1
ما هو استثنائي وفاجع في الكارثة هو كونها النقطة التي ينهار فيها التاريخ. واليوم عندما نطرح سؤال المستقبل فإننا لا نقوم بذلك من موقع آخر سوى من موقع الكارثة، أي من موقعنا داخل الفراغ الذي خلفه ذلك الانهيار. لذلك سيحسن الأدب صنعًا إذا حرص على ألا يغيب سؤال الكارثة عن باله عند وقوفه أمام سؤال المستقبل اليوم. ترى ما الذي يمكن أن ننتظره من الأدب إذًا من موقعنا هذا؟ لعل الإجابة الأكثر منطقية هي ألا ننتظر منه أعمالاً تخبرنا عن الكارثة، أو تجعلنا نتخيل مكانًا بديلاً عنها، بل بالأحرى ننتظر منه أعمالا كارثية. لن تكون الكارثة موضوع هذه الأعمال، وإنما ستكون شرط كتابتها. فمهمة الأدب الحقيقية لا تكمن في الإخبار، بقدر ما تكمن في إيجاد شكل لما هو مستعصٍ على التشكل. لكن ما هذه الكتابة الكارثية بالضبط؟ الكتابة الكارثية هي كارثية لأنها نفسها لم تنجُ من الكارثة، فهي لا تراقب من مكان آمن، بل تسير شريدة كل مناطقها الآمنة، وتخاطر بنفسها معرضة إياها لاحتمال الخرس إلى الأبد. هي كتابة تناقض نفسها، وتخضعها دومًا للمراجعة للتأكد من أنها تلمس جذرية الكارثة وكثافتها التاريخية بحساسية كافية. الكتابة الكارثية لن تجعل من الكارثة بقرة مقدسة، ولن تسعى لترميم تصدعاتها، أو غلق الفراغ الذي خلفته وراءها. وإنما ستصل هذه الكتابة الكارثة بباقي كوارث التاريخ. فهي تعرف أن التاريخ لا يتوقف أبدًا عن الانهيار والبدء من جديد مع كل كارثة. تعرف أن التاريخ لا يبدأ كصفحة خالية في كل مرة، وإنما كقفزة تنقل الصراعات التاريخية نفسها إلى مستوى آخر أشد كثافة وتركيزًا.
2
في كتاب شارعٌ ذو اتجاهٍ واحد يكتب فالتر بنيامين عام 1928 قائلا “من بإمكانه أن يحصي إشارات الإنذار التي تملأُ العالم الداخلي لكاتب حقيقي؟ و”الكتابة” لا تعني سوى جعل هذه الإشارات تعمل”. 1 الضرورة التي تحتم عمل الكاتب هي إذن إشارات الإنذار التي لا يكف كيانه عن الاهتزاز لها. فالكاتب لا يكتب بفعل العادة، أو من أجل الإفصاح عن رأيه في قضية ما، بل بسبب ضرورة ملحة تدفعه إليها إشارات الإنذار الداخلية. وما إن يلتقط واحدة حتى يزيح كل ما في يديه جانبا ويهرع إلى العمل. من تدفعه إلى العمل إشارة إنذار لا يجلس وهو واثق مطمئن، بل يجلس وهو مضطرب قلق. تظل الإشارة تطن في رأسه، ويظل هو يعمل كالمحموم، حتى تصبح إشارة الإنذار هي منطق العمل لا مضمونه. في هذا العمل لا يفسر الكاتب الإشارة، ولا يتنبأ فقط بالأخطار التي قد يحملها مستقبلها، بل يجعل إشارات الإنذار تلك “تعمل”. لكن كيف يمكن أن تعمل إشارات إنذار المستقبل تلك بالضبط؟ يقول بنيامين في الفقرة نفسها إنه لا يمكننا تثبيت الحقيقة لرؤيتها، بإمكاننا فقط لمحَها لمحة خاطفة إذا هبّت فزعة، على سبيل المثال بسبب صرخة استغاثة أو إشارة إنذار. إشارات الإنذار تعمل إذًا، كما يرى بنيامين، عندما تنجح في إفزاع الحقيقة، فتهب الأخيرة هاربة من العمل الذي يعكف الكاتب عليه لتخرج إلى الناس. لا تخرج الحقيقة منضبطة ولا مكتملة، كما أنها لا تخرج عليلة أو مشوشة، بل تخرج جميلة في هشاشتها، منتصرة في ضعفها. الحقيقة الأدبية التي حركتها إشارة إنذار الكارثة القادمة لا تخرج بوصفها مثالاً على جنس أدبي بعينه، طوباويًّا كان أم جحيميًّا، وإنما تخرج كجميلة نافرة، حتى العمل الذي فكر فيها لا يكاد يتعرف عليها.
من فقرة نجدة تقنية. كتاب شارع ذو اتجاه واحد. فالتر بنيامين. ترجمة أحمد حسان. دار أزمنة 2007
3
كنا جميعًا منشغلين بتحريك الواقع حركة صغيرة دون أن نعرف نتيجتها. وما أن نضع خطة، ونشرع في تنفيذها حتى نكتشف أن الواقع قد تجاوزها بالفعل. لعل غياب أي تصور للمستقبل عن الثورة كان سبب فشلها، لكنه كان أيضا شرط حدوثها. فالثورة حدثت بعد انهيار كل التصورات الأيديولوجية عن المستقبل. حدثت كمفاجأة، كانزلاق مباغت لطبقات الأرض. لا يعرف أحد متى وكيف حدثت، بل أدرك الجميع فجأة أنها حدثت فانخرط فيها. المستقبل ظهر على الأرجح بعد أن فشلت الثورة وليس قبل ذلك. لكن هل كانت هذه دائمًا وظيفة المستقبل؟ أي أن يأتي بعد أن يخمد كل شيء؟ أن يسدّ الفجوة التي تخلفها الكارثة؟ نحن بحاجة ماسة إلى تاريخٍ لفكرة المستقبل، لنعرف متى بدأت وإلى ماذا انتهت. قد يساعدنا هذا التاريخ لفهم كيف تحول المستقبل في القرن العشرين من فيض لا ينفد إلى صحراء قاحلة. وقد يفسر لنا لماذا ولدت نوستالجيا المستقبل على شكل آلاف المدن الفاضلة والفاسدة التي ملأت الثقافة الشعبية والأفلام الجماهيرية وألعاب الفيديو طول القرن. قد يوضح لنا مثل هذا التاريخ كيف عثرت الرأسمالية في أطوارها الأخيرة على رأس مال جديد في المستقبل، بعدما اكتشفت أن المراهنة على المخاطر المحتملة مربحة، وأن اقتصاد القروض والديون الآجلة يُدرّ المكاسب. فالمستقبل اليوم، بعد نحو قرن من ظهوره كفيض لا ينفد، قد تم تجريفه تماما على يد الرأسمالية، ولم يعد سوى منجم ضخم من الديون. أما إشارات الإنذار التي لا تكف عن الطنين، فقد تم تحييدها من خلال حسابِ نتائجها بدلاً عن جعلها “تعمل”.
4
المستقبل ظل الكارثة الطويل. ما إن تضرب الكارثة حتى تلوح فكرة المستقبل، وما إن يظهر المستقبل حتى ندرك أننا بإزاء كارثة لم نكن نعرف بوجودها. هذا الظل لا يقل عنفًا عن الكارثة نفسها، فهو لا يدخر وسعًا لترميم تصدعات الكارثة وشقوقها مهما كان الثمن. وإذا جاز اعتبار محاورة الجمهورية لأفلاطون هي نقطة البداية التي ينحدر منها تقليد الكتابة الطوباوية القائمة على استشراف المستقبل، فإنه يجدر اعتبار ملاحظتين هامتين. الأولى أن المستقبل لا يظهر في المحاورة باعتباره زمن المدينة الفاضلة. فالمحاورة لا تموضع المدينة الفاضلة في المستقبل، وإنما في العدل. مدينة أفلاطون هي منطق العدل، وليست أبدًا المدينة التي ستتحقق في المستقبل المنشود. والملحوظة الثانية أن المستقبل يظهر فقط في نهاية الكتاب العاشر والأخير من المحاورة عندما يلوح ما يشبه الكارثة، وتحديدًا في قصة إر ابن أرمينيوس الذي يعود من العالم الآخر بعد أن لقي مصرعه في حرب لا يعرف أحد أسبابها، ويروي لمحدثيه ما سيلقوه بعد موتهم. هذا المستقبل الذي يعود منه إرْ ليس زمنًا قادمًا، يفصله عنه عام أو ألف عام، بل هو ظل كارثة كالحرب، وما يرويه إر هو محاولة لسد هذه الفجوة. بعد أن يلقى الجندي إرْ مصرعه في حرب مات فيها الكثيرون، وبعد أن تتراكم جثثُ رفاقه فوقه، يعود مرة أخرى ليثبّت أقدام الباقين ويطمئنهم بأن الأرواح العادلة ستنتصر، ولو بعد حين. لعلّ تقريرَ إرْ ابن أرسينيوس لزملائه الذي يختلط فيه الخيال بالفلسفة هو اللحظة التأسيسية لكل الخطابات القادمة من الفردوس أو الجحيم، وليس حوار سقراط مع محدثيه حول المدينة العادلة. ولعل أيّ تقرير مستقبلي عن الفردوس المنشود أو الجحيم المحدق ينشأ في الأصل عن فجوة مرعبة خلفتها كارثة عاتية، وينحو نحو غلق هذه الفجوة، عبر العودة الرسولية إلى الواقع من أجل الطمأنة أو التحذير.
5
يندر أن نعثر في الأدب العربي على فراديس طوباوية أو كوابيس لاطوباوية. ويكاد يغيب عنه التفكير في المستقبليات بوصفها جنسًا أدبيًّا مستقلاً. عصور الاستعمار الطويلة، أوقات الحروب والاضطرابات، أنظمة الحكم الشمولي التي لا تنتهي، كل ذلك لم ينجح في بلورة ما يشبه اتجاها واضحا لكتابة المدن الفاسدة، أو الدستوبيا، سوى في السنوات الأخيرة. ربما يرجع ذلك إلى أن وظيفة الخيال في تقاليد الكتابة العربية لم تكن هي استشراف المستقبل، وإنما الاتجاه نحو أصل روحي مفقود. أرض الخيال في تلك الكتابة ليست محتجبة عنا زمانيًّا بوصفها تقع في المستقبل، بل هي محتجبة عنا روحيًّا لأن أرواحنا لم ترتقِ بعدُ في معارجها. إنها ليست المكان المنفصل الذي سيتحقق فيه العدل، وإنما هي ذلك الحيز الشفاف من الواقع، الذي يعمل على كسر اغتراب الإنسان، ويعيد انفتاحه على كل ما هو غير مرئي حوله. القصص الخيالية العربية تتلمس روح الواقع عبر رحلات إلى أمكنة متخيلة تقع خارج العالم المادي المحسوس. هذه الرحلات التي تظهر بوضوح في النص الديني، مثل رحلتي الإسراء والمعراج، وجدت تجليها الأبرز في النص الصوفي. فانخطافات الصوفيين وشطحاتهم ورؤاهم كثيرًا ما حملتهم إلى مدن أخرى. مدن تقع وراء البحر أو خلف السماء. هناك مدن مثل جابلقا وجابرصا التي سار فيها السهروردي، وهناك أودية مثل وادي الحيرة ووادي الطلب التي جابها العطار. هناك جزر مثل جزيرة يأجوج ومأجوج، وجزيرة الواق واق. لكن كل هذه الأماكن ليست يوتوبياوات، ولا يمت الخيال فيها إلى المستقبل بأدنى صلة. هذه الأماكن هي تضاريس غير مرئية للواقع نفسِه. وعلى خلاف تقرير إر في محاورة أفلاطون لا تسعى هذه الرحلات لترميم كارثة. هذه الرحلات تكشف تضاريس ينفتح الواقع من خلالها ويعود الإنسان جزءًا من العصف الكوني المحيط به. ولم يبق لهذا الخيال من أثر اليوم سوى في الشعر. فالشعر هو اللا مكان 2 وليس المكان البديل. هو الفجوة التي يشقها الخيال داخل الواقع، فجوة مليئة بالتضاريس، ولا نهائية الكثافة.
يسمي السهروردي أرض الخيال ``ناكُجا أباد``، وتعني بالفارسية أرض اللا مكان. انظر على سبيل المثال
Mundus Imaginalis by Henri Corbin
6
المستقبل لا يمكن أن يكتب. المستقبل يمكن فقط أن يقرأ. هذا ما عرفه العرافون والمنجمون منذ قديم الأزل. فقد فهموا أن المستقبل لم يكتب بعد، وإنما يختفي بين السطور. لذلك تعلموا كيف يقرؤونه في النجوم والأفلاك، وكيف يستطلعونه بين الأرقام والمصادفات. المستقبل هو في الأساس مسألة قراءة لا كتابة. ولا يمكن قراءته سوى هناك حيث لم يكتب بعد. لذا فإن الأدب لا يستطيع أن يكتب المستقبل حتى ولو حاول ذلك، كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يمد القارئ بعمل أصيل قد يستطيع أن يلمح بين سطوره طيف الآتي، أو بالأحرى يستطيع أن يسمع إشارة إنذار تدق بين جنباته. إشارة إنذار تنتظر أن يضعها أحد موضع العمل. الأدب لا يمكنه أن يتخيل المستقبل، ولا أن يشتغل عليه، وإنما يمكنه فحسب أن يسعى لعتقه، وجعله ممكنًا مرة أخرى، بعد أن تم تجريفه، وذلك عبر الاشتغال على الواقع، بكل ما تحمله كلمة الواقع من معاني. فالواقع ليس هو العالم المادي المحسوس فحسب، ولا يقتصر على اللحظة الحاضرة أو الوضع السياسي الراهن، بل يضم في ثناياه عوالم كثيرة متراكبة، ولحظات تاريخية متداخلة. الواقع الذي يعمل عليه الأدب ليس معطى ولا يوجد سلفًا، وإنما يخلق خلقًا عبر محاولات الاشتباك المتعددة معه. والأعمال الأدبية الحقيقة تنبع عن ضرورة ملحة لتحريك الواقع حركة صغيرة، على أمل أن يظهر بُعدٌ جديد لم يكن أحد يراه. ولعل المستقبل يكمن في هذه الحركة الصغيرة.
7
في نص صدر بمناسبة معالجته لمسرحية سوفوكليس المعروفة أنتيجون عام 1948، يكتب برتولد بريشت “إن الانهيار المادي والروحي لبلدنا التعيس والجالب للتعاسة معًا، قد خلق ظمئا ملتبسًا نحو الجديد. على هذا النحو يكثر تشجيع الفنون على أن تجترح الجديد المرة تلو المرة. ولأن هناك بالطبع لَبسا كبيرًا باديًا فيما يخص تعريف القديم والجديد، ولأن الخوف من العودة إلى الماضي يخالط الخوف من الآتي، ولأن الأمة المهزومة لم يعد يُطلب منها إلا تجاوز النازية معنويًّا وروحيًّا، لكل ذلك سيُحسن الفنانون صنعًا إذا لم يستجيبوا بشكل أعمى للاحتفاء بالجديد”. 3 يبدو بريشت هنا متحفظًا حيال رغبة المجتمع الألماني آنذاك في تجاوز خراب الحرب العالمية الثانية والنظر إلى الأمام، ويبدو متشككًا في قبول الدعوة إلى اجتراح الجديد خوفًا من أن تطمئن الأرض. وعوضًا عن ذلك يقدم اقتراحًا بديلاً وهو النظر إلى الخلف، والعودة إلى الوراء. بعد حرب لم تترك حجرًا فوق حجر لا يجد بريشت طريقة أخرى لأخذ مأزق الأمة المهزومة ومخاوفها من الماضي والآتي بجدية سوى العودة إلى المأساة الإغريقية، أي العودة إلى تقليد مسرحي في إعادة العمل على نصوص قديمة. ويقول في نصه المرافق لنص المسرحية إن طريقته في الاستعانة بنص قديم وفق نموذج جديد يشكل “تحدٍ واضح للفنانين في عصر لم يعد يحتفي سوى بالعمل الفني “الأصيل”، و”الفريد”، و”غير المسبوق”. [عصرٌ] لم يعد يطلب سوى ما “لم يسبق له مثيل” “. في مواجهة الإلحاح على تقديم ما هو جديد وقائمٌ بذاته، يقترح بريشت نسقًا شبه جماعي للعمل الفني، وهو العمل على “التقاليد”. لكن كيف يمكن العودة إلى التقاليد في اللحظات المصيرية؟ أليست التقاليد بالية ورجعية؟ ربما كان مصدر عدم انصياع بريشت للمطالب الخاصة بتقديم عمل فريد، هو رغبته في وقاية الجديد من أن يُوظّف لسدّ الفراغ الذي أحدثته الكارثة. بريشت في إرسائه لعلاقة جدلية بين التقاليد والجديد يحمل ملمحًا من الشخصية الهدّامة كما وصفها بنيامين “تقف الشخصية الهدامة في جبهة المتمسكين بالتقاليد. بعضهم يورِّث الأشياء من خلال حفظها وجعلها غير قابلة للمس. وبعضهم الآخر يورِّث المواقف من خلال إذابتها وجعلها قيد التصرف. النوع الثاني هم من يدعون الشخصيات الهدامة”. 4 في مواجهة خراب الكارثة يأخذ بريشت صف الشخصيات الهدامة التي تبني عن طريق الهدم، وتذيب التقاليد لتجعلها قيد التصرف.
Bertold Brecht. Die Antigone des Sophokles. Edition Suhrkamp 1969.
Walter Benjamin. Gesammelte Schriften IV - I. Suhrkamp 1972. Der destrukitve Charakter. P. 396
8
ليس للكتابة من مستقبل سوى القراءة. فالقراءة تحدث في لحظة زمنية تالية لكتابة العمل. لكن زمن القراءة ينطوي على تعقيد مثير، فالعمل لا يصبح عملاً إلا من خلالها، وليس قبلها. العمل الأدبي لا يقف مكتملاً ومكتفيًّا بذاته في انتظار أن تقع عليه يد القارئ، وإنما ينعدم وجوده حتى تُشكّلَه القراءة وتكسبه صفة العمل. زمن القراءة هو المستقبل لأنه الزمن الذي يمكن فيه أن يتحقق العمل بوصفه إمكانية، وليس لأنه يأتي تاليًا للعمل في زمن خطي. أو بدقة أكثر، المستقبل الأدبي الذي تقترحه القراءة هو إمكانية اعتراض مسار الزمن الخطي الذي يرصّ لحظات زمنية وراء بعضها البعض، من خلال إحداث لا تجانس داخله، أي من خلال إدخال غيرية على الحاضر الذي تحدث فيه القراءة، غيرية ممثلة في لحظة الكتابة. أية قراءة حقيقية هي ممارسة تاريخية، يصطدم فيها الحاضر بالماضي. فاللحظة التاريخية لا تعرف بموقعها في إحداثيات زمنية ومكانية، بل بقوة الانقطاع الذي تُحدثه في الزمن الخطي، فهي لحظة لا تجانس زمني، تلمع فيها شرارة ما، ويولد فيها شيء جديد. العمل الأدبي لا يتوجه نحو مستقبل مخيف أو ماضٍ مقدس، وإنما يتجه بكل جوانحه نحو القراءة. والقراءة تبحث دائمًا عن انقطاع في الخط، وإذا لم تعثر عليه أحدثته بنفسها.
*ورقة ألقيت في منتدى مؤسسة آفاق “المستقبل متخيلا” في برلين يونيو 2018