يمكن النظر إلى وقائع ما جرى منذ بضعة أسابيع في مدينة ميت غمر باعتباره خبرًا عاديًّا، مجرد موجة أخرى في تيار الحياة الجاري بلا هوادة. لكن يمكن أيضًا التأمل فيه مليًّا، وحينها ربما يتضح أنه مؤشر على ظواهر أكبر ومعانٍ أعمق مما يبدو للوهلة الأولى، بل ومن يدري؛ فلعل مزيد من التأمل المستبصر يكشف أن الواقعة محل النظر مرآة تعكس بجلاء تاريخ مصر الحديث برمته؛ طموحه الرحيب ومأزقه العتيد..
في ميت غمر؛ المدينة الصغيرة الكائنة بمحافظة الدقهلية، وقع حدث اعتيادي، أو صار اعتياديًا في مصر: تحرش مجموعة من الشباب بفتاة جامعية.. لكن الناجية هذه المرة سارعت بتقديم ببلاغ إلى الشرطة، فأجريت التحريات، وفُحصت الكاميرات، واستجوب الشهود، وضُبط المتهمون.
ماذا في ذلك الحدث المألوف يستدعي النظر أو التفكير؟ لا مفر من عودة خاطفة إلى أوراق التاريخ لتبيان المعنى والمغزى.
في تاريخ مصر الحديث، ليس هناك أكثر محورية ومصيرية من القرن التاسع عشر، عصر الأسئلة الكبرى وجسر التحولات العظمى. على حافته وفدت الحملة الفرنسية بالمدافع والعلماء وصدمة التحرر من الوهم؛ وفي مستهله شرع محمد علي باشا في إنشاء الدولة الحديثة، بالجيش النظامي والدواوين والمطبعة والبعثات التعليمية؛ وفي نهايته رست بوارج الاحتلال البريطاني على شواطئ الإسكندرية. في القرن التاسع عشر، دخل المجتمع المصري إلى العصر الحديث بعد قرون من التخلف الحضاري تحت سبات الحكم العثماني، فانقلبت أحواله فجأة رأسًا على عقب: ولدت هياكل اجتماعية جديدة؛ كالمدارس والوزارات والمحاكم الأهلية والأحزاب السياسية والنقابات المهنية؛ وانبلج(ظهر) البرلمان والدستور والانتخابات؛ وبزغت مفاهيم جديدة مثل الوطن والشعب والمواطن والطبقة (ولاحقًا الديموقراطية والعلمانية)؛ وانبثقت مهن لم تكن معروفة من قبل، مثل المدرس (بعد مزاحمة المدارس الحديثة للكتاتيب)، والصحفي (بعد اختراع الطباعة وصدور الصحف)، والمحامي والقاضي (بعد كسر احتكار المحاكم الشرعية للعملية القضائية).
إذن، بعد قرون طوال من العيش في ظل مجتمع تقليدي مستقر، اجتاحت مصر رياح التحديث العاتية، ودارت دواماتها بالطول والعرض لتلون جميع مناحي الحياة. واستدعى التغيير في البنى المادية المشار إليها آنفًا بدوره تغييرًا في القيم المعنوية والتصورات الذهنية. لكن مصر نجحت بمقدار في الأولى وتعثرت بمقادير في الثانية. ذلك أن التحديث (modernization) الذي هو ابن الحداثة (modernity) إنما هو، في جوهره، اكتشافات علمية وميكنة صناعية ومؤسسات تعليمية وهياكل سياسية، لكنه أيضًا، كتفًا لكتف، قيم ومعانٍ. وقد كان من سمت الحداثة أن تمت ترجمة قيمها الرئيسية، مثل الحرية والعقلانية والفردانية والنقد الذاتي، في صورة قوانين وتشريعات استبدلت بالذنب الديني فلسفة الخطأ والعقوبة. المراد أن التحديث تدرع بالقانون، فصار الأخير البوصلة والمرجع والحكم، ينصاع إليه الجميع بلا جلبة أو ازدراء. وإن عنَّ لأحد أن يعترض على تشريع ما، وهو حق، حدث ذلك من داخل إطار القانون وبآلياته، إما بمحاولة تعديله أو إعادة تفسيره.
الدولة الحديثة والقانون وحرية الفرد هم بيت القصيد في الفارق الشاسع بين المجتمع الحديث والمجتمع التقليدي. ففي المجتمع ما قبل الحديث، عمت السيولة التنظيمية وغابت صرامة القانون من ناحية، وهيمن التحجر الاجتماعي والثقافي من ناحية أخرى. إجمالًا تقلص نطاق الدولة (التي لم تكن حتى حدودها قد رُسمت بدقة)؛ فالسلطة موزعة بين الأمراء وزعماء الطوائف وشيوخ العشائر وكبراء العائلات؛ واستبدل بعقل الفرد عقلية الجماعة؛ وهيمنت على التعاملات مفاهيم التراتبية والطاعة والامتثال لا المساواة والاستقلال والتجديد؛ وصارت التركيبة البطريركية الوصائية السلطوية، بفعل التكرار والاجترار، شعبة من شعب الإيمان يخر لها الجميع سجدا. جملة الحال، لم يكن آنذاك ثمة ذاتية ولا حرية ولا نقد ذاتي. ويمكن عمومًا تلخيص النقلة الحضارية الهائلة على النحو التالي: في المجتمع الحديث تسود المتتابعة الخطية العقل-المصلحة-الدولة-القانون-النقد الذاتي، فيما طغت قديمًا المتوالية الدائرية اللاعقل-العاطفة-الانتماء التقليدي-العرف.
خمسمائة عام حافلة من تاريخ الإنسانية أثبتت أن الحداثة – على علاتها – ليست اختيارًا ولا ترفًا، بل نمط حضاري نفذ سهمه، وسيرورة تاريخية لا بد من استيعابها والاندماج في طياتها. وحتى تتأصل الحضارة الحديثة في مجتمع ما وتنبت من كل زوج بهيج، يجب أن تفرض وجودها كالحقيقة الأولى من بين كل الحقائق، كالمرجعية الأولى من بين كل المرجعيات. وكيما يحدث ذلك، ينبغي أن يترسخ القانون في الأعماق وأن يمتثل له الجميع، سرًّا وجهرًا. ذلك أن ذهاب القانون يعود بالمجتمع أدراج البلبلة الأولى. أما تصور أن الدولة والمجتمع يمكنهما أن يقفا على قدميهما ويحلقا دون القانون، فمحض وهم. تمامًا كما هو محال أن تنطلق سيارة دون إطارات، ولو امتلكت أفضل المحركات وأجهزة الملاحة. ولذلك فإن أفول القانون في العصر الحديث، كمرجعية مجتمعية وقيمة عليا، يعود بالناس إلى ناموس المجتمعات التقليدية؛ حيث يتحيزون لدوائرهم الاجتماعية التقليدية، فهي العزوة والسند، ويأنسون إلى أهوائهم وخطرات قلوبهم، ويوغلون في أنماط سلوكهم ومشاربهم العهيدة، ويرتشفون من كأس التقليد ثمالته.
هذا ما رأيناه متجسدًا في ميت غمر، التي ثارت ثائرتها عقب واقعة التحرش. فبعد أن قامت قوات إنفاذ القانون والنيابة بدورهما في ضبط المتهمين والتحقيق معهم، انفلت لجام الجميع مستخدمين حفنة من الذرائع والحجج الواقعة جملة وتفصيلاً خارج نطاق القانون بل والمناقضة له. فأهالي المتهمين طالبوا بعدم القضاء على “مستقبل أولادهم”، وآخرون كثر ادعوا أن الفتاة “استفزت” الشباب، وأنها ارتدت ملابس “غير لائقة”، ومحامي أحد المتهمين شدد على أننا مجتمع شرقي وأن النساء عليهم “الحفاظ على القيم الأخلاقية والإسلامية” وألا “يتجاوزن حدودهن”، فيما أشار محام آخر إلى أن صور الفتاة على حساباتها الإليكترونية “تغرر” بالشباب “الذين بلغوا للتو”، وجموع من المواطنين أثار حنقهم القبض على المتهمين فانطلقوا يكيلون للفتاة الشتائم والاتهامات. ثم ثار جدال واسع على مواقع التواصل الاجتماعي حول ما إذا كانت ملابس النساء وطريقة كلامهن ومشيهن تبرر التحرش الجنسي أم لا.
على نفس النسق، وقبل واقعة ميت غمر بأسابيع قليلة، كان مدير منطقة آثار سقارة قد صرح أن الصور التي التقطت لإحدى عارضات الأزياء في المنطقة وتم بموجبها تحويلها للنيابة “لا تليق بالحضارة المصرية ولا وضع الآثار”، وأنها تعد “ازدراءً للحضارة المصرية القديمة”. وعن نفس الواقعة، عقب العالم الأثري ووزير الدولة السابق لشؤون الآثار زاهي حواس أن “الفستان غير لائق ولا يليق بهرم عمره 5000 سنة”.
وتصل المفارقة إلى قمة وضوحها في كلمات أمين مساعد أمانة المرأة (عن حزب مستقبل وطن) بمحافظة الدقهلية التي شاركت في حملة الهجوم على الفتاة، حيث كتبت على صفحتها على فيسبوك أن وظيفتها “تهذيب أخلاق” النساء، وأن سبب المشكلة هو “استهتار الفتاة بملابسها المثيرة”، الأمر الذي أدى بشكل مباشر لتحرش الفتيان بها. منبع المفارقة أن هذه المرأة ما كانت لتصل إلى موقعها الحالي إلا بالتحديث، فظهور الأحزاب السياسية وانتشار تعليم الفتيات وسموق(انتشار) مفهوم حقوق المرأة كلها نواتج مباشرة لعملية التحديث، ومع ذلك فإنها استنامت، بالسطح الشعوري أو العمق اللاشعوري، إلى عقلية عصر ما قبل الحداثة وسيادة القانون.
لا شك أن التعثر الذي طال عملية التحديث في بلادنا له أكثر من أب؛ من ناحية، وإذا كانت العملية قد بدأت على يد الدولة، فإن النكوص عنها أيضًا جرى على يد الدولة. بحثًا عن شرعية مفقودة، استمرت الدولة – بالخطاب والممارسة – تبني جسورًا مع التقليد وتحفر خنادقًا مع الحداثة. يستوي في ذلك الإلحاح في الإشارة، عبر العقود، إلى “أخلاق القرية” و”الرئيس المؤمن” و”القائد الأب” و”أهلي وعشيرتي” وقانون العيب وقيم الأسرة، فكلها تعبيرات تشف عما تحتها من منطق لاحداثي. كما تغلغلت في مدونة سلوكها قيم الأبوية والذكورية والزعامة والإكراه والشللية والزبائنية والتوريث والولاء والغضب والثأر. باختصار، باتت “السياسة أقوى من الحداثة” (وهو عنوان كتاب صدر منذ سنوات للباحثة في علم الاجتماع دلال البزري). وعلى العكس من النموذج الأوروبي، غابت اجتماعيًّا الطبقة-القاعدة القادرة على دفع العملية للأمام والدفاع عنها عند الحاجة، واتسم سلوك سدنة مشعل الحداثة من المثقفين بالنخبوية وممالأة السلطة وهجران الواقع بل وحتى خيانة القيم التي يدعون حمايتها من الأساس. وزاد الطين بلة إخفاق الحركة الإسلامية، على اختلاف مشاربها ومسالكها، في التعاطي مع تحدي الحداثة “الدخيلة”، واستنادها بالكلية تقريبًا على منطق وقيم ولغة تجافي منطقها. وما الحديث المكرر عن الخلافة والأمة والجهاد إلا عزفًا على نفس اللحن. وإذ قضى كل إربه وتزاوجت الانتهازية مع العنف مع مزيج متضاد من النزعة التطهيرية والعدمية الأخلاقية، أفضت كل تلك الأوضاع مجتمعة إلى قيام عصر ما يسمى أحيانًا “بالعصور الوسطى الجديدة”.
ثقافيًّا، استحكمت حلقات الجهل، إذ استمرت غلبة الحفظ على الفهم والملاحظة والتجريب، واتسعت شقة الخلاف بين النص والواقع، وزادت سطوة ما رث من التراث بالمقارنة بنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فبعد أن كان طه حسين هو “أبو الحداثة العربية” في الثقافة والنقد، صارت مؤلفات الشيخين متولي الشعراوي وعائض القرني هي الأكثر مبيعًا في مصر والمنطقة العربية. ويُلاحظ في واقعة ميت غمر أن أغلب المدافعين عن المتهمين هم من خريجي الجامعات، بل إن المتهمين أنفسهم طلاب في مدارس وكليات حديثة. هذا التعليم هو أحد الآثار المباشرة للحداثة، لكن كل هؤلاء، كما هو واضح، لم يغن عنهم تعليمهم شيئًا، ولم يدنهم قيد أنملة من روح الحداثة. وفيما انبرى هؤلاء بغضب وارتياع وحمية للتدقيق والتمحيص فيما يلبس النساء في غدوهن ورواحهن، نراهم لاهين غافلين ساهين عن واقع مزرٍ يغلف حياتهم مكانيًا من قمة الهامة حتى أخمص القدم، وزمانيًا من المهد إلى اللحد. هل تنطبق على هذا المقام كلمات الكاتب جلال عامر الدالة حين كتب عن “مجتمع لا يهمه الجائع إلا إذا كان ناخبًا، ولا يهمه العاري إلا إذا كانت إمرأة”؟
ميت غمر ليست بالطبع استثناءً، بل قاعدة، فحالها حال كل المدن المصرية بما فيها القاهرة، بل وكل المدن العربية. والواقع أن الأزمة هنا عميقة ومتعددة المستويات. أولها أزمة أن يوجد في خضم القرن الحادي والعشرين مجتمع لم يدخل العصر الحديث أو يبرح العصر القديم بعد. وثانيها أن يصل التناقض بين الواقع والعقل، بين العمارة الخارجية والبنية الداخلية، إلى درجة أن تكون السيارات والحاسوبات والهواتف الذكية في متناول الجميع، بينما لا يزال العقل يفكر بمنطق قرنين أو أكثر مضيا، أو كما قال نزار قباني: خلاصة القضية، توجز في عبارة، لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. ولذلك استفاض الباحثون في شرح أن الحداثة في البلاد العربية ما هي إلا حداثة خلاسية (أي هجينة) أو ماسخة أو رثة. أما ثالثة الأثافي، وما يزيد من وطأة الإحساس بالأزمة، فهي غياب كل من مقومات الحداثة المادية والمعنوية ولو لمعت ظواهرها، فالعقل الحداثي غائب والمنتوجات الحداثية التي في أيدي الكافة هي من اختراع وصناعة الآخر.. فصل الخطاب أنه ليس في مصر المعاصرة حضارة، بل محض ثقافة أو ثقافات، موسومة بالضعف والهزال.. تلك هي المسألة.