كاقتناص الحيوية من فم النمور.. ثار الكلام لأن من مات هذه المرة، فاروق الفيشاوي، الذي كان يضع حقائقه في أحواض شفافة، يلعب السمك الملون داخلها، فيراه، ونراه نحن أيضًا.. نراه ولا نحب الذين يتكلمون عن الموتى مثل تماثيل المثالية أو علب الفضيلة علي رفوف المجتمع أو الذين ينتقمون من الميت لأنه لم يكن من قطيعهم البليد.. هذا سلام وداع لمغادر ستفتقده المدينة.
…
نبدأ سلامنا بآخر صورة نشرتها الشركة المنتجة لعمله الأخير؛ مسرحية “الملك لير” (ومنها أيضاً صورة الغلاف)، ثم نقرأ البورتريه الذي كتبه آدم مكيوي!
ليس من الصعب إطلاقًا الإمساك بشخصية فاروق الفيشاوي الذي رحل عن دنيانا بتمهيد؛ عندما خرج على الملأ في حفل تكريمه بمهرجان الإسكندرية السينمائي وأعلن ببساطته وارتباكه المعهود عن إصابته بالسرطان. فالفيشاوي اختار العلن في كل تفاصيل حياته، وفي كل تجلياته بلا مواربة؛ اختار أن يكون إنسان المدينة وإنسان المجتمعات؛ أي L’homme de la vie mondaine بالتعبير الفرنسي.
معتاد السهر دائمًا ينتقي مكانًا مفضلاً يتحول بحكم العادة والروتين إلى مقصده اليومي أو الأسبوعي، ويصبح المكان الذي يرتاده هو وأصدقاؤه، وعندما يكون هذا الشخص مشهورًا يصبح علامة من علامات المكان، أو بلغة أهل الفن راكور من راكورات المكان. الفيشاوي لم يكن كذلك.. كنت تجده في معظم أماكن السهر على اختلاف روادها؛ فتجده في مكان كلاسيكي به بيانو هادئ، وتجده في مكان شديد الصخب، كما تجده أيضًا في مكان رواده من الشباب وصغار السن. والرجل ببساطة شديدة يتفاعل ويبتسم ويندمج ويشتبك بالمزاح، لا ينتحي، ولا يتخذ لنفسه ولرفقته ركنًا، بل تجده يتحول في دقائق معدودة إلى جزء من المكان.
ينصت إليك باهتمام شديد، وعلى وجهه دائمًا مزيج من الفضول والابتسام، ولو وجدك خجولاً أو متلعثمًا بادر بإكمال العبارة لك، ليخرجك من ارتباكك، وهنا أحد مفاتيح هذه الشخصية ذات الصدر الوسيع.
فاروق ابن الريف كان مُصممًا By default ليكون ابن المدينة، وابن المتروبول الذي يجول بسيارته في عادة إسبانية شهيرة هي الـ Hopping أو التنقل بين عدة أماكن من باب قطف زهرة من كل بستان، أو كما كان يقول فاروق بنفسه لمحيطيه “ربما فاتني مشهد هنا أو فاتنة هناك أو موقف أندم أنني لم أحضره“. هذه الروح القلقة الهائمة هي إحدى سمات شخصية فاروق الذي تعرَّض لعثرات وارتباكات عديدة على مدار عمره، لكنها لم تخرجه قط من دائرة الضوء، ولم تجعله يتكهن في أرشيف النوستالجيا، بل كان قادرًا على مناطحة أمواج الزمن المتلاطمة. وربما أيضًا من كفل له الاستمرار في منطقة الوهج هو ابنه أحمد؛ الذي تسلم راية أبيه، وبرعونة أكبر..
في وقت ما كانت تتباهي أماكن الليل والمطاعم الجديدة بأن فاروق حضر الافتتاح؛ فهو بمثابة البابا الذي سيبارك المكان الجديد، حتى وإن أغلق أبوابه بعد أشهر بسبب عزوف الزبائن تظل صورة فاروق في مشهد الافتتاح جاذبة للزبائن من النظرة الأولى.
وعندما سئل عن سر اختياره لبيت على أطراف المدينة وهو رجل الصخب والصحبة والضجيج بامتياز رد أنه في لحظة يحب الهرب، لأن حياة الليل تراكم المشكلات وتراكم الأوجاع كما تراكم الضحكات والمتع.
من عادات مشاهير الفن أن ينتقوا أماكنهم بعناية، بعيدًا عن الفضوليين ومضايقات العامة، ولكن في حالة الفيشاوي يحدث العكس؛ فهو يختار بعشوائية وبلا انتقاء، ويحلِّق هنا وهناك، ومثلما تجده في رستوران فايف ستارز مطل على النيل، قد تجده جالسًا على كرسي في ندوة لتكريم سيد حجاب، أو واقفًا بترننج سوت في مظاهرة في الثمانينيات أمام المعبد اليهودي بشارع عدلي، أو في النادي النهري بالنقابة، وفي أماكن عدة يصرخ “تسقط إسرائيل“، بينما احتاج عادل إمام وقتها لأن ينتظر الحزب الوطني لينظم مظاهرة أو كرنفالاً تظاهريًّا بالاستاد كي يتخذ موقفًا ومن شارون ومن بعده.
فاروق وعادل كانت بينهما مناوشات… بدأ فاروق بالقصف عندما قال “لا يصح أن يخرج عادل إمام ليقول لهالة سرحان شوفي أفلامي حتعرفي تاريخ مصر… تاريخ مصر أكبر من أفلامك“.. وقتها كان عادل قد صرح بهذا منتشيًّا بأفلامه التي كان يفصلها له يوسف معاطي، وتتناول عناوين وقضايا مثل التطبيع والفتنة الطائفية والإرهاب.
في أثناء تكريم عادل إمام أصر ألا يدعى فاروق، ولكن فاروق اتساقًا مع طبيعته ذهب إلى التكريم دون دعوة، وصعد على المسرح وأذاب الخلاف في ثانية واحدة، بحضوره المسرحي القادر على خطف الكاميرا.
لا أظن أن الفيشاوي كانت له معايير محددة في اختياراته الفنية التي تتراوح ما بين الجيد والمتوسط والرديء… فمن الممكن أن تجده في أفلام مثل المشبوه ندًّا لعادل إمام، أو في مسلسل مثل على الزيبق، يحقق نجاحًا هائلاً، أو في أدوار تثير الاهتمام مثل شارع السد وليه يا بنفسج والتحويلة والشرف وسوق المتعة وألوان السما السابعة، وغيرها، أو يربط نفسه بنادية الجندي في معظم أفلامها الناجحة، كأنه المعادل الذكر لنجمة الجماهير في 10 أفلام حققت علامة في تاريخ السينما التجارية لشعبية نادية؛ مثل الباطنية وملف سامية شعراوي والإرهاب، على الرغم من أن فاروق المحبوب لم يكن في يوم من الأيام نجم شباك.
فاروق هو الابن الفني المباشر لفريد شوقي.. وفريد كان يصر على أن يكون مع فاروق، والعكس أحيانًا ربما السمة المشتركة بين الاثنين هي المجاملة الفنية، أو التعامل مع الاختيارات بمنطق المتاح، فمن الممكن في العام نفسه أن تجد لأحد منهما فيلمًا له قيمة فنية أو جماهيرية، وبجانبه ربما في السينما المقابلة فيلمًا شديد السوء، أو مسلوق على عجل، كما أن مساحة فاروق أو فريد في أفلام أواخر الثمانينيات والتسعينيات تختلف من فيلم لأخر أيضًا، كأن دافعهم الأكبر هو الوجود أو المجاملة أو الحاجه الملحة للمال… فرصيده من الأعمال التي تفوح منها رائحة المجاملة أو السلق كبير، له أفلام مثل تعالب أرانب، وإحنا بتوع المطار، ورجل مهم جدًا، والخطيئة السابعة، واليتيم والذئاب، وأبو زيد زمانه، بها طعم ونكهة أفلام المقاولات.
وعلى الرغم من حضوره المتميز على المسرح في مسرحيات مثل البرنسيسة والمونولوجست والناس اللي في التالت وأنا ف الحكومة، فإن رصيده المسرحي لا يتناسب مع حجم موهبته، ربما لأن الالتزام المسرحي لا يتوافق مع طبيعة الحياة البندولية غير المستقرة التي انسحبت على كل حياته.
هو ورفيقه عمره سمية الألفي شهدت علاقة حبهما البادئة في السبعينيات علاقة مد وجذر.. علاقة بندولية تروح وتيجي. الحب بدأ في الإسكندرية متقلبًا مثل البحر، لكنه لم ينته على الرغم من الطلاق المتكرر، وزيجات وعلاقات فاروق التي كان يعلنها على الملأ. فقد شهد هذا الحب الرومانتيكي حالات استثنائية من التراحم والمودة والوقوف في المحن. كما جمعهما الاتفاق على الأفكار الثورية الرومانتيكية، وعلى حب عبد الناصر كأيقونة رومانتيكية كعادة جيل السبعينيات؛ الذي كان ينظر إلى المرحلة الناصرية كمرحلة المد الثوري ومقاومة إسرائيل وأحلام العدالة الاجتماعية، لذلك لم يكن مستغربًا أن تجد سمية الألفي في فترة احتجابها بسبب أوجاع المرض تكتب عن حبها لعبد الناصر ولفاروق الفيشاوي، كأنها ترسم خيطًا خفيًّا بين الاثنين.
في وقت ليس ببعيد، أو ربما قد أصبح اليوم بعيدًا، وقبل انزراع أطباق الدش فوق أسطح عمارات مدننا المنهكة، ومن بعدها في الريف وسط الغيطان كان هناك الإريال.. ولكي تحصل على صورة مثالية كان يجب عليك أن تصعد فوق السطح وتحاول أن تعدِّل من اتجاه الإريال لكي يلتقط لك صورة واضحة ثابته، ولكن كثيرًا ما كان الهواء يعبث بالصورة ويجعلها تهتز وترتبك، وهذا ما حدث؛ عاصفة علاقة أحمد الفيشاوي بهند عصفت بصورة الأب الذي خرج في برنامج لمن يجرؤ فقط عام 2005 يهاجم والد هند الحناوي، مهندسة الديكور التي أعلنت أنها كانت مرتبطة بأحمد الفيشاوي وأن العلاقة أثمرت عن طفلة… هذه العاصفة أربكت حياة الفيشاوي كما أربكتها تجربة الإدمان الذي خرج ليتحدث عنها بكل جدارة وعن كيفية تعافيه، لكنه فقد شجاعته، وهزم أمام شعور الأب، فخرج يجابه الحناوي على الهواء بصلف غير معهود منه، حتى أجبر على الانسحاب بعد أن تكسرت نصال سيفه، وبدا يومها كلاعب شيش مهزوم خرج من الحلبة يجر أذيال الخيبة… الغريب أنه بعد انسحب من الحلقة عائدًا إلى مدينته المفضلة القاهرة بعد المشهد غير المرضي يذهب ليلبي نداء المزاج الذي تعكَّر، ليواجه اتهامًا بمحاولة تهريب الحشيش من مطار رفيق الحريري، وهو الاتهام الذي أنكره في عدة مواضع، ولكن يقول الخبثاء من أصدقائه أنه وعدهم عند العودة بتجربة الصنف اللبناني، لكن هذا الوعد على صخرة الأمن العام اللبناني.
حمدًا لله لم يثبت فاروق طويلاً على عناده، فاعتذر علنًا مرارًا وتكرارًا عن حادثة الحناوي، فسريرته الطيبة لم تكن تقبل بأن يلفظ حفيدته، واليوم بعد رحيله ترثيه الحفيدة برثاء رقيق، يثبت أن الجد قد عوضها عن خطئه وخطأ الابن، مع أنه حتى اليوم لا يزال يرجم بالحجارة بسبب ما حدث.
في مراحل كثيرة من عمره عاش حياة البرجوازي الهلاس اللا مكترث من فوق السطح ولكن من داخله كانت تغلب عليه شخصية الرجل الاجتماعي البسيط صاحب القضية رافض الظلم. لم تكن القضية عند الفيشاوي قابعة في نيش شقته الخشبي كخلفية لفوتوسيشن المواسم الوطنية الحنجورية، بل كان مؤمنًا بما يقوله من شعارات كانت تخرج أحيانًا كهتافات ساذجة أو منمقة، ولكنها لم تكن زائفة.
لقد عاش الرجل حياته حتى الارتواء Fully، ودفع أثمان تهوره في أحيان كثيرة، وكان قادرًا على المفاجأة والإرباك، وهذه المتناقضات هي التي جعلته يبدع في لحظات ويتوهج وينطفئ في لحظات أخرى.
وكما قال شارل ترينيه سيمسح البحر آثار الأقدام وسيبقى المعنى.. سيمحو البحر كثيرًا من تفاصيل حياة فاروق بمرور الزمن، وستبقى أفلامه، منها ما سيعيش ومنها من سيعاد اكتشافه؛ كما أعيد اكتشاف فيلمه الذي أنتجه وقام ببطولته “مشوار عمر” مؤخرًا، في سياق حالة الاندهاش والكشف بعد أن مر مرور الكرام عند عرضه عام 1986.