يوميات سائق جرافة

القاهرة ٢٠٢٣

جليلة القاضي
جرافات الهدم في القاهرة - تصوير أحمد طارق

السبت


أخبرني جاري الموظف في المحافظة، أنهم بحاجة إلى سائقين بلدوزر وسوف يحصل المتقدمون على دورة تدريبية مدفوعة الأجر. صار لي عدة أسابيع دون عمل إثر الحادث المروع الذي حوَّل مصدر رزقي، التوكتوك الذي وضعت فيه كل مدخراتي، إلى كوم صفيح. قفزت منه في اللحظة الأخيرة، تاركا إياه وحيدًا في مواجهة قطار السكة الحديد. خرجت من هذه الحادثة سليمًا، دون أدنى خدش، لكن كسير القلب فاقدًا للروح ولقمة العيش. نزل على هذا العرض كطوق نجاة. نمت وأنا أحلم بنصف كيلو كباب من لحم القطط والكلاب الذي تبيعه لأهل الحارة أم بوقه صاحبة عربة الطعام المتهالكة الرابضة على الناصية.

 الأحد


أخبرني جاري في الصباح الباكر، ونحن في طريقنا إلى المحافظة أن “أمي داعية لي”، لأنني سأشارك في مشروع قومي ضخم أعظم من السد العالي. غادرني عند باب القاعة التي تجمع فيها المتقدمون للمهمة. أعطونا استمارات لملئها. كتبت في خانة الخبرات السابقة أني تعلمت في التجنيد قيادة المصفحات والمجنزرات وحتى الدبابات، وأن التوكتوك هو أصغر مركبة قدتها. كنت أول من سلَّم الاستمارة بعد ملئها بخط منمق، فأنا حاصل على الإعدادية وكنت مولعًا بالخط العربي، فنان بشهادة أساتذتي، وكدت أمتهن مهنة خطاط لكن الظروف اختارت لي طريقًا آخر..
بعد انتظار لساعات، حضر موظفون من البلدية، نادوا على أسماء، وكان اسمي من ضمنها، وصرفوا باقي المتقدمين. حبست فرحتي التي كانت على وشك الانفجار في قلبي لكوني من المتميزين. توجهنا إلى مخزن في المحافظة لقياس زي العمل الجديد وتسلمه. مررنا بعد ذلك على الخزينة لقبض اليومية. عدت إلى الحارة في العصر مرفوع الرأس. 

الاثنين


استيقظت في الفجر، ارتديت أوفرولي الجديد، وأنا لا زلت غير مستوعب لأحداث أمس. التقيت جاري أمام المنزل، مشينا معًا حتى رأس الحارة ثم افترقت طرقنا. توجهت إلى جبل المقطم في أول أيام التدريب العملي على الجرافة. تذكرت بعض المشاهد التي رسخت في ذهني طفلاً عن هذه الآلات الجهنمية المزودة بذراع فتاكة تنتهي بخطاف مدمر وهي تكر وتفر وتدور حول نفسها، ثم تنقض على حجارة الجبل لتفتتها من أجل ملحمة بناء السد التي غنيناها مع عبد الحليم، نعم بنيناه بأدينا. أنا أيضًا سأشارك في بناء جديد سيتحدث عنه أولادي وأحفادي.
أظهرت مهارة بارعة في فهم شفرة التحكم في الجرافة وقيادتها، مما دفع المشرفين على التدريب لإرسالي إلى الموقع من الغد.

الثلاثاء


مشاعر متناقضة تتنازعني وأنا في طريقي إلى قرافة الإمام الشافعي؛ الفخر بالمشاركة في مشروع قومي كما شرحوا لنا أمس، سيضع مصر في مصاف الأمم المتقدمة، والخوف من غضب الله لتدنيس المقابر. لكن، ألم يقل لي إمام الجامع أن البناء على القبر يحرمه الدين، مؤكدًا أن هذه الحجارة كأصنام الكعبة أمرنا نبينا بتحطيمها. نعم، يجب تحطيمها ومساواتها بالتراب، حتى لو كان بعضها يحمل خطوطًا جميلة مذهبة انبهرت بها صبيًّا يرافق أمه إبان زياراتها لضريح الإمام الشافعي للتبرك والدعاء. شاهدت مثيلتها في مدافن كالقصور تعج بها الشوارع المحيطة بضريح فَقِيه الملة، شابًا بالغًا يرتاد غرز الحشيش المنتشرة في المنطقة. سبب آخر يبرر التخلص من هذه المناطق الموبوءة.
كنت في طلائع جحافل الجرارات التي انتظمت في صفوف متوازية كالدبابات في أرض المعركة، انطلق نداء الهجوم فانقضضت على الحجارة شاهرًا ذراع الجرار الفتاكة، أتقدم خطوتين، أتراجع وأحرك الذراع وأوجهه بغل لينتزع قبة أو شاهد رخامي، تتبعثر أشلاؤه على الأرض وتتطاير منه الأحرف المذهبة ثم تلتم مكونة كلمات موجعة: دك، دنس، دهس، فعص، جرف، هدم، حرم… أراها بوضوح رغم التراب والعفر فتزيدني شراسة وإصرارًا على الدمار.  

الأربعاء


عند استيقاظي، بادرتني زوجتي قائلة إنني كنت أهذي في منامي بكلمات غير مفهومة، وأصارع قوى خفية، ولم أهدأ سوى في الفجر… صليته قضاءً وتوجهت إلى الموقع وأنا مدفوع بقوة خفية وسادية لم أعهدها في نفسي من قبل، لاجتثاث الأصنام الآثمة، لتنظيف المنطقة من دنسها وإحلال حدائق ظليلة يانعة الخضرة، وملاهٍ وبحيرات يلهو فيها بؤساء المدينة أمثالنا. أبليت بلاءً حسنًا في اليوم الثاني للمعركة. عند انتهاء العمل، وقفت أتأمل الموقع، بدا لي كمدينة تعرضت لقصف مركز من طيران قوى معادية. دفعني فضولي لتفقد أحد الأحواش المهدمة التي أزلتها بقسوة. وقفت بين الأطلال انظر بهلع إلى ما كان منذ عدة ساعات صروحًا هائلة، مشيدة بالحجر من عشرات السنين، أمتن من بناياتنا المتهالكة، ما زالت تقاوم الزمن بشموخ، ويمكنها أن تعيش عشرات بل مئات السنين… في الداخل، تزين جدرانها وقبابها نقوش ملونة جميلة تتخللها آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة. أدهسها الآن بقدميَّ… ارتعدت أوصالي خشية غضب الله، أخذت اقرأ الفاتحة طالبًا السماح والمغفرة… فجأة، قام من وسط الأنقاض هيكل عظمي، تبعه آخر، ثم آخرون.. عشرات من الهياكل العظمية تتوجه نحوي فاردة أذرعها، شل الخوف حركتي تمامًا، انقض علي جيش الهياكل، انتزعوني بغلظة، قذفوا بي في فوهة أحد المقابر المفتوحة التي أخرجوا منها وأهالوا عليَّ الحجارة المفتتة…

الخميس


استيقظت منهكًا بعد صلاة الظهر. حانت مني التفاتة إلى الشاهد الحجري الذي يقبع بجوار فراشي. أهداني إياه المسؤولون لحسن أدائي في تحطيم الأصنام… تحسست أحرف الخطوط البديعة المنقوشة على سطحه… تراءى لي وجه باكٍ لطفل مولع بالخط العربي يتشبث بيد أمه وهي تبتهل في رحاب ضريح عالم العصر الإمام الشافعي. كان النص المنقوش بثلاث لغات، العربية بالخط الكوفي المربع، طالما نسخته في صباي وشبابي، والهيروغليفية والقبطية، يحمل نفس الرسالة: “أيها المار بقبري، ادع لي بالغفران والسكينة في مرقدي ولروحي السلام في العالم الآخر”.
أترقب بلهفة ووجل وضمير ميت، خطاب استدعائي للجولة الثانية.