في عام 1963 اجتمع الثنائي “دين كاي” و”كيلي جوردن”من أجل ممارسة نوع مميز من الفن يعرف بكتابة الأغاني. كان نتاج ذلك التعاون أغنية “That’s Life”. مرت فترة قبل أن يجلسا في ستوديو “كابيتال ريكوردز” ليتابعا أداء مغنية الـجاز الأمريكية “ماريون مونتجمري” لأغنيتهما بأعين وآذان حالمة. لاحقًا في الأشهر التالية تابع الثنائي قائمة الأغاني الأكثر شعبية بتطلعات كبيرة ظلت تنطفئ تدريجيًّا مع غياب أغنيتهما عن أي موضع هناك.
احتاج “كاي” و”جوردن” إلى عامين من أجل ابتلاع تلك الهزيمة وهضمها، ثم المحاولة من جديد، وهو ما تحقق بالفعل حين شاهدا أغنيتهما ترتقي في القائمة المقدسة عن طريق نسخة أخرى بصوت الفنان “أو. سي. سميث”. كان ذلك بالتأكيد النجاح الكبير. الرحلة المعتادة للفنان في خلق عمل إبداعي يظن بأن له قيمة ما، ثم يتابع بعد ذلك العالم لا يعبأ بما قدمه وبه أيضًا. يتساءل عن جدوى ما يقوم به، ولم يقوم به؟ وهل هو حقًّا ذو قيمة؟ هل يقوم بما يقوم به من أجل الفن والشغف؟ أم أنه ينتظر سماع اسمه ينادى عبر مكبر صوت متبوع بأصداء التصفيق الحار. يجلس وحيدًا بداخل رأسه، ينتظر في حيرة مرآة تعكس له الإجابات. كانت المرآة في سيارة “فرانك سيناترا” بينما يقود، في يوم آخر من حياته التي تصادف أن تحدث في عام 1965 والراديو يبث صوت “أو. سي. سميث”. توقف “سيناترا” ليستمع إلى الغناء حتى نهايته، ثم هاتف ابنته لتتواصل مع مالكي الأغنية موضحًا أنها أعجبته ويريد أن يسجلها بصوته. وهو ما تم بالفعل. كان هناك آخرون في العام ذاته لم يتوقف من أجلهم “سيناترا” أو غيره. لم يكن لهم مرآة ولا إجابات.
“That’s Life”
That’s life (that’s life), that’s what all the people say
You’re ridin’ high in April, shot down in May
But I know I’m gonna change that tune
When I’m back on top, back on top in June
على بُعد أكثر من أربع وخمسين عامًا في المستقبل، وأقل من سبعة آلاف ميل من نهاية مكالمة “سيناترا” مع ابنته في نيوجيرسي بالولايات المتحدة، كنت أجلس في منتصف قاعة – في منطقة المنيل بالقاهرة – ممتلئة عن آخرها بشباب بينهم سبع فتيات، بدا ذلك التوزيع منطقيًّا في الثانية بعد منتصف الليل. مئة وثمانون زوجًا من العيون تنظر تجاه شاشة كبيرة تعرض صورة رجل يرقص نصف عار أمام مرآة في حمام منزله، بينما يسكب عشوائيًّا صبغة خضراء على شعره الطويل المتناثر، وفي الخلفية صوت “سيناترا” يغني كلمات وألحان الثنائي “كاي” و”جوردن”.
كانت الصورة على الشاشة من نتاج تعاون ثنائي آخر، في نوع آخر من الفن. الرجل الراقص يدعى “واكين فينيكس”. وكانت صورته هناك لأنه كان فنانًا، وتلك كانت طريقته في خلق إبداعه الخاص؛ أن يرقص على أنغام أغنية أمام مرآة، مدعيًّا أنه شخص آخر؛ شخص من أفكار وتصورات كتبت سابقًا نتيجة لتراكم خبرات ورؤى انتهى بها الأمر لتستقر في عقل “تود فيليبس“؛ الرجل الآخر في الثنائي المشار إليه هنا. والعالم على الجانب الآخر متمثلاً في الحشد أمام الشاشة يتابع مشدوهًا، مانحًا ذلك الثنائي “فينيكس–فيليبس” الإجابات الكافية لمدى جدوى ما يقومون به، ذلك الفن المميز الذي يعرف بالسينما.
I said that’s life (that’s life), and as funny as it may seem
Some people get their kicks stompin’ on a dream
But I don’t let it, let it get me down
’cause this fine old world, it keeps spinnin’ around
التقى “جون لي بوتوم” و “أرلين فينيكس” في عام 1968، وبزواجهما في العام التالي اختارا اسم “فينيكس” كنية لعائلتهما الجديدة. أنتجت جيناتهما المشتركة خمسة أبناء على مدار تسع سنوات. على الرغم من صعوبة أحوالهم المعيشية ازدهر نتاج العائلة من البداية، فقد كان “ريفر” الابن الأول من أفضل مواهب التمثيل الشابة في جيله، وحصل على ترشيح للأوسكار وهو في التاسعة عشر. منح “ريفر” أخاه الأصغر “واكين” شيئًا كبيرًا يتطلع إليه، ولم يضع “واكين” الكثير من الوقت في التطلع والأحلام، فبعمر الثمان سنوات ذهب إلى تجربته في الأولى في التمثيل في مشاركته بحلقة من المسلسل التلفزيوني “Seven Brides for Seven Brothers” ومرت فقط ثلاث سنوات قبل أن ترى عائلة “فينيكس” ابنيها مرشحين لجائزة أفضل فنان شاب في عمل تلفزيوني عن مشاركتهما في العمل “Backwards: The Riddle of Dyslexia” ثم خمس سنوات أخرى ليحصل “واكين” بمفرده على ترشيح مماثل عن الفيلم السينمائي “Parenthood” عام 1990.
في اليوم الأخير من أكتوبر 1993 انتزعت جرعة زائدة من مخدر “سبيدبول” (مزيج من الهيروين والكوكايين) “ريفر فينيكس” من بين عائلته إلى الأبد. سقوط آخر معتاد من السماء اعتادت الحياة أن تمنحه لقاطنيها حين يظنون بأن كل شيء على ما يرام. تجرع “واكين” المأساة لمدة عام من اعتزال العالم، قبل أن ينهض في كفاح لاستكمال مسيرته الفنية، كانت تلك محاولة يائسة تمنحه وعائلته بعض العزاء. مضت ست سنوات على الحادثة توجت في نهايتها بذلك القرار؛ حين ظهر اسم “واكين” في قائمة ترشيحات الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن مشاركته في فيلم “Gladiator”. الإنجاز أعاد ذكرى الأخ الأكبر، وربما مر تساؤل في لاوعي “واكين” الصغير، هل ملأ حقًّا ذلك الفراغ؟
ذرات الشك السابحة في عقل الفنان تقتله كل يوم، رأى “واكين” نفسه الثانية في عائلته، خلف أخاه “ريفر” منذ نقطة بدايته الفنية، وها هو الثاني مجددًا عند أعلى نقطة في حياته المهنية خلف “راسل كرو” في فيلم العام 2000.
تَلت تلك اللحظة لحظات أخرى كبيرة ومشابهة، عشرة ترشيحات بين الأوسكار والجولدن جلوب والبافتا، في مطلع يناير عام 2006 جلس “واكين” بين حشد رفيع في قاعة الاحتفالات بفندق بيفرلي هيلز في لوس أنجلوس يتابع بأعين حائرة “جون ترافولتا” يتلو أسماء المرشحين للفوز بجائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل في عمل كوميدي أو غنائي. مارس “واكين” في العام السابق الكثير من الرقص والغناء أمام الشاشة في محاكاة لحياة المغني الأمريكي “جوني كاش”. في كل الترشيحات السابقة والتالية لهذه الليلة في مثل تلك المناسبات الكبيرة، استمع “واكين” إلى اسمه يُتلى مرة واحدة، إلا في تلك الليلة سمعه مرتين؛ تلت المرة الثانية أصداء التصفيق الحار.
“شقيقاتي، عائلتي كلها جاءت إلى العرض الأول. وفور عودتنا إلى المنزل دخلن في نقاش ساخن عن الفيلم وعما كان يعني، ماذا كان حقيقي أو غير حقيقي؟ كان شيء ممتع بالنسبة إلى مشاهدة ذلك. أعتقد بأنهن حقًّا انجذبن في ذلك النقاش بطريقة لم أرها من قبل تجاه أي من أفلامي السابقة. هن لم يرين أفلامي الأخرى (يضحك). أعتقد أن شقيقاتي لم يكن لينجذبن بمثل هذه الطريقة إذا كن شاهدنها.”
1 أكتوبر 2019 – حوار”واكين فينيكس” في برنامج “جيمي كيميل” (ثلاثة أيام قبل طرح فيلم “چوكر” رسميًّا في السينما).
بخلاف شقيقاته الثلاثة لواكين أخت غير شقيقة من والده تدعى “جودين”؛ ولدت في 1964 وهو نفس عام طرح أغنية “That’s Life”
I’ve been a puppet, a pauper, a pirate, a poet, a pawn and a king
I’ve been up and down and over and out and I know one thing
Each time I find myself flat on my face
I pick myself up and get back in the race
عاشت السينما حياة امرأة جميلة، ولدت وترعرعت في بيت ميسور لأب وأم منحاها كل ما يملكا. كان اللقاء الأول بين الكتابة والتصوير شاعريًّا بدرجة كبيرة، اكتشفا فيه على الفور مدى الإمكانات التي سيتيحها مستقبل اندماجهما من أبناء وأحفاد. منحت الكتابة المعنى الروائي إلى الصور، وقدم التصوير الواقع المرئي مهرًا يليق بالكلمات. وكان نتاج ذلك الزواج الفني ميلاد السينما.
حاول الأبوان منح أجزاء أخرى من روحيهما لأبناء آخرين مثل التليفزيون والقصص المصورة، ولكن ظل الجزء الأكبر يذهب إلى الابنة الكبرى المدللة. كبر الأبناء وظلت تجمعهم مشاعر الأسرة الواحدة، وتجدد العطاء ليشهد تبادل بينهم ساعدهم وساعد الكثيرين في مواجهة الأيام السيئة في العالم.
أحد مسارات العطاء المتبادل بدأت في أبريل 1869 حين نشر الشاعر والروائي الفرنسي “فيكتور هوجو” روايته “الرجل الضاحك”. تحكي الرواية قصة “جوينبلين” الطفل الأصغر لأحد النبلاء يدعى لورد “كلانشارلي”. كان اللورد يهتم بالرعاية والتواصل مع الطبقة الكادحة، الأمر الذي لم يعجب البلاط الملكي، ومع تصاعد الخلاف، وبوشاية من مهرجه انتهى الأمر إلى إعدام “كلانشارلي” حفاظًا على منع بذرة الصلة الإنسانية تلك بين الفقراء والأرستقراط. كان مصير “جوينبلين” الصغير أقل سوءًا بقليل من مصير أبيه، فقد شوِّه وجهه ليصبح فمه يبدو وكأنه مبتسم على الدوام، وهو نوع من التعذيب اسكتلندي المنشأ، عُرف تاريخيًّا بـ “ابتسامة جلاسكو”. كان يقوم به بعض المجرمين لتشويه الأطفال بهدف استخدامهم في التسول أو فقرات ترفيهية في السيرك. بعد تشويهه بسنوات تُرك “جوينبلين” في عمر العشر سنوات في عاصفة ثلجية، لكنه نجا بل وأنقذ فتاة صغيرة عمياء تدعى “ديا” وأمها من العاصفة. التقى ثلاثتهم لاحقًا برحالة يدعى “أورسيس” كان ينظم عروضًا ترفيهية في الكرنفالات. عمل “جوينبلين” مهرجًا، ولاقى نجاحًا وتفاعلاً كبيرين، ونشأت بينه وبين “ديا” علاقة حب. ومع انتشار عروض “جوينبلين” صادف حضور دوقة تدعى “جوسينا” إلى إحدى تلك العروض. اكتشفت “جوسينا” انجذابها الكبير إلى “جوينبلين”، وحاولت إغواءه ولكنه رفض. لاحقًا تعرف البلاط الملكي إلى “جوينبلين”، وعرضت الملكة “آن” عليه الزواج من “جوسينا” واستعادة مكانته النبيلة، ولكن “جوينبلين” نبذ تلك المكانة ورفض عرض الزواج، وعاد إلى حبيبته “ديا” التي تقبلته دون أن تراه.
“الله أغلق عينَّي كي أستطيع أن أرى جوينبلين الحقيقي”.
– ديا حين لمست وجه جوينبلين للمرة الأولى.
انتقلت تلك الرواية إلى شاشة السينما عن طريق المخرج الألماني “بول ليني” في أبريل 1928، وبإنتاج شركة يونيفرسال بتكلفة قياسية حينها؛ بلغت مليون دولار. قام بدور “جوينبلين” الممثل الألماني “كونراد فايت”، الذي كون أداءه وصورته بالابتسامة المشوهة مصدر الإلهام الأول لصناعة أحد أهم وأكثر الشخصيات المؤثرة في تاريخ السينما.
شعر أخضر، دهان وجه أبيض، وابتسامة حمراء مروعة، ذلك المزيج كون تصميم الشخصية التي ستقف ندا أمام بطل مشروع فن القصص المصورة الجديد: مجلة باتمان. تلبس الجنون الثنائي “بوب كين” و”جيري روبنسون” في النزاع على أحقية أي منهما في إثبات أن فكرة تصميم تلك الشخصية عبرت بداخل عقل أحدهما قبل الآخر. سُوِّي الأمر في النهاية باقتسام الحقوق، بالإضافة إلى مشاركة اسم ثالث في الكتابة وهو “بيل فينجر”. في مستهل أبريل 1940 تابع الثلاثي بفخر طرح العدد الأول من المجلة والذي تظهر فيه شخصية الچوكر في الصفحة الرابعة تنظر إلينا من خلف كتفها، داخل حلة بنفسجية، وتظهر بجانبها كلمات:
“مرة أخرى مجرم محترف يجوب شوارع المدينة، مجرم ينسج عن نفسه شبكة من الموت. يترك خلفه ضحاياه المبتلين، يرتدي ابتسامة مهرج مروعة. عرض الموت من الچوكر”.
(في نهاية أبريل من العام نفسه حقق فرانك سيناترا أول نجاح في مسيرته المهنية بأغنية “Polka Dots and Moonbeams”)
منحت الكتابة “جوينبلين” إلى ابنتها السينما. ومنحت السينما من روحها “كونراد فايت” إلى شقيقتها القصص المصورة، وتقبَّلت الشقيقة تلك الهدية بعرفان كبير. بعد ثلاث سنوات من طرح العدد الأول من مجلة باتمان، توفي “كونراد فايت” في الثالث من أبريل عام 1943 في أثناء ممارسة الجولف مع صديقه “آرثر فيلد”. وفي الرابع من أبريل عام 1979 ولد “هيث ليدجر”.
That’s life (that’s life), I tell you I can’t deny it
I thought of quitting, baby, but my heart just ain’t gonna buy it
And if I didn’t think it was worth one single try
I’d jump right on a big bird and then I’d fly
أعادت القصص المصورة شخصية الچوكر إلى السينما والتليفزيون في عام 1966؛ في عملين حملا الاسم نفسه “Batman”، ومنذ تلك المحاولة ظهر الچوكر في أربعة عشر عملاً مقسمة بالتساوي بين السينما والتليفزيون، ظهر فيها جميعا ظلا وعقبة درامية أمام باتمان. رجل ثانٍ كتبت عليه الهزيمة مهما كانت مواهبه. أربع محطات رئيسية كوَّنت ذلك الظهور في السينما، الأولى كضلع من رباعي الشر في الفيلم الأول Batman 1966 وجسَّده “سيزار روميرو” ومن إخراج “ليسلي مانتيسون”، والثانية كشخصية رئيسية استثنائية جسدها “جاك نيكلسون” في Batman 1989 إخراج “تيم بيرتون”، والثالثة حين ارتقى ”هيث ليدجر” بالشخصية إلى ترجيح كفتها بين جميع شخصيات فيلم “كريستوفر نولان” The Dark Knight 2008 قبل أن يرحل تاركا إرثًا صعبًا في معايير النجاح، وثائرًا على قَدَر تعريف الهزيمة، والشر، والرجل الثاني.
صدم رحيل “ليدجر” الجميع من جمهور وصانعي الأفلام، ومنذ ذلك الوقت تضاعف تأثير ذلك الدور الذي أداه ليعيد صياغة رؤى الشخصيات السينمائية. تجارب لا نهائية من إعادة تحليل شخصية الچوكر، دراسات ومقالات نزولاً إلى صور واقتباسات تغرق مواقع التواصل الاجتماعي كحالة عامة في اللاوعي الجمعي يمكن ترجمتها بأنها محاولات يائسة لإعادة “هيث ليدجر” إلى الحياة.
ثمان سنوات مرت، تحول خلالها الچوكر إلى طائفة دينية، وفي أكتوبر 2016 كانت تلك الطائفة على موعد مع “القيامة” بعد استعداد شركة “دي. سي.” لطرح فيلم “Suicide Squad” كتابة وإخراج “ديفيد آير”، بعد أكثر من عام من الترويج الكبير للفيلم الذي ضم مجموعة كبيرة من النجوم على رأسهم “ويل سميث”، “مارجو روبي”، و”جاريد ليتو” الذي سيجسد الچوكر. أكثر من 740 مليون دولار أرباح لم تعكس المستوى الفني المخيب للآمال للفيلم بشكل كبير، وبشكل أكبر لشخصية چوكر “جاريد ليتو” التي تركت طائفتها الدينية تحك رأسها في حيرة بأن الذي ذهب لن يعود!
(*ذكر خاص هنا للفنان “مارك هاميل” الذي أدى صوت شخصية الچوكر في أكثر من 22 عمل مصور بين التليفزيون وألعاب الفيديو)
I’ve been a puppet, a pauper, a pirate, a poet, a pawn and a king
I’ve been up and down and over and out and I know one thing
Each time I find myself layin’ flat on my face
I just pick myself up and get back in the race
“جرِّب أن تكون ساخرًا هذه الأيام مع ثقافة الصحوة تلك. هناك مقالات كتبت عن الأسباب وراء توقف الكوميديا عن العمل. أنا سأقول لك لماذا، لأن كل من يمتلك سخرية لاذعة، قبل أن يتكلم أصبح يفكر ”اللعنة على هذا الهراء، أنا لا أريد الإساءة إليك”، من الصعب الجدال مع ثلاثين مليون شخص على تويتر“.
– “تود فيليبس” ثائرًا بهدوء في حوار مع مجلة “فانيتي فير” موضحا تأثير الصوابية السياسية على كتابة الكوميديا.
مهرج يصنع أفلام الكوميديا، هكذا اختار “تود فيليبس” أن يمارس إبداعه الخاص. بدأ رحلته الفنية بدعابة تركه دراسة السينما في جامعة نيويورك من أجل أن يقوم بها في الواقع. بعض التجارب الوثائقية على مدار سبعة أعوام سبقت تنفيذ أول أفلامه Road Trip عام 2000. وكان تحقيق قرابة 120 مليون دولار لفيلم كوميدي في تلك الفترة من شأنه أن يعطي انطباعًا بأن روح الدعابة التي يمتلكها ذلك المهرج تتحول إلى ذهب. استمر تصاعد “فيليبس” عند محطات مختلفة؛ أهمها التعاون مع “ساشا بارون كوهين” في فيلم 2006 BORAT الذي كتب قصته، ثم ذروة نجاحه المهني بإخراج فيلم The Hangover. جاءت التغيرات السياسية في العالم والمجتمع الأمريكي تحديدًا لتعصف بإنتاج الكوميديا كما أشار “فيليبس” في تصريحه السابق. احترقت أجنحة الكتابة الكوميدية وترك ما تبقى منها ليتعفن في سجن الصوابية السياسية. ورأى “تود” حياته المهنية في منتصف المسافة بين الحافة والهاوية.
استلهمت السينما قوتها من إرثها الروائي من الكتابة. وساعدها الإرث المرئي من التصوير على التطور الكبير لنسج عوالم خيالية في واقع الإنتاج لم يكن ليحدث أبدًا دونه. وعلى الرغم من كل التطور الحادث في تقنيات التصوير تظل الكتابة العامل الأساسي في تحديد جودة العمل. وكان ذلك السبب الذي غفلت أو تغافلت عنه ستوديوهات وصناع الأفلام في العالم وفي هوليوود تحديدًا. فمع رقابة الصوابية السياسية، وتراجع الاستوديوهات عن المغامرة في إنتاج الأفلام، بالإضافة إلى توفر تقنيات إنتاج صورة مبهرة. انكمش الاعتماد على الكتابة لصالح تمدد الصورة. المؤثرات البصرية حول نجم جماهيري أو مجموعة نجوم في قصة اعتيادية آمنة لا تثير الجدل منحت جهات الإنتاج الخلطة الضامنة لاستثماراتها، وأمن على ذلك شباك التذاكر حين استجاب لمثل هذه المناورة، باعثًا بالسينما إلى مصانع التعبئة والتنميط في قوالب معلومة المقادير وردود الفعل. منذ ذلك الحين عاشت السينما كأرملة بقلب مكسور، وفرج جاف.
تابع ستوديو “دي. سي.” تفوق منافسه “مارفل” على مدار عقد كامل في شباك التذاكر والتقييم الفني، ومع محاولات تقديم المنتج نفسه بالخلطة نفسها، استمر تفوق “مارفل” الساحق، حتى قرر المسؤولون في “دي. سي” المخاطرة بإعادة استخدام الكارت الرابح. كانت الدعابة في أن يعتمدوا على “مهرج” من أجل مشروع “چوكر”.
جمعت مرارة خيبة الأمل والتطلع الحالم إلى استحقاق أفضل كل عناصر المشروع الجديد. “دي. سي.” المحبطة من سلسلة الهزائم المتتالية، “تود فيليبس” الذي فقد مساحة القدرة على الكتابة الكوميدية، “واكين فينيكس” الذي لم تشفع له موهبته الكبيرة في أن ينتقل إلى الصف الأول الذي يحتله كثيرون أقل منه موهبة، “الچوكر” كشخصية سينمائية تستحق بطولة مطلقة، والسينما من أجل صناعة فيلم يمنحها روحها من جديد. انتحار جماعي ثمنه الفوز بكل شيء فقط في مساحة تلك الكسور العشرية كاحتمالية ضئيلة للنجاح.
That’s life (that’s life), that’s life and I can’t deny it
Many times I thought of cuttin’ out but my heart won’t buy it
But if there’s nothin’ shakin’ come this here July
I’m gonna roll myself up in a big ball a-and die
أنهى “آرثر فليك” رقصته وجلس أمام المرآة يستكمل استعداده ليومه الكبير، الأخضر الذي يكسي شعره بدا طبيعيًّا كأنه كان هناك طول الوقت، لا يزال صوت “سيناترا” يشدو في أركان الحجرة، يمرر فرشاة الدهان الأبيض على وجهه، واستكمالاً على اللسان، كانت اللحظات الأخيرة من حياة “آرثر” والأولى لميلاد “چوكر”.
لثلاث وتسعين دقيقة قبل ذلك المشهد كان “آرثر فليك” يجلس أمام مرآة في مقر عمله، يستعد ليوم آخر جديد، يقف برداء “مهرج” في الطريق العام، ولكنه كان لا يزال هناك، كان “آرثر” لا يزال تحت ذلك الزي. كنت أنا أيضًا هناك، أنا وهؤلاء الجالسين حولي، ومع مرور الدقائق أصبحنا هو. لم أشعر بتأثير اللكمات والركلات التي تلقيتها في الدقائق الأولى، ولكنها الآن في داخلي ذكرى مؤلمة. أًنهي الدهان الأبيض على وجهي، وأتذكر ذلك الشعور بالخوف والرهبة طول الوقت، لم يساعدني انزوائي على تفادي سيل الإهانات، ولم تشفع لي ابتسامتي في تلقي المزيد من اللكمات. كنت راضيًا بوحدتي لأنها كانت كل ما أملك، وحين خنتها مع سراب البحث عن الرفقة، تقبلتني بأذرع مفتوحة حين عدت خائب الأمل. أيقنت أن الوحدة كانت دائمًا هناك؛ حيث لا يوجد ما نخسره، حيث لا خوف ولا عجز، ليس بعد الآن. تطلعت أمامي إلى المرآة ورأيت الإجابات.
That’s life..
And as funny as it may seem
Some people get their kicks
Stomping on a dream
But I don’t let it get me down
‘Cause this fine old world, it keeps spinnin’ around..
(أضاف المغني “شون جيمس” هذا المقطع الأخير إلى نهاية نسخته الرائعة من الأغنية).