جلال أمين مفكّر الشرائح الجديدة من الطبقة الوسطى في مصر. طبقة تبحث عن مصالحة مع المجتمع ومع تاريخ ثقافي مقطوع بانهيارات مشاريع ثقافية كبيرة. الشرائح الجديدة استفادت من تراكم أموال الانفتاح، وحصلت على فرص تعليم في الجامعة الأميركية، حيث كانت هناك مجموعة متميزة من الأساتذة، مثل جلال أمين، أدى أفرادها دور المرشدين الثقافيين إلى مصير آخر غير أمراض الثروات المرفّهة؛ المخدرات أو الهوس بحياة أميركية مستوردة بالكامل إلى قلب القاهرة. هؤلاء هم جمهور جلال أمين من شرائح مفتونة بالجمع بين فكرتين: التعليم على «الموديل» الغربي، ونقد التغريب بحدّة وعنف. يقفون في المسافة بين الإعجاب بمهاراتهم العلمية ورغبتهم في حياة تناسب تلك المهارات من جهة، ومحاولة التواصل مع مجتمع مغلق على هزيمة ثقافية عميقة. هذه الشرائح خلقت نجومها وكتّابها ومفكريها بشكل لافت ، في السنوات الأولي للألفية الثالثة. قفزت شهرة جلال أمين عشرات الدرجات مع كتابه «ماذا حدث للمصريين..؟» (صدرت طبعته الأولى عام 1998) . شهرة الكتاب غطّت على أعماله السابقة التي تناولت غالبًا مفاهيم اقتصادية مثل الماركسية والاشتراكية، وديون مصر الخارجية والسكان والبيئة. أنه الكتاب الأول في اكتشاف الجمهور الجديد، المتشوق إلى ثقافة تلبّي احتياجات مزاجه الغاضب مما يحدث حوله، والمتطلّع إلى نقد حارق؛ لكن دون تورّط في عمل سياسي مباشر. وهنا يكمن سرّ نجاح كتابات جلال أمين الميالة إلى تأمّل المشاهد العابرة وتطوّر العادات الاجتماعية، وهي كتابة ليست منتشرة في الثقافة العربية. وفي الخانة نفسها يمكن تصنيف رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان». وليست مصادفة أن الدكتور جلال أمين هو من أكبر المتحمّسين لكتابة الأسواني؛ فجمهورهما الأساسي مشترك، ومن تلك الشرائح الباحثة عن «تاتش» من النقد السياسي، مع استعراض تاريخي يثير النوستالجيا النائمة إلى مجد الطبقات الوسطى المتعلّمة في الأربعينيات. هناك قاسم مشترك آخر بين أمين وعلاء، هو وراثة العمل الثقافي: فهما ينحدران من أبوين مثقفين حقّقا الحدّ المعقول من شهرة كانت وراء رواج فكرة الكتابة والقراءة في العائلات. أمّا الفكرة الرئيسية في فكر جلال أمين (وروايات علاء الأسواني أيضًا) فرومنطيقية، تلعب على وتر واحد: إن المعاني الجميلة ذهبت مع الرياح الجديدة. ومن الطبيعي أن تلمع هنا فكرة المؤامرة الثقافية كتفسير لكارثة الضياع. فالمؤامرة تلبّي إحساسًا غامضَا لدى الشرائح التي تشعر بأنها جديرة بحياة مختلفة، وفي الوقت نفسه تتصالح مع ما تسمّيه عادةً «موروثات» مجتمعها: ثقافة عصريّة… لكن محافظة! غربية، لكنّها تضع الحجاب، تكره التطرف وتروج لفكرة الاعتدال. هذه الثقافة المتصالحة مع صورة معيّنة للمجتمع، تخلق جمهورًا متماسكًا قادرًا على تحقيق الرواج لمفكرين وأدباء، ولإنتاج سينمائي يمثّل حاليًا «إعادة إحياء الثقافة»، كما تسمّى في الصحف السيارة. ثقافة تطمئن المثقّف إلى ما يعرفه، وهذا سر إعجاب جلال أمين بمقولة جورج أورويل الذي يرى أن الكتاب الجيد هو “الذي يقول لك ما كنت تعرفه من قبل“. جلال أمين معجب بمقولة أورويل التي تروّج لفكرة خاصة به، وهي أن “أفضل الأفكار وأهمّها أبسطها وأسهلها” وبالتالي، ليس غريبًا أن تطرأ على أذهان كثيرين، فيأتي الكتاب الجيد لتأكيدها وتوضيحها. جاءت هذه الفكرة في نهايات كتابه «ماذا علّمتني الحياة؟» (دار الشروق)، وهي سيرة ذاتيّة كما هو مذكور على الغلاف، لكنّها تعيدنا إلى شكل قديم من السيرة، يبحث فيه الكاتب عن حكمة ترضيه، وتلائم نظرته إلى الكتابة والثقافة، بل تؤيدها. سيرة تبحث عن حكمة العمر، ولا تكتشف سيرة الشخص، أو تضع له مرآة تقلق مسيرة حياته. أنه شكل من السيرة يتجاهل ما وصلت إليه سير الكتّاب في العالم (من جرأة في الاعترافات والاكتشافات المدهشة). سيرة تدور حول نوع خاص من الحكمة، لا يصل إليها سوى شخص واحد. الاعتراف الوحيد لجلال أمين هو أن “الجمهور غالبًا على حق“. وهي رؤية عبّر عنها عندما رأى أنه ما دام الجمهور أحبّ فيلم «إسماعيلية رايح جاي» (وهو أول فيلم في موجة أعمال الكوميديا السهلة التي حقّقت صدمة في الإيرادات، وفتحت الباب أمام نجومية محمد هنيدي)، فإنه “فيلم جيد“. ترفض كتابة جلال أمين الصدمات الكبيرة. صورة غلاف كتابه الجديد للعائلة الكبيرة، يتوسّطها الأب والأم غائبة. وفي الكتاب مديح لترابط العائلة والإخلاص لزوجة واحدة. وعلى الرغم من أن جلال أمين انضمّ إلى فرع حزب البعث في مصر، وظل معجبًا لفترة طويلة بميشيل عفلق، وهو ما يعَدُّ مغامرة في ظل سطوة الناصرية، إلا أنها المغامرة الوحيدة في حياته التي يتصوّرها كما ورد في الغلاف الأخير للكتاب. وليس غريبًا هنا أن يشعر جلال أمين وهو في السبعين، لحظة كتابته لسيرته. بـ“خيبة أمل” على عكس والده الذي كان سعيدًا بحياته. فالمسافة بين الأب والابن كبيرة. الابن ليس قادرًا على نقد الأب الذي تخلّص من عمامة الأزهر، على الرغم من أنه كان ابن عصره ومحافظًا بطبعه ورجلاً “شرقيًّا” في بيته. أما الابن فمختلف: عصري أكثر. أسرته منفتحة، وحياته مريحة أكثر. لكنّه يشعر بخيبة أمل، لماذا؟ لم تهتم سيرة جلال أمين بتفسير السبب؛ اهتمت بإعلان الخيبة فقط. كأنه اعتراف نفساني مريح، وملائم للشرائح التي راجت أفكاره بينها… شرائح تريد أن تكون طبقة وسطى صالحة، بغريزتها ونزعتها العاطفية… لا بأفكار تقترح نهضة جديدةً. ولا نكشف سرًّا إذا ذكّرنا بأن النهضة ابنة الجرأة، والصدام مع الأفكار المستقرة!
*الصياغة الأولى 2007