-
من سيمون دي بوفوار (1908- 1986) صاحبة كتاب “الجنس الآخر” التي قالت إن المرء “لا يولد امرأة، بل يصير كذلك”، وحتى جوديث بتلر Judith Butler صاحبة كتاب “مشكلة الجندر”، الذي مر على صدوره اليوم 31 عامًا، رحلة طويلة قطعتها الأبحاث والدراسات النسوية في سبيل الفهم والوعي..
قبل الستينيات من القرن العشرين لم يكن مصطلح الجندر/ النوع الاجتماعي/ الجنوسة، موجودًا بشكله الحالي، وتطلب الأمر ما يزيد عن عشر سنوات من الباحثين ليجعلوه مصطلحًا علميًّا أقرب ما يكون إلى وضوح الدلالة. وقبل ذلك بنحو أربعة عقود، وتحديدًا في دراسات ما بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت دراسات اعتبرت فيما بعد إرهاصات للأبحاث الجندرية.. يختلف مفهوم الجندر عن مفهوم “الجنس” الذي شاع أنه يحدد النوع بيولوجيًّا، سواء أنثى أو ذكرًا، أما الجندر فيشير إلى مجموع الصفات والأدوار الجندرية المنطلقة من النوع، والتي لا قد تتطابق مع جنس الشخص وقت الولادة. وقد يكون اختيارًا شخصيًّا للفرد استجابة لوعيه الخاص بنفسه وحقيقتها، وهو خيار يتعامل مع الفوارق الاجتماعية بين الأجناس، متجاهلاً الفوارق البيولوجية، أي أنه ببساطة إحساس الشخص بنفسه إن كان رجلاً أم امرأة..
صحيح أن الدراسات الخاصة بالعلوم الاجتماعية لا تزال تستخدم المصطلح بالتبادل مع مصطلح الجنس، لكنه صار دالاً، وإن ليس بشكل محدد تمامًا، ولكن حتى الدراسات العربية، التي لا تزال قليلة في هذا المجال، تخلت تدريجيًّا عن مصطلح الجنوسة التي حاولت تكريسه كتعريب للجندر، واعتادت استخدامه باشتقاقاته اللغوية.
جوديث بتلر (24 فبراير 1956)، فيلسوفة أمريكية معاصرة، تهتم بمجالات الفلسفة النسوية، ونظرية النوع والمثلية، والفلسفة السياسية، والأخلاق. وأستاذ الأدب المقارن والبلاغة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ييل عام 1984، وفي أواخر الثمانينيات تقلدت عدد من المناصب، ولها إسهامات في تأثيرات ما بعد البنيوية في النظرية النسوية الغربية حول تحديد ماهية “المصطلحات الافتراضية” للنسوية.
حين صدر كتاب “مشكلة الجندر” في طبعته الأولى، 1990، لم تكن جوديث تتوقع أنه سيحقق هذا الرواج، ولا أنه سيستقطب جمهورًا واسع النطاق مثلما حدث. ولم تكن تعلم بالتأكيد أنه سيُحدِث تدخلاً مؤثرًا في النظرية النسوية، وسيصير بعد فترة قصيرة واحدًا من النصوص التأسيسية لنظرية الكوير queer، وتقول هي عن ذلك “تخطت حياة النص نواياي، وقد حدث ذلك جزئيًّا نتيجة التغيير الذي أنجز في سياقات التلقي.. عندما كتبته، كنت أفهم أنني سأتورط في صراع وتعارض مع سياقات معينة من النظرية النسوية، حتى مع إدراكي أن النص جزء من المذهب النسوي ذاته. كنت بصدد الكتابة ضمن تقليد النقد الذي يسعى إلى إحداث مراجعة نقدية للمفردات الأساسية لحركة التفكير التي ينتمي إليها”. تميِّز جوديث بين نزعة إلى نقد الذات تعد بحياة أكثر ديمقراطية وأكثر شمولاً، وبين نزعة نقدية تسعى إلى تقويضها تمامًا. وهي تدرك أنه من الممكن دومًا إساءة قراءة الأولى كما الثانية، لكنها تأمل ألا يحدث ذلك في حالة كتاب مشكلة الجندر.
لقد توصلت جوديث إلى فكرة أن الأداء، أو ممارسة الجنسية، تمتلك القدرة على زعزعة استقرار الشكل المعتاد للجندر، وذلك بعد أن قرأت ما كتبته جايل روبن (1 أبريل 1949)، المفكرة والكاتبة الأمريكية وصاحبة النظريات في الجنسانية، عن “الاتجار بالنساء”، التي شددت على أن الجنسانية المعيارية من شأنها أن تعزز وأن تقوي الجندر معياريًّا. اختصارًا، ووفقًا لهذا الإطار، يكون أحدهم امرأة، بقدر ما يؤدي وظيفته باعتباره كذلك داخل الإطار الجنسي-الغيري السائد، وأن وضع هذا الإطار موضع تساؤل إنما يعني على الأرجح أن المرء قد خسر إحساسه بموقعه القديم داخل الجندر.
هذا الحوار مع جوديث بتلر، أجرته الباحثة الأمريكية جوليس جليسون ( مؤرخة مهتمة بشؤون الكوير، شاركت في تحرير كتاب “ماركسية الترانس جندر”)،ونشرته صحيفة “الجارديان”البريطانية؛بمناسبة مرور 31 عامًا على صدور كتاب “مشكلة الجندر”، وفيه إجابات جديدة على أسئلة قديمة، في مجال يتقدم خطوة جديدة كل يوم..
لقد مضت 31 عامًا على إصدار كتاب “مشكلة الجندر”، ما الذي كنت تهدفين إلى تحقيقه بهذا الكتاب؟
كان من المفترض أن يكون الكتاب نقدًا لافتراضات الجنس المغاير heterosexual داخل النسوية، لكن اتضح أنه يتعلق أكثر بفئات النوع الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، ما يعنيه أن تكون امرأة لا يظل ثابتًا كما هو من عقد إلى آخر. يمكن لفئة المرأة أن تتغير، ونحن بحاجة إلى هذا التغيير. سياسيًّا، يتطلب تأمين المزيد من الحريات للمرأة، وأن نعيد التفكير في تعريف فئة “النساء”، لتشمل هذه الاحتمالات الجديدة. يمكن أن يتغير المعنى التاريخي للجندر؛ إذ يعاد سن قوانينه أو رفضها أو إعادة صياغتها. لذلك لا ينبغي أن نتفاجأ أو نعارض عندما تتوسع فئة النساء لتشمل النساء المتحولات trans women، وبما أننا نعمل أيضًا على تخيل مستقبل بديل للذكورة، إذ يجب أن نكون مستعدين، بل وحتى سعداء لرؤية ما يفعله الرجال المتحولون جنسيًا بفئة “الرجال”.
لنتحدث عن الفكرة المركزية لـ “مشكلة الجندر” عن “الأدائية”. تظل هذه وجهة نظر مثيرة للجدل حول كيفية عمل الجندر، فما الذي يدور في ذهنك؟
في ذلك الوقت كنت مهتمة بمجموعة من المناقشات في الأكاديمية حول نظرية “أفعال الكلام”. أفعال الكلام “الأدائية” هي النوع الذي يصنع شيئًا ما أو يسعى إلى خلق واقع جديد. على سبيل المثال، عندما يعلن القاضي حكمًا، فإنه ينتج واقعًا جديدًا، وعادة ما يكون لديه السلطة لتحقيق ذلك. لكن هل نقول إن القاضي كلي السلطة؟ أم أن القاضي يستشهد بمجموعة من الاتفاقيات، ويتبع مجموعة من الإجراءات؟ إذا كان الأمر هكذا، فإن القاضي يتذرع بسلطة لا تعبر عنه كشخص، ولكن كسلطة معينة، ويصبح عمله اقتباسًا؛ إذ يكرر بروتوكولاً ثابتًا.
وكيف يرتبط ذلك بالجندر؟
لقد اقترحت منذ أكثر من 30 عامًا أن يستشهد الناس، بوعي أو بغير وعي، بأعراف النوع الاجتماعي عندما يزعمون أنهم يعبرون عن واقعهم الداخلي، أو حتى عندما يقولون إنهم يخلقون أنفسهم من جديد. وبدا لي أنه لا أحد منا يفلت تمامًا من الأعراف الثقافية. وفي الوقت نفسه، لا أحد منا مُحدد، او ملتزم بالكامل بالمعايير الثقافية.. يصبح الجندر إذن نقاشًا وصراعًا وطريقة للتعامل مع القيود التاريخية وصنع حقائق جديدة.. عندما نكون “فتيات”، فإننا نصير فتيات girldom بشكل واقعي، ننتمي للعالم الذي بني على مدار فترة طويلة، عبر سلسلة من الاتفاقيات، المتضاربة أحيانًا، التي تؤسس لوضع الفتاة داخل المجتمع. نحن فقط لا نختاره، وليس مفروضًا علينا.. لكن هذا الواقع الاجتماعي يمكن أن يتغير، بل إنه يتغير بالفعل.
غالبًا ما يتحدث المثليون اليوم عن “تحديد الجنس عند الولادة”.. لكن يبدو أن المعنى الخاص بك هنا مختلف تمامًا؟
الجندر محدِد لا يحدث مرة واحدة فقط، إنه مستمر. يُحدد جنسنا/ نوعنا عند الولادة، ثم يتبع ذلك عدد كبير من التوقعات التي تستمر في “تحديد” الجنس وتأطيره.. والقوى التي تفعل ذلك هي جزء من جهاز للجندر يعين القواعد ويعيد تخصيصها للأجساد، وينظمها اجتماعيًّا، لكنه يحركها أيضًا في اتجاهات تتعارض مع تلك المعايير. وربما يجب أن نفكر في الجندر كشيء مفروض عند الولادة، من خلال تحديد الجنس وجميع الافتراضات الثقافية التي عادة ما تتماشى مع هذا. ومع ذلك، فالجنس هو أيضًا ما يصنع طول الوقت، يمكننا تولي سلطة التحديد، وحصرها في التحديد الذاتي، والتي يمكن أن تشمل إعادة تعيين الجنس على المستويين القانوني والطبي.
أصبحت الجدل حول الهوية مركزيًّا في كثير من سياستنا هذه الأيام. بصفتك شخصًا متشككًا في تصنيفات الهوية المستقرة، كيف ترين ذلك؟
أعتقد أن المسألة المهمة هنا هي كيف نفهم هذه “المركزية”. من وجهة نظري السياسية أن الهوية لا ينبغي أن تكون قوام السياسة.. بل إن التحالف والتضامن شروط أساسية لتوسيع اليسار.. ونحن بحاجة إلى معرفة ما نحارب ضده ومن أجله، والحفاظ على هذا المركزية. ومن الضروري أن نعمل عبر الاختلافات وأن نؤسس رؤى متشابكة للقوى الاجتماعية. الحسابات التي تساعدنا على بناء الروابط بين الفقراء، والضعفاء، والمحرومين، والمثليين وثنائيي الجنس والمتحولين جنسيًا والعاملين بالجنس، وجميع أولئك المعرضين للعنصرية والقهر الاستعماري. وهذه ليست دائمًا مجموعات أو هويات منفصلة، بل هي أشكال متداخلة ومترابطة من القهر التي تعارض العنصرية، وكراهية النساء، وكراهية المثليين، ورهاب المغايرين homophobia، وتستطيع تدمير الرأسمالية كذلك، بما في ذلك تدمير الأرض وأنماط الحياة الأصلية.
تبنى منظرون مثل أسعد حيدر [منظر وباحث، ومؤلف كتاب “الهوية الملتبسة”] نظريتك لمعالجة الانقسامات العرقية في الولايات المتحدة، إذ يؤكد حيدر نظرتك لتشكيل الهوية باعتبارها مضطربة ومقتلعة دائمًا، لكن ألا يسجل اليمين عادة انتصارات من خلال الدفع برؤية أكثر ثباتًا للهوية؟
يسعى اليمينيون بشكل يائس إلى استعادة أشكال الهوية التي تم الطعن عليها وتفكيكها بالفعل. وفي الوقت نفسه، فإنهم يميلون إلى تقليص وحصر الحركات المطالبة بالعدالة العرقية في اعتبارها سياسات “هوية”، أو السخرية من الحركات التي تسعى من أجل الحرية الجنسية أو ضد العنف الجنسي، باعتبارها معنية فقط بـ “الهوية”. وفي الواقع هذه الحركات تهتم، في المقام الأول، بإعادة تعريف ما يمكن وينبغي أن تعنيه العدالة والمساواة والحرية. وبهذه الطريقة، هي ضرورية لأي حركة ديمقراطية راديكالية، لذلك يجب أن نرفض تلك السخرية.
لكن ماذا يعني ذلك لليسار؟ إذا أسسنا وجهات نظرنا على هويات معينة فقط، فأنا لست متأكدة من قدرتنا على فهم تعقيدات عالمنا الاجتماعي والاقتصادي، أو تأسيس نمط للتحليل، أو التحالف المطلوب لتحقيق مُثُل العدالة الراديكالية والمساواة والحرية. في الوقت نفسه، يمكن اعتبار تحديد الهوية وسيلة لتوضيح كيف يجب أن تتغير التحالفات لتكون أكثر استجابة للقمع المترابط.
كثيرًا ما نسمع اليوم عن أهمية الاستماع إلى أولئك الذين لديهم “تجربة معيشية” من الاضطهاد. وقد حذر الفيلسوف السياسي أوليفمي تايو Olúfémi O Táíwò [فيلسوف فرنسي من أصول نيجيرية، 1956-….] من أن النوايا النبيلة لتمييز “اللامركزية” يمكن أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة.
نعم، من المهم الاعتراف بأنه في حين لا يستطيع الشخص الأبيض الادعاء بتمثيل تجربة السود، فإن هذا ليس سببًا لكف يد البيض عن كل الأمور المتعلقة بالعرق، ورفض تدخلهم على الإطلاق. لا يحتاج أحد إلى تمثيل كل تجربة السود من أجل تتبع العنصرية الممنهجة وكشفها ومعارضتها – ودعوة الآخرين إلى فعل الشيء نفسه. وإذا أصبح الأشخاص البيض منشغلين حصريًّا بامتيازاتنا الخاصة، فإننا هكذا نخاطر بأن نقع في فخ الدوران حول ذواتنا. ونحن بالتأكيد لا نحتاج إلى المزيد من الأشخاص البيض الذين يجعلون كل شيء يدور حولهم: هذا فقط يعيد مركزة البيض، ويرفض القيام بأي عمل مناهض للعنصرية.
كيف أثَّرت هويتك الجنسية على نظريتك السياسية؟
أشعر أن “هويتي الجنسية”، أيًا كانت، سلمتها لي عائلتي أولاً، وتلا ذلك مجموعة متنوعة من السلطات المدرسية والطبية. لهذا واجهت بعض الصعوبات لأجد طريقة أحتل بها اللغة المستخدمة لتعريفي والانتصار عليَّ. وما زلت أعتقد أن الضمير يأتيني من الآخرين، وهو ما أجده مثيرًا للاهتمام، لأنني أتلقى نسقًا معينًا منه، لذلك دائمًا ما أتفاجأ وأنبهر، إلى حد ما، عندما يقرر الناس ضمائرهم، أو حتى عندما يسألونني عن الضمائر التي أفضلها. ليس لدي إجابة سهلة، على الرغم من أنني أستمتع بكلمة “هم”. عندما كتبت “مشكلة الجندر”، لم تكن هناك فئة “غير الثنائي” nonbinary، لكنني الآن لا أستطيع إلا أن أكون ضمن هذه الفئة.
كنت غالبًا هدفًا للمتظاهرين في جميع أنحاء العالم. في عام 2014، خرج المتظاهرون المناهضون لزواج المثليين في فرنسا في مسيرة في الشوارع للتنديد بنظرية الجندر الخاصة بكِ، وفي عام 2017، أحرق المتظاهرون المسيحيون الإنجيليون في البرازيل دمية على هيئتك، وهم يهتفون “اذهبي بأيديولوجيتك إلى الجحيم”، ما رأيك في ذلك؟
تصر الحركة الأيديولوجية المناهضة للجندر، وهي حركة عالمية، على أن الجنس مسألة بيولوجية واقعية، أو أن الجنس أمر إلهي، وأن الجنس خيال مدمر، يقضي على “الإنسان” وعلى “الحضارة” وعلى “الله”.. لقد دعم الفاتيكان والكنائس الإنجيلية والرسولية الأكثر تحفظًا في العديد من القارات، السياسات المناهضة للجندر، ودعمها كذلك الليبراليون الجدد في فرنسا، وفي أماكن أخرى، ودعمها أولئك الذين يحتاجون إلى نموذج الأسرة المعيارية المثالية لامتصاص الدمار الناتج عن الرفاه الاجتماعي. هذه الحركة في آن واحد مناهضة للنسوية، وتكره المثليين والمتحولين جنسيا، وتعارض كلاً من الحرية الإنجابية وحقوق المتحولين. وتسعى إلى فرض رقابة على برامج دراسات النوع /الجندر، وإخراج النوع الاجتماعي من التعليم العام، وهو موضوع بالغ الأهمية أن يناقشه الشباب. وتسعى للعودة إلى الوراء بكل النجاحات القانونية والتشريعية الرئيسية في مجال الحرية الجنسية والمساواة بين الجنسين والقوانين المناهضة للتمييز بين الجنسين والعنف الجنسي.
لقد شددت دائمًا على أنك لم تصلي إلى نظرية الجندر الخاص بك من خلال النقاش العلمي فقط، بل حدث بعد سنوات من وجودك ومشاركتك في مجتمعات المثليين والمثليات. ومنذ مطلع التسعينيات أصبحتِ مفكرة مؤثرة بشكل فريد في هذه الدوائر.. كم تغير الأمر منذ أن أعلنتِ عن هويتك؟
أوه! أنا لم أعلن عن هويتي قط.. لقد أعلن عنها والداي منذ كنت في الرابعة عشر، وقد عرِّفتُ لأكثر من 50 عامًا تعريفات متنوعة، باعتباري سحاقية، كوير، متحولة.. لقد تأثرت بالتأكيد بحانات المثليين والسحاقيات التي كنت أتردد عليها كثيرًا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكنت قلقة آنذاك أيضًا من التحديات التي يواجهها ثنائيو الجنس للحصول على القبول المجتمعي. والتقيت بمجموعات من ثنائيي الجنس لفهم طبيعة صراعهم مع المؤسسة الطبية، وفي النهاية توصلت إلى التفكير بعناية أكبر في الفرق بين الدراج والمتحولين جنسياً والجندر بشكل عام. لقد كنت دائمًا منخرطة في مجموعات ناشطة غير أكاديمية، وهذا جزء مستمر من حياتي.
ما نوع القضايا التي تم تناولتها سياسات المثليين والمثليات المتشددين المتشددات قبل ظهور مصطلح “الكوير”؟
كانت التظاهرات في شبابي بالتأكيد تخرج طلبًا للحق في إعلان الهوية، والنضال ضد التمييز والتشخيص المرضي والعنف، سواء في البيوت أو في المجال العام. لقد حاربنا ضد الأمراض النفسية وعواقبها السرطانية. لكننا أيضًا ناضلنا من أجل حق جماعي في أن يعيش المرء جسده في المجال العام دون خوف من العنف، والحق في الحزن علانية على الأرواح والأحباء التي ضاعت. وقد اتخذ هذا النضال شكلاً دراماتيكيًّا للغاية بمجرد أن ظهر فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، وظهور جماعة Act Up [جماعة عنيت بالسيطرة والقضاء على مرض الإيدز، وتحسين المصابين به].
لم يكن “الكوير”، بالنسبة لي، هوية قط، بل كان وسيلة للانتماء إلى الكفاح ضد رهاب المثلية. فقد بدأت كحركة معارضة للرقابة على الهوية، بدأت في الواقع معارضة للشرطة. وركزت هذه الاحتجاجات على حقوق الرعاية الصحية والتعليم والحريات العامة ومناهضة التمييز والعنف.. لقد أردنا أن نعيش في عالم يستطيع فيه المرء أن يتنفس ويتحرك ويحب بسهولة أكبر. لكننا أيضًا تخيلنا وخلقنا أشكالًا جديدة من التقارب والوحدة والتضامن مهما كانت الاختلافات..
نعم ذهبت لتظاهرات المثليات، لكني عملت أيضًا في مجال حقوق الإنسان الدولية، وفهمت ما هي تلك الحدود.. فهمت أن التحالفات الأوسع التي تعارض العنصرية والظلم الاقتصادي والاستعمار كانت ضرورية لأي سياسة كويرية. وها نحن نرى كيف يعمل هذا الآن في مجموعات الماركسية الكويرية، كمجموعة مثليين من أجل العدالة الاقتصادية والعرقية، مثليين ضد الفصل العنصري، ومجموعة “القوس” الفلسطينية ضد كل من الاحتلال ورهاب المثلية.
كيف تقارنين هذا بالحياة السياسية اليوم؟
أنا اليوم أقدِّر حركات الكوير والحركات النسوية التي تكرس نفسها للرعاية الصحية والتعليم كمنافع عامة، فهي حركات مناهضة للرأسمالية، وملتزمة بالنضال من أجل العدالة العرقية، وحقوق أصحاب الاحتياجات الخاصة، والحريات السياسية الفلسطينية، والتي تعارض تدمير الأرض، وحياة السكان الأصليين في بعض المناطق.. وهذا يتضح في أعمال جاسبر بور وسارة أحمد وسيلفيا فيديريتشي وأنجيلا دايفيز.. ويوجد كذلك عمل منظمة Ni Una Menos [“النساء لسن أقل من أحد” حركة نسوية لاتينية، تنتمي للجيل الرابع من الحركة النسوية، بدأت في الأرجنتين ثم انتشرت في بلاد أمريكا اللاتينية]. بالطبع توجد الآن رؤية أوسع، على الرغم من أن هذا وقت يأس كبير، حيث نرى التفاوتات الاقتصادية العالمية تتفاقم في ظل الوباء.
كتب العديد من المنظرين الجندريين عن التأثير المباشر لأعمالك عليهم، بدءًا من حضورك القراءة الشعرية لجوليا سيرانو، والتي تضمنت جملة “اللعنة على جوديث بتلر!”، إلى أفكار جوردي روزنبرج في مقالها المعنون “مشكلة الجندر في عيد الأم”.. ماذا يعني أن تصبحي مشهورة فكريًا بالنسبة لكِ؟
لقد وجدت طريقة للعيش بعيدًا عن اسمي، وأثبت الأيام أنها فعالة للغاية.. أعلم أن العديد من الأشخاص المثليين والمتحولين يشعرون بمشاعر قوية تجاه أسمائهم، وأحترم ذلك.. لكن بقائي، على الأرجح، يعتمد على قدرتي على العيش على مسافة من اسمي.